يسلّط طرح «عقد الزواج لمدة خمس سنوات القابل للتجديد»، المنصوص عليه في اقتراح القانون الموحّد للأحوال الشخصية، الذي قدّمه النائب إلياس جرادة، الضوء على وجهة النظر التي تؤمن بفشل مؤسسة الزواج التي تقوم بشكل أساسي على الاستمرارية، ربطاً بارتفاع نسب الطلاق والتفكك الذي تعاني منه أعداد غير قليلة من الأسر.
«اللي عم يطلقوا صاروا أكتر من اللي عم يتزوجوا»، نكتة منتشرة على ألسن الناس، للإشارة إلى الزيادات المهولة في حوادث الطلاق، وهي باتت أقرب إلى الواقع بعدما «سجّل الطلاق فعلياً نتائج مقلقة، بمعدّل حادثة طلاق واحدة مقابل ثلاث حوادث زواج في بعض المناطق، وفي أحسن الأحوال مقابل أربع زيجات»، كما يقول منسّق مختبر الديموغرافيا في الجامعة اللبنانية شوقي عطية.
ولا يخفى على أحد من المتابعين السيل الجارف من الطلاق الذي «يزيد من سنة إلى أخرى، وحتى من شهر إلى آخر، ويستهدف بشكل أساسي الفئات العمرية الصغرى أو بمعنى آخر الزيجات الجديدة»، بحسب المحامي حسين رمضان المختصّ بقضايا التفريق والطلاق. يحاول المتابعون فهم ما الذي استجدّ والذي يفكّك الأسر بهذا الشكل. فهل هي الظروف الصعبة أم أنها قناعات جديدة حول الارتباط والانفصال؟
ارتفاع جنوني في نسب الطلاق
وفق أعداد معاملات الزواج والطلاق التي تصدر دورياً عن دائرة الإحصاء في المديرية العامة للأحوال الشخصية، ارتفعت نسب الطلاق ارتفاعاً جنونياً من حوالى 15% عام 2009 إلى ما يقارب 28% عام 2023. وتركّز الارتفاع في السنوات الخمس الأخيرة، إذ ازدادت نسب الطلاق من 20% عام 2019 إلى 23% عام 2020، ثم 26.5% عام 2022، وصولاً إلى 28% عام 2023.
اللافت كان تراجع نسب الطلاق عام 2024 إلى 26.9%، وهو تراجع «غير دقيق»، يعيده عطية إلى «الأوضاع الاستثنائية آنذاك، التي أدّت إلى التوقّف عن تسجيل المعاملات، خاصة عقب العدوان الإسرئيلي في أيلول الماضي، وما يؤكد هذه الفرضية أنه لم يُسجّل ارتفاع في معدلات الوفيات في أقضية صور ومرجعيون والنبطية وغيرها من المناطق التي سجّلت فعلياً سقوط آلاف الشهداء».
ويلفت عطية إلى «ظاهرة لافتة هي زيادة الطلاق في الأقضية المسيحية، فلدى المسلمين الطلاق هو أبغض الحلال لكنه متاح وبشروط سهلة نسبياً، أما عند الطائفة المارونية مثلاً فتُعدّ شروط الطلاق شبه تعجيزية، وهناك انفصال قبل الطلاق رسمياً، ما يحتّم البقاء ثماني سنوات قبل الزواج ثانيةً. ورغم ذلك تزيد نسب الطلاق بين الموارنة، كما في كسروان حيث زاد الطلاق بنسبة 80% منذ عام 2009 إلى اليوم».
لماذا يطلّقون؟
مما لا شك فيه، أثّر تردّي الأوضاع في البلاد في السنوات الأخيرة والضغوطات الناجمة عنه على استقرار العائلات، من انتشار جائحة كورونا، مروراً بانفجار مرفأ بيروت، إلى الأزمة الاقتصادية، والعدوان الإسرائيلي المستمر. لكن، هذه الأزمات العامة لا تعدو كونها أسباباً غير مباشرة، بحسب المتابعين، وهي «ما كانت وحدها لتودي بمؤسسة الزواج لو لم يكن هناك خلل في أساس هذه المؤسسة، خلل جعلها هشّة أمام أي عاصفة، أو ربما منعطف بسيط». ويشير المحامي رمضان إلى «أن عدداً لا يستهان به من دعاوى الطلاق يقوم على أسباب بسيطة وأحياناً تافهة وسطحية».
الثابت في ظاهرة الطلاق هو تحرّرها إلى حدّ بعيد من الوصمة التي لطالما التصقت بالمرأة المطلّقة، نتيجة الانفتاح والخطاب الحقوقي المناصر للمرأة، إضافة إلى ارتفاع عدد حالات الطلاق وتحوّله إلى «أمر عادي». وهذا من جهة ساعد العديد من النساء على وضع حدّ لعلاقات زوجية مؤذية، لكنه من جهة ثانية أخذ منحى سلبياً يرتبط باستسهال الطلاق والتشجيع على الانفصال من دون أي دعوة إلى التحمل والتضحية. وللباحثة في المجال التربوي والاجتماعي فاطمة نصرالله فلسفة خاصة حيال استسهال الطلاق.
برأيها هو «مسار ومنهجية تفكير عند الزوجين، يبدأ من الاستسهال في اختيار الشريك والشروط الموضوعة بشأن الزواج». في الإطار نفسه يروي رمضان عن «علاقات زوجية بدأت بفترة تعارف سريعة وبطريقة سطحية عبر السوشال الميديا قبل دراسة قرار الزواج بشكل كافٍ أو وضع خطة للحياة الزوجية، ثم يكتشف الشريكان بعضهما وماهية الحياة العائلية وليس الأفلاطونية كما رسماها، وعندها تقع الصدمة ويصل الزوجان إلى طريق مسدود».
رغم شروط الطلاق شبه التعجيزية لدى الطائفة المارونية، زاد الطلاق في كسروان 80% منذ عام 2009
وتفشّي الطلاق بهذا الشكل في الآونة الأخيرة لا بدّ أن يرتبط بما هو مستجدّ في المجتمع اللبناني. أصابع الاتهام بأغلبها تتوجّه إلى «الانفتاح المعرفي». وتشرح نصرالله أكثر بالتوقف عند «تأثر الشباب، ولا سيما حديثي الزواج، بالأفكار الوافدة التي لا تنسجم مع الواقع الاجتماعي اللبناني، والثقافات الغربية والمفاهيم الجديدة خارج حدود المنظومة الفكرية والاجتماعية والعقائدية. لذلك نجد أن نسب الطلاق أعلى خلال سنوات الزواج الخمس الأولى». ومن بين هذه الأفكار «تلميع صورة حياة العزوبية والحرية التي يعيشها الفرد خارج حدود «الخناق» المُسمى بالزواج».
وكثيراً ما يكون عمل المرأة واكتفاؤها مادياً دافعاً قوياً للانفصال، علماً أن المرأة لم تدخل حديثاً ميدان العمل وعملت سابقاً في الزراعة وتربية الماشية وكانت تهتم بالأعمال المنزلية، وإن اختلف اليوم حجم انخراطها في ميدان العمل ونوع المهن والمناصب التي تتبوّؤها. وعليه، «ليس عمل المرأة هو السبب المباشر للانفصال، لكن استجدّت أعمال جديدة يمكن أن تكون في طبيعتها وما تتطلبه دافعاً للمشاكل الأسرية، كما يكون عمل المرأة سبباً للطلاق إذا ترافق مع منهجية تفكير معيّنة حول الأولويات والاستعداد لتحمل المسؤوليات الأسرية».
تنظيم الزواج هو الحلّ
إذا كان الطلاق مردّه إلى عدم الاستعداد للزواج والجهل بماهيته ومسؤولياته، يجب إعادة النظر إذاً في تنظيم عقود الزواج للحدّ من الطلاق والفاتورة التي تدفعها الأسر والمجتمع نفسياً واجتماعياً وسلوكياً وحتى صحياً واقتصادياً. في هذا الإطار، يطرح رمضان «وضع شروط ملزمة مسبقة للزواج، سبق أن تحدّث عنها رئيس المحاكم الشرعية الجعفرية القاضي محمد كنعان في مؤتمر صحافي عام 2019، مشيراً إلى دفتر شروط يحدّ من المشاكل التي قد تقع بعد الزواج ويحفظ حقوق الزوجين إذا حصل الطلاق، في الحضانة والنفقة وغيرهما، ويمكن أن يسمح للمرأة أن تطلّق نفسها في حالات معينة كالتعرّض للعنف».
غير أن ذلك لا بد أن يترافق مع «توعية الزوجين مسبقاً لحقوقهما وواجباتهما، وامتحان أهليتهما قبل إبرام عقد الزواج». والأهم من ذلك كله هو ضرورة استنفار المحاكم الروحية في البلاد لتمارس، إلى جانب دورها في تفريق الزوجين، كلّ ما يمكن فعله لإنقاذ الزيجات، ومحاولة التدخل لمعالجة الأمور العالقة بين الزوجين، وذلك من خلال الاستعانة بمتخصّصين اجتماعيين ونفسيين ذوي خبرة في القضايا الأسرية، لتقييم العلاقات الزوجية ومصلحة أفراد الأسرة من الطلاق.
نصيب الأولاد من الطلاق
«لا يحصل طلاق إلّا ويترك أثراً سلبياً على الأولاد لأنّ كل إنسان يحتاج إلى وجود والدين في حياته، خاصة في مراحل النمو الأكثر حساسية»، كما تقول الباحثة في المجال التربوي والاجتماعي فاطمة نصرالله. طبعاً يمكن للأهل احتواء الآثار كلما كان الانفصال هادئاً والأهل واعين لمصلحة الطفل.
في المقابل، عندما يحصل الطلاق بطريقة عنيفة ويشهد الطفل مشادّات بين والديه، أو عندما يكون الورقة التي يستخدمها كل طرف للضغط على الآخر، يمكن الحديث عن آثار مختلفة على الأولاد، تذكر نصرالله منها:
نفسياً، تختلف السلوكيات الناجمة عن الانفصالات المعقّدة بحسب العمر بين قضم الأظْفار، تبوّل لا إرادي، شراهة في الأكل أو امتناع عن الطعام، اضطرابات في النوم، أوجاع غير مبررة وانكفاء عن اللعب مع الأقران أو عن ممارسة النشاطات اليومية.
على المستوى الاجتماعي، قد يحصل انفلات لسلوكيات تجاوز حدود العدوانية والتمادي في التعاطي مع الآخرين والعبارات النابية، أو تشوّه خريطة علاقاته مع آخرين، ويحصل ذلك نتيجة الدلال الذي يتخطى المعقول من قِبل الأهل كنوع من التعويض.
تربوياً، يشكّل الانفصال سبباً أساسياً لتراجع الولد في تحصيله العلمي نتيجة الشعور بالقلق الدائم وانشغال تفكيره بطلاق الأهل، وقد يصل إلى حدّ الرسوب أو التسرب المدرسي وما ينتج عن ذلك من انحرافات مختلفة.
كيف تتدخّل وزارة الشؤون الاجتماعية؟
توفّر وزارة الشؤون الاجتماعية خدمات وقائية من الطلاق وأخرى رعائية تتعلق بالحماية الاجتماعية لأفراد الأسر بعد أن يقع الطلاق.
على الصعيد الوقائي، تتحدّث دائرة شؤون الأسرة في مديرية الخدمات الاجتماعية عن «خدمات التوعية والدعم والتمكين وتطوير القدرات لكل أفراد الأسر التي تقدّمها الوزارة من خلال مراكزها الميدانية أو من خلال عقود مشتركة مع الجمعيات، من بينها تطوير دليل الوالدية الإيجابية لتمكين الأهل من مهارات التواصل والتربية وتقوية العلاقة مع الأبناء».
أما الخدمات الرعائية، فهي «مستدامة وترتبط بعلاقة تعاقدية مع أكثر من مؤسسة تستقبل الأولاد ممن لديهم مشاكل اجتماعية صعبة في أسرهم أو أيتام أو دون أوراق ثبوتية... وهذه الحالات ليست إلّا نتيجة وجدود أسر غير مستقرة وتشوبها مشاكل مختلفة كالطلاق وغيره».
ورغم المبادرات والبرامج التي تقوم بها على صعيد الأسر، تلفت الوزارة إلى «حاجة ماسّة إلى استراتيجية ناظمة لحماية الأسرة بشكل شمولي، من أجل تطوير جودة التدخل، خاصة في ظل ما تشهده الأسر من تأثّرات مختلفة وانعكاسات متنوّعة على استمراريتها».
نسخ الرابط :