تعتبر حبيبات البلاستيك الصناعية المعروفة باسم "دموع حوريات البحر"، ثاني أكبر مصدر لتلوث الميكروبلاستيك في العالم. في حين تدخل مرحلتها النهائية، ولم يتمكن المشاركون في مفاوضات الأمم المتحدة الهادفة إلى تقليل التلوث البلاستيكي في جنيف من الوصول إلى إتفاق عالمي بهذا الشأن. من جهة أخرى، يرى الخبراء أن الجهود المبذولة لكبح انتشارها قد تكون غير كافية.
حبيبات بلاستيكية صغيرة، تُعرف باسم "دموع حورية البحر"، تركتها الأمواج على شواطئ بروتاني في فرنسا في كانون الثاني/يناير 2023. © أ ف ب/ أرشيف
"دموع حوريات البحر" هي حبيبات بلاستيكية صغيرة، تعد ثاني أكبر مصدر للتلوث بالميكروبلاستيك في العالم. بذلت جهود دبلوماسية للحد من هذا التحدي البيئي، ولكن في شهر آب/أغسطس، وبعد قضاء 10 أيام من المفاوضات المكثفة، فإن الدول الـ185 التي اجتمعت في جنيف حتى ليل الخميس - الجمعة، قد فشلت في الوصول إلى إتمام معاهدة عالمية لمكافحة التلوث.
وقعت حادثة قبل عامين، لا تزال آثارها البيئية الكارثية واضحة للعيان على الساحل الأطلسي في شمال غرب فرنسا. ففي كانون الثاني/يناير 2023، جرفت موجات من الحبيبات البلاستيكية الصغيرة بحجم حبة عدس إلى السواحل في بروتاني ولوار أتلانتيك، وصلت أعدادها إلى مئات الآلاف، ما وصفه وزير الانتقال البيئي الفرنسي آنذاك، كريستوف بيشو، بأنه "كابوس".
كان يُشتبه في أن هذه الحبيبات الصغيرة جاءت من حاوية بحرية فقدت في المحيط الأطلسي. وفي محاولة لتحديد المسؤول، تم تقديم شكوى قانونية، لكنها أُغلقت بسرعة لعدم تقديم أي سفينة بلاغا عن حادث من هذا النوع بالقرب من السواحل الفرنسية في تلك الفترة.
لم تُفلح جهود المتطوعين المستمرة لتنظيف الساحل المليء بهذه الحبيبات الصغيرة آنذاك، إذ وُجدت حبيبات أخرى خلال العواصف الشتوية التي ضربت المنطقة في بداية العام، وفقا لاتحاد حماية السواحل "فيجيبول".
تُعرف هذه الحبيبات باسم "دموع حوريات البحر" أو اختصارا "جي بي إي" أو حبيبات البلاستيك الصناعية، وهي المادة الخام التي تُستخدم في تصنيع مجموعة متنوعة من المنتجات البلاستيكية مثل الزجاجات، الأقلام، وحتى ممتصات الصدمات في السيارات. تُصنع هذه الحبيبات من مشتقات النفط الخام مثل النفطة (أو النفثا)، ويبلغ حجمها حوالي 2 إلى 5 مليمترات، وإذا ما انتشرت في البيئة، يمكن أن تسبب أضرارا لا يمكن إصلاحها للحياة البرية والأنظمة البيئية.
ومن المؤكد أن هذه الأضرار هي ما دفع بها إلى أن تكون جزءًا من مفاوضات هذا الأسبوع التي تهدف إلى إتمام معاهدة عالمية لمكافحة التلوث البلاستيكي. ومنذ 5 آب/أغسطس، حاول مندوبو 185 دولة التوصل إلى اتفاق في مقر الأمم المتحدة في جنيف. ولكن بعد اجتماعات دامت أكثر من 10 أيام، باءت كل هذه المحاولات بالفشل.
متطوع يجمع حبيبات بلاستيكية على شاطئ في بروتاني بعد أن جرفتها المياه إلى الشاطئ في كانون الثاني/يناير 2023.
متطوع يجمع حبيبات بلاستيكية على شاطئ في بروتاني بعد أن جرفتها المياه إلى الشاطئ في كانون الثاني/يناير 2023. أ ف ب/ أرشيف
كوكتيل كيميائي
الميكروبلاستيك يشكل تهديدا خطيرا لصحة الإنسان. هذه الحبيبات تتراكم بشكل رئيسي في البحار والمحيطات حيث تضر بالنظم البيئية، لكنها قد تلوث اليابسة أيضا. ونظرا لأنها غير قابلة للتحلل العضوي، فغالبا ما تبتلعها الحيوانات مثل القشريات والأسماك، والتي نستهلكها نحن في نهاية المطاف.
أظهرت الأبحاث أن الميكروبلاستيك عند الإنسان يشكل عوامل خطر لأمراض القلب والأوعية الدموية، وقد تؤدي للإصابة بالسكتات الدماغية أو النوبات القلبية. وهي منتشرة إلى درجة أنه تم العثور عليها حتى في حليب الأم، والسائل المنوي، والدماغ، ونخاع العظام.
وفقا للمفوضية الأوروبية، تشكل الحبيبات البلاستيكية الصناعية ثالث أكبر مصدر لتلوث الميكروبلاستيك في الاتحاد الأوروبي، والثاني عالميا. وتقدر المفوضية أن ما يصل إلى 184,000 طن من هذه الحبيبات تصل إلى البيئة الخارجية سنويا.
تعمل هذه الحبيبات الصغيرة، مثل معظم أنواع البلاستيك، كإسفنج يمتص المواد السامة والبكتيريا الموجودة في بيئتها. يمكنها جذب المواد الكيميائية التي تُعرف بـ"الدائمة" مثل "بي سي بي" (ثنائي الفينيل متعدد الكلور) و "بي إف آ" (مادة معروفة باسم التيفلون وتستخدم لصناعة أدوات الطبخ)، كما يمكن لها أن تنقل البكتيريا الضارة مثل "إي. كولاي".
تشرح فريديريك مونغودان، المسؤولة عن السياسات المتعلقة بالنفايات البحرية في منظمة "سيز آت ريسك" الأوروبية، أن "التلوث الكيميائي يميل إلى الالتصاق بسطح هذه الحبيبات، وبالتالي فهي ليست مصدر تلويث في حد ذاتها وحسب، بل تحتوي أيضا على ملوثات بيئية أخرى تحيط بها، ما يجعلها تتحول إلى نوع من الكوكتيل الكيميائي".
عندما تُطرح هذه الحبيبات في البيئة، يصبح تنظيفها صعبا، ولا توجد تقنية فعالة لجمعها على نطاق واسع من السواحل والشواطئ. معظم عمليات التنظيف تحتاج إلى أدوات كالمجارف، أو المكانس الكهربائية، أو حتى الغرابيل لعزل الكريات الصغيرة جدا عن محيطها.
جدير بالذكر أن معظم عمليات التنظيف لا تتم بسرعة كافية، كما تضيف فريديريك مونغودان. يمكن للحبيبات التي تُطرح في الطبيعة أن تنتشر خلال دقائق قليلة، وخاصة إذا تم تفريغها في البيئة البحرية. وبفضل ميلها إلى أن تطفو، فيمكنها أن تقطع مسافات طويلة عبر المحيطات والبحار.
مواقع التصنيع ومناطق التحميل
حدث أسوأ تسرب لحبيبات البلاستيك الصناعية في عام 2021، عندما اندلع حريق على متن سفينة شحن تحمل حاويات مليئة بالمواد الكيميائية السامة والمليارات من الحبيبات البلاستيكية قبالة سواحل سريلانكا.
في نهاية تموز/يوليو قال الناشط البيئي موديثا كاتوافالا: "كان الأمر مثل فيلم حربي"، متحدثا عن مشاركته في عملية التنظيف لطبقة كثيفة من هذه الحبيبات التي تغطي الساحل، والتي تشبه "الثلج"، مضيفا أن أسماكا ماتت وشوهدت على الشاطئ، وكانت بعض الحبيبات عالقة في خياشيمها.
أصبحت كارثة سفينة إكس – براس بيرل أكبر تسرب للبلاستيك في التاريخ. وبعد أربع سنوات، لا يزال المتطوعون يغربلون رمال الشواطئ في الجزيرة ويجدون عددا لا يحصى من الحبيبات.
على الرغم من أن التسربات الضخمة مثل هذه تجذب اهتمام وسائل الإعلام بشكل أكبر، إلا أن المعهد الفرنسي للبحوث "سيدري" قد لاحظ أن المخاطر الأكبر للتسرب تكون على طول المواقع الصناعية وفي مناطق التحميل والتعبئة أو التخزين – حيث غالباً ما تُعبأ الحبيبات البلاستيكية الصناعية في أكياس وزنها 25 كغ يحتوي كل منها على نحو مليون حبيبة.
توضح فريديريك مونغودان: "حتى إذا حدثت حوادث أثناء النقل، فإن ذلك ليس السبب الرئيسي لتلوث الحبيبات". "في مواقع الإنتاج، تُخزن الحبيبات في الهواء الطلق. لا شيء يمنعها من التطاير إذا تمزق كيس منها. ولأن الأكياس التي تحفظ فيها رقيقة جدا وتتمزق بسهولة، فإن هذا يحدث كثيرًا. تُنقل الأكياس بواسطة رافعات شوكية، على سبيل المثال، والتي قد تتسبب في ثقبها عن طريق الخطأ.
فقدان هذه الحبيبات يحدث في كل مرحلة من مراحل سلسلة التصنيع، من الإنتاج إلى إعادة التدوير، مرورا بالتخزين والنقل والمعالجة. تقوم شركات البتروكيماويات مثل داو، وإكسون موبيل، وتوتال إينرجي، وشل بتصنيعها قبل شحنها إلى الخارج، في الغالب عن طريق الشحن البحري أو القطارات.
بشكل إجمالي، يتم إنتاج ما بين 300 و400 مليون طن سنويا على مستوى العالم، وفقا لـ"سيدر".
لا وجود للوائح دولية
فرنسا من الدول الرائدة في الوقاية من تسرب الحبيبات البلاستيكية الصناعية. تم تبني قانون مكافحة الهدر في عام 2022، ليكون المنتجون الآن ملزمين باعتماد بعض اللوائح لمنع أي تسرب، مثل تركيب فلاتر في المجاري، والتأكد من إزالة الحبيبات من مواقف السيارات، وتركيب أغطية حول المواقع الصناعية، وأيضا ختم شاحنات النقل.
هذا القانون ألهم الاتحاد الأوروبي الذي يقوم حاليا بوضع مجموعته الخاصة من اللوائح التي ستُطبق خلال العامين القادمين.
قالت فريديريك مونغودان: "الآن بعد تبني اللوائح الأوروبية، نأمل في رؤية تغييرات، لكن هذا سيستغرق وقتا". وأضافت: "وللأسف، بعض الحلول البسيطة، مثل تعزيز صلابة العبوات، لم تُعتمد في التشريع الأوروبي.
في شباط/فبراير 2024 نشرت شركة النقل البحري "إيمو" إرشادات حول كيفية نقل هذه الحبيبات بأمان عن طريق البحر، بالإضافة إلى توصيات للتنظيف في حالة حدوث تسرب. واعتبارا من عام 2026، ستلزم المنظمة قادة السفن بإبلاغ الدولة الساحلية الأقرب والبلد الذي تم تسجيل سفينتهم فيه عن الحوادث المتعلقة بالحاويات.
ولكن في الوقت الحالي، لا توجد أية تنظيمات دولية تتعامل خصيصا مع تلوث البلاستيك الناجم عن الحبيبات البلاستيكية. وهذا ما يجعل مفاوضات الأمم المتحدة أكثر أهمية.
الوقاية خير من العلاج
ليزا باستور، مسؤولة المناصرة في منظمة حماية المحيطات "سيرفرايدر فاونديشن يوروب"، تابعت المفاوضات في جنيف بقلق منذ بدايتها قبل أكثر من أسبوع.
توضح: "أفضل نهج لمكافحة الحبيبات البلاستيكية هو اتخاذ تدابير وقائية، وهذا يشمل أيضا تدريب العاملين على أفضل الممارسات وتعليمهم كيفية الإبلاغ عن أي حادث حتى تُمكِن متابعته بسرعة، مما يقلل من التلوث بمجرد وقوع الضرر".
وتضيف: "وهذا أمر حاسم على المستوى الدولي، لأن التلوث لا يعرف حدودا. إذا حدث تسرب في بلد ما، فستكون له تأثيرات في بلد آخر". لكن المفاوضات باءت بالفشل.
تقول ليزا باستور: "هناك كثير من جماعات الضغط لصناعة البتروكيماويات هنا في جنيف. بعضهم حاضر حتى ضمن الوفود الوطنية".
وأضافت: "إذا لم تتناول المعاهدة موضوع الإنتاج وبكل صراحة، فلن تكون كافية للقيام بالمهمة. لا يمكننا التركيز فقط على كيفية الإبلاغ عن التسربات، أو إدارة التلوث القائم، أو عمليات التنظيف. هذا غير كافٍ.
بعد أن تضاعفت بين عامي 2000 و2019، من المتوقع أن تستمر إنتاجية البلاستيك في الزيادة. تقدر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE) أن الإنتاج العالمي سيزيد بنسبة 70% مقارنة بمستويات عام 2020 بحلول عام 2040. ومع توقع أن تتضاعف كمية النفايات البلاستيكية ثلاث مرات على مستوى العالم بحلول عام 2060، فإن الوقت أصبح ضيقا.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :