"إعصار الملح" والقصة الخفية لاختراق شبكات الاتصالات الأميركية

 

Telegram

 

في غرفة مُظلمة، مضاءة فقط بشاشات الكمبيوتر، تتحرك أصابع قراصنة على لوحات مفاتيحهم، يزرعون برمجيات خبيثة تخترق شبكات أميركية حيوية. لم يُسمَع صوت رصاصة، ولم تُشاهَد دبابة، لكن ما يفعلونه كان قادرا على تعطيل الحياة اليومية، بدءا من المستشفيات، وصولا إلى شبكات الكهرباء. بات كل شيء في هذه اللحظة مُعرَّضا للخطر.
 
أطلق الإعلام لاحقا على هذه العملية اسم "إعصار الملح"، كناية عن العاصفة الرقمية التي ضربت أعماق الاتصالات وأجهزة التحكم الأميركية.
في هذه الحرب الخفية، لم يعد التفوق يُقاس بالجنود أو الدبابات، بل بقدرتك على حماية عالمك الرقمي من أي تهديد قد يُغيّر قواعد اللعبة بالكامل.
 
كل ثغرة مُهمَلة هي فرصة للخصم، وكل لحظة تأخير قد تكون الكارثة القادمة. يناقش هذا المقال المترجم من مجلة "فورين أفيرز" بعض الأسئلة المهمة في عصرنا الحالي: كيف يمكن لأي دولة التصدي لهذه الهجمات السيبرانية؟ مَن يمتلك القوة الحقيقية في الفضاء السيبراني؟ والأهم من ذلك، هل من الممكن أن يُحسَم صراع بدون صواريخ أو جنود؟
 
نص الترجمة
رغم أن الشركات الأميركية تتربع على عرش التكنولوجيا عالميا، بدءا من البرمجيات المبتكرة، مرورا بالحوسبة السحابية (وهي تقديم خدمات التخزين والبرامج والمعالجة الحاسوبية وغيرها من الموارد عبر الإنترنت عند الحاجة*)، وصولا إلى الذكاء الاصطناعي ومنتجات الأمن السيبراني، فإنها مع ذلك وقفت عاجزة أمام هجوم سيبراني غير مسبوق.
 
فمنذ ما يقارب ثلاث سنوات، تمكّن قراصنة يُعتقَد أنهم مدعومون من الحكومة الصينية من تحقيق ما عجزت عنه الولايات المتحدة رغم كونها قوة تكنولوجية عظمى، فقد اخترقوا شبكات الاتصالات الأميركية الكبرى ونسخوا المحادثات، وطوَّروا قدرة على تتبع تحركات ضباط الاستخبارات وعناصر الأمن في أرجاء البلاد.
وبوصفها جزءا من حملة تجسس عالمية، أُطلِقَ على هذه العملية "إعصار الملح" (Salt Typhoon)، التي استهدفت شركات الاتصالات، وتغلغل المهاجمون في أنظمة عدد من كبرى الشركات الأميركية حتى أعماقها الخفية، لدرجة أن السلطات الأميركية قد لا تعرف أبدا الحجم الحقيقي لما حصلت عليه الصين من أدوات للتجسس على اتصالاتها.
بالنسبة للصين، لم تكن عملية "إعصار الملح" مجرد انتصار استخباراتي عابر، بل كانت انعكاسا لواقع مُقلق تتكشف ملامحه يوما بعد يوم.
 
فبعد عقود قليلة من الانتشار الواسع للإنترنت، الذي فتح مجالا جديدا للصراع الجيوسياسي، تمضي الصين بخُطى واثقة نحو بسط نفوذها على ساحة المعركة الرقمية، في حين تراجعت الولايات المتحدة عن الصدارة، عاجزة عن تحصين جبهتها الرقمية الداخلية وما يتصل بها من أصول مادية حيوية.
 
وفي زمن يشهد على الفضاء السيبراني الذي يُعَدُّ بلا حدود، تبقى الأراضي الأميركية في قلب المواجهة على الدوام، حيث تتحول المستشفيات، وشبكات الكهرباء، وخطوط الأنابيب، ومحطات معالجة المياه، وأنظمة الاتصالات إلى خطوط دفاع أولى، بينما تظل معظم البنى التحتية الحيوية للولايات المتحدة غير مهيأة لمجابهة هذه المعركة.
 
في حين لا يقتصر تفوق الصين السيبراني على التجسس عبر شبكات الاتصالات فحسب، بل يمتد إلى مجالات أوسع، ليتغلغل في شرايين البنية التحتية الأميركية. فقد عُثر على برمجيات خبيثة صينية مزروعة داخل أنظمة الطاقة، والمياه، وخطوط الأنابيب، ووسائل النقل الأميركية.
 
وما كشفته هذه الاختراقات لا يوحي بجمع معلومات تقليدية، بل يرسم ملامح خطة تخريبية، أُعِدَّت بعناية لتكون سلاحا جاهزا لتعطيل إيقاع الحياة اليومية للأميركيين وشل قدرات الجيش الأميركي.
 
وفي لحظة أزمة قادمة، قد تتحول هذه القدرات الكامنة إلى أدوات لعرقلة حشد القوات الأميركية، وإرباك أنظمة الملاحة الجوية، وإغراق المدن في ظلام متسلسل. وحتى دون شن هجوم مباشر، سيكون مجرد وجود هذه البرمجيات كافيا لزرع هاجس التعطيل في الوجدان الأميركي، فيجعل الخطر ماثلا في قلب الولايات المتحدة.
 
إن قدرة هجوم "إعصار الملح" على تحقيق هذا المستوى الواسع من الاختراق يعود جزئيا إلى التفاوت الجوهري بين أسلوب بكين في حماية فضائها السيبراني ونهج واشنطن في إدارة أمنها الرقمي. ففي حين يعتمد الأول على منظومة مراقبة شاملة، يقوم الثاني على إطار يحد من هذا النوع من الرقابة، وهو ما يمنح بكين حرية أكبر في تنفيذ عمليات هجومية، مع خشية أقل من الانتقام الأميركي.
 
إضافة إلى ذلك، تُدار البنية التحتية الحيوية في الولايات المتحدة من قِبل جهات خاصة متعددة، مع إشراف حكومي محدود دون تدخل مباشر، الأمر الذي يجعل حجم استثمار هذه الجهات في الأمن السيبراني بحسب مصالحها التجارية.
 
وبالتالي، يصعب التأكد قطعا من إزالة المهاجمين من الشبكات أو الأنظمة عند اكتشافهم، وحتى في الحالات التي يبدو فيها أنهم أُزيلوا بالفعل، يظل احتمال عودتهم قائما بقوة.
 
في السياق ذاته، تُمثِّل العمليات السيبرانية الصينية اليوم أكبر تحدٍّ أمام قدرات الولايات المتحدة الدفاعية في الفضاء السيبراني، لكنها ليست الخطر الوحيد. فالثغرات التي تنخر شبكات البنية التحتية جعلت الولايات المتحدة فريسة سهلة لخصوم آخرين.
 
خلال السنوات القليلة الماضية، نفَّذت روسيا وإيران هجمات عطّلت من خلالها عمل أنظمة المياه في عدة ولايات أميركية، بينما عبث قراصنة روس بمئات المستشفيات، ناشرين الفوضى في قلب المرافق الحيوية.
وفي مواجهة هذا المشهد المُلبّد بالمخاطر، تبدو الحاجة ملحّة إلى أن تتحرك واشنطن بخطوات أوسع لحماية شرايينها الرقمية وردع الهجمات الصينية، لأن ثورة الذكاء الاصطناعي قد تُفاقِم مواطن الضعف الأميركية ما لم يسارع صناع القرار إلى رسم إستراتيجية جديدة تُواكب إيقاع العصر.
 
وبالتالي، على واشنطن وضع سياسة ردع سيبراني جديدة تقوم على أن الدفاع القوي يتيح هجوما فعالا، مستفيدةً من الذكاء الاصطناعي لرسم نموذج لبنيتها التحتية، ورصد الثغرات وإصلاحها، مع ضمان امتلاك قدرات هجومية لردع الصين، وتوضيح أن زرع قدرات مسبقة في بنية تحتية محددة هو خط أحمر، مع إظهار القدرة على الرد.
 
على المنوال ذاته، يمكن للولايات المتحدة أن تنتقل من إستراتيجية سيبرانية متعثرة إلى سياسة ردع استباقية إذا ما طوّرت دفاعات تعتمد على الذكاء الاصطناعي، واستثمرت بذكاء في قدراتها الهجومية.
مع تصاعد التوترات الرقمية على الساحة العالمية، استغلت الصين الثغرات في الدفاع السيبراني الأميركي لتطوير قدراتها الهجومية دون خشية كبيرة من الانتقام. فاستثمرت بكين في هذا المجال، وأنشأت برامج باتت تُضاهي مثيلاتها الأميركية من حيث التعقيد والحجم.
 
وقد أَدرجت الصين هذه القدرات ضمن إستراتيجيتها العسكرية الأوسع، المعروفة بـ"الدفاع النشط"، المبنية على مبدأ يشير إلى أن أفضل وسيلة للدفاع هي توجيه الضربة أولا لإحباط أي تحرك محتمل للخصم.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram