انطوان يزبك
قالها الخليل الفراهيدي منذ 1200 عام تقريبا:
أنست بوحدتي ولزمت بيتي
فطاب الأنس لي ونما السرور
فأدّبني الزمان فلا أبالي
هجرت فلا أزار ولا أزور
ولست بسائل ما دمت حيا
أسار الجيش أم ركب الامير.
هذه حال من آثر العزلة على الاختلاط والبقاء بمفرده من دون الناس والانغماس في الصخب الاجتماعي، ولكن من يتبع هذا السلوك حتما سوف يلسعه النقد بسوطه، من قبل المجتمع. هل هو على صواب أو على خطأ؟
سؤال آخر يطرح: هل تفضّل أن تكون بمفردك بدلًا من أن تكون محاطًا بالناس باستمرار؟
غالبًا ما ترى العلوم النفسية تقول كلمتها في هذه المسألة وقد حسمت رأيها معتبرة أن تفضيل العزلة ليس سوى علامة على الغنى الداخلي.
فبحسب علم النفس، إذا كنت تحب قضاء الوقت بمفردك، مع كتاب جيد أو في نزهة في الطبيعة، بدلًا من الانخراط في الأنشطة الاجتماعية الكثيرة، ربما يتم تصنيفك على أنّك «منعزل» أو «غير اجتماعي».
لكن علم النفس المعاصر يقدّم قراءة مختلفة تمامًا لهذا التفضيل للهدوء والانسحاب.
يميّز الباحثون اليوم بين العزلة المختارة – وهي لحظات انسحاب مفيدة من أجل إعادة شحن الطاقة – والعزلة المفروضة، التي تتّسم غالبًا بالشعور بالرفض أو الوحدة.
في عدة حلقات بودكاست نُشرت من قبل الجمعية الأمريكية لعلم النفس، يشرح العالمان النفسيان ثوي ـ في نغين ونيتا وآينشتاين أن العزلة المخطط لها يمكن أن تخفف من التوتر، وتحسّن في المزاج، كما تقوّي القدرات الإدراكية.
هناك سبع سمات شخصية تظهر كثيرًا لدى أولئك الذين يفضّلون العزلة على الحياة الاجتماعية الصاخبة. وهي لا تعبّر عن عدم الاهتمام بالآخرين، بل على العكس، فعي تشير إلى صفات عميقة تنمو مع الوقت وفي الصمت. وهي على التوالي:
1. ـ الوعي الذاتي المتعمّق:
يطوّر غالبا الأشخاص الذين يسعون باستمرار للحظات من العزلة وضوحًا أكبر في فهمهم لذاتهم.
وهذا يعني أنهم يمتلكون صورة داخلية أكثر استقرارًا وتماسكًا وتعريفًا عن هويتهم الحقيقية.
كشفت دراسة أُجريت على شباب بريطانيين أثناء فترات الحجر المرتبطة بكوفيد ـ 19، أن هذه الفترات كانت بمثابة «مختبرات للذات». فقد سمحت لهم بمراقبة أفكارهم، ومراجعة بعض معتقداتهم، وتطوير نوع من(اللطف الذاتي ).
وعندما يُحرم الشخص من نظرات الآخرين المستمرة، يتوقف عن التكيّف مع توقعاتهم.
وهذا ما يمنحه الوقت لطرح الأسئلة الحقيقية:
«هل هذا المشروع يعبّر عني حقًا؟» أو «لماذا أثّرت فيّ هذه الملاحظة كثيرًا؟»
مع مرور الوقت، تُكوِّن هذه العملية هوية أقوى وأقل تأثرًا بالضغوط الاجتماعية.
2. إبداع متضاعف:
لطالما ارتبطت العزلة بالإبداع فكم من الكتّاب والرسامين المعتزلين إلى العلماء المنغمسين في بحوثهم، يبتكرون الروائع، الصمت يحفّز الخيال فعلا.
من ناحية أخرى، لاحظ العالمان النفسيان لونغ وأفيريل، أن الأشخاص الذين يختارون العزلة يظهرون قدرًا أكبر من الأصالة، والخيال المثمر، والأفكار المبتكرة مقارنةً بأولئك الغارقين في الحياة الاجتماعية.
أما على المستوى العصبي، فتسمح لحظات العزلة للدماغ بالدخول في «وضع الراحة»، مما يسهل الربط غير المتوقع بين الأفكار.
وفي هذا الفراغ الذهني تنشأ ومضات الإلهام والحدس المفاجئ.
3. شعور قوي بالاستقلالية:
تُوضح لنا نظرية التحديد الذاتي، التي وضعها الباحثان إدوارد ديتشي وريتشارد رايان، ثلاث احتياجات نفسيّة أساسية وهي :
الاستقلالية، الكفاءة، والانتماء. وتُغذّي العزلة المختارة بشكل خاص حاجة الاستقلالية.
من المعروف أن الأشخاص الذين يشعرون بالراحة في عزلتهم الخاصة، يتصرّفون عادةً حسب قناعاتهم، بدلًا من الانصياع لتوقعات الآخرين.
ويتّخذون القرارات التي تنسجم مع قيمهم الداخلية، مما يعزز الدافع الحاضر لمدة طويلة.
وهذا يظهر في القدرة على وضع حدود صحية، وأن تكون لدينا الشجاعة كي نقول (لا)دون شعور بالذنب، والاستثمار في مشاريع ذات معنى، بدلًا من تلك التي تُفرض علينا فقط بسبب الحاجة إلى القبول الاجتماعي.
4. مهارات عاطفية مصقولة:
في سلسلة من التجارب، طلب الباحثون ثوي ـ في نغوين، ورايان، وديتشي من بالغين الجلوس مع: «أفكارهم » لمدة 15 دقيقة.
وعلى الرغم من أن هذا التمرين قد يبدو غير مريح للكثيرين، إلا أنّ المشاركين المعتادين على العزلة أظهروا انخفاضًا في المشاعر السلبية مثل القلق أو التوتر.
وبعد التجربة، شعروا عمومًا بمزيد من الهدوء.
استنتج الباحثون أنّ العزلة يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في تنظيم المشاعر.
فبدلًا من التنفيس الخارجي عن مشاعرهم (مثل الشكوى أو التفكير السلبي)، يتّجه من يفضّلون العزلة إلى التحليل الداخلي من خلال المهارات التالية:
يمارسون التأمل، يحللون مشاعرهم، أو يعيدون تفسير الأحداث.
تؤدّي هذه الممارسة المنتظمة إلى تطوير التميّيز العاطفي، أي القدرة على التعرّف بدقة على المشاعر وتسميتها.
وهذا يُترجم، اجتماعيًا، إلى تحكم أكبر بالنفس، خاصة عند تصاعد التوتر.
5. تركيز عميق وحب للإتقان:
بحث «ميهالي تشيكسينتميهالي» عالم النفس المجري ـ الأمريكي، في حالات التركيز الأمثل. ففي كتابه التدفّق: «علم نفس التجربة المثلى»، وصف حالة «التدفّق» بأنها حالة عقليّة من التركيز الشديد، والانخراط التام، والمتعة العميقة التي غالبًا ما تُحقق أثناء الأنشطة المعقدة الفرديّة.
وهو يرى أن هذه اللحظات ضرورية للإبداع، والتعلّم العميق، والإشباع طويل الأمد. لكنها تتطلب الابتعاد عن المشتتات الاجتماعية مثل التنبيهات والمحادثات الجانبية.
يعرف الأشخاص المحبون للعزلة بالفطرة كيف يحافظون على تركيزهم. فهم يخطّطون أوقاتهم لحماية فترات التركيز الطويل، ويصلون بسهولة إلى حالات التدفّق، ويتقدمون بسرعة في عملية اكتساب المهارات.
6. تفضيل جودة العلاقات على كثرتها:
أظهرت دراسة عن مذكرات أشخاص كبار السنّ أن من يفضلون العزلة يشعرون برفاهية أكبر عندما تكون تفاعلاتهم الاجتماعية ذات مغزى، حتى وإن كانت نادرة.
بمعنى آخر، يفضل محبو الهدوء بناء علاقات عميقة مع قلّة مختارة، بدلًا من الحفاظ على علاقات سطحية مع عدد كبير من الأشخاص.
قد يُفهم هذا الانتقاء أحيانًا على أنه برود أو انسحاب، لكنّه في الحقيقة يدلّ على وعي في العلاقات.
هؤلاء الأشخاص يستثمرون طاقتهم في علاقات غنيّة قائمة على الثقة، والإنصات، والتبادل الحقيقي.
وعند تواصلهم، يكونون منتبهين، يطرحون أسئلة ذكية، ويتذكرون التفاصيل المهمة.
وهذا الانتباه يخلق شعورًا حقيقيًا بالاتصال والصدق والاحترام المتبادلين.
7. دافع داخلي ومرونة عالية:
أظهرت أبحاث نُشرت مؤخرًا في مجلة Social and Personality Psychology Compass أن «العزلة الإيجابية» تسمح بالانخراط الكامل في أنشطة تنسجم مع القيم الشخصية – مثل القراءة، والإبداع الفني، والتأمل، والتعلم الذاتي – دون انتظار التصفيق أو الإعجاب.
هذا الانغماس الطوعي يعزز الدافع الداخلي: نتصرف بدافع الشغف الحقيقي أو حبّ التطوّر، لا من أجل نيل الإعجاب وحسب.
ويُعد هذا الدافع الداخلي عاملًا قويًا في الرفاهية على المدى الطويل، ويشكل درعًا ضد الإرهاق والإخفاقات الحتمية.
اختيار قضاء ليلة السبت في قراءة رواية بدلًا من الذهاب إلى مطعم صاخب ونواد مزدحمة لا يجعلك شخصًا غريب الأطوار أوغيراجتماعي فقط، بل يعكس ذلك غالبًا شخصية نفسيًة فريدًة، تحمل قوى داخلية عميقة وصامتة.
أما إذا أردنا تعداد صفات من يفضلون العزلة فنقول التالي:
لهم سمة شخصية وهي الفائدة الأساسية.
الوعي الذاتي لديهم هوهوية واضحة ومتسقة.
يملكون قدرة على الإبداع وإعطاء الأفكار الأصلية والمبتكرة.
يملكون الاستقلالية في القرارات المتجذرة في القيم الشخصية.
يتمتعون بالتنظيم العاطفي والتحكّم بالنفس في المواقف المتوترة.
يمتلكون التركيز العميق والتعلم السريع والخبرة طويلة الأمد.
يمتلكون جودة العلاقات وعلاقات صادقة وعميقة.
لديهم الدافع الداخلي ومرونة في مواجهة التحديات والتزام طويل الأمد.
نصل الى الخلاصة التالية: إن حب العزلة ليس انسحابًا من العالم فحسب، بل هو في حقيقته، تعبير عن نضج نفسي.
ولا يعني الهروب من الحياة الاجتماعية، بل اختيار واعٍ لوتيرة تُنمّي التوازن الداخلي والتأمل والعمق.
لذا، في المرة القادمة التي يسخر فيها أحدهم منك لأنك «اختفيت من المحادثة الجماعية» أو رفضت دعوة صاخبة، تذكّر التالي:
أنت لا تهرب من الحياة… بل تعيشها بطريقة مختلفة.
خذ وقتًا لشرب فنجان من الشاي أو المرطبات مع نفسك، أطفئ الإشعارات في الموبايل ط ، ودع أفكارك تسرح بحرية و هدوء .
ولا تهتم كثيرا لأن علم النفس الحديث يؤيّدك: أنت لا تعزل نفسك… بل تبني ذاتك الداخلية لمقاومة السخافات المحيطة بك .
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :