يمكن تعريف الرواية الوطنية على أنها بناء سردي تصوغه جماعة سياسية بهدف تشكيل هوية جماعية وترسيخ ذاكرة تاريخية مشتركة.
وغالباً ما تتكوّن هذه الرواية من أحداث بطولية، وشخصيات رمزية، وقيم تأسيسية، فتكتسب بُعداً أسطورياً يُسهم في إضفاء شرعية على شعور الانتماء الوطني. لكن الرواية الوطنية ليست كياناً ثابتاً، بل هي بطبيعتها متحولة: يعاد تشكيلها تبعاً للديناميات السياسية، والتحولات الاجتماعية، والتحديات الثقافية الخاصة بكل حقبة زمنية.
في لبنان، تبقى الرواية الوطنية موضع نزاع، بل ويمكن القول إنها غير موجودة بشكل موحّد. هذا التفتّت يعود إلى تعددية الذاكرات الطائفية، الناتجة من تاريخ مثقل بالحروب الأهلية، والاحتلالات الأجنبية، والتجاذبات الطائفية.
في ظل غياب توافق تاريخي مشترك، تقوم كل جماعة بصياغة روايتها الخاصة، وتنتج بذلك سرديات مضادة، غالباً ما تكون متناقضة. هذا التعايش بين روايات مفككة يمنع نشوء مخيال وطني مشترك قادر على تجاوز الانتماءات الهوياتية الضيقة. وهكذا، يجد لبنان نفسه محروماً من سردية جامعة تُعدّ ضرورية لبناء ذاكرة جماعية، ولتجسيد فكرة الوطن نفسها.
من المشروع التفكير بأن فكر زياد الرحباني وأعماله قد تشكّل قوة توليدية، قادرة على إعادة مساءلة، بل وإعادة تأسيس، مفهوم الانتماء الوطني بحد ذاته.
يصوغ شكلاً من الانتماء الكامن، المتنافر، الهشّ،
ولكن الحيّ بعمق
من دون كلل، يواصل زياد مساءلة المستقبل، وتمكّن بأسلوبه الفريد من طرح الأسئلة الجوهرية بنبرة تجمع بين سخرية ثاقبة وحنان مشوب بالغضب المكبوت.
تُظهر أعماله تعددية صوتية حساسة، يعبرها الشكّ، والفكاهة، وتجارب الحياة اليومية، فتولد منها لغة هجينة تتأرجح بين الثقافة الشعبية والفكر النقدي. إنها لغة تؤسس لقواعد نحوية وطنية مقلوبة: لا رسمية، لا نُخبوية، ولا شعبوية، بل متجذّرة في توتر الواقع. تُعلي هذه القواعد من شأن الإخفاقات، والخيبات، والسخرية، لا بوصفها شوائب، بل كمواد تأسيسية لذاكرة جماعية بديلة.
اللغة التي يستعملها (العربية العامّية، والفرنسية والإنكليزية المقلوبة) هي لغة لبنان المتردد، ولكن المفعم برغبة عميقة في القول، في الحلم، وفي الاعتراض.
يصوغ زياد شكلاً من الانتماء الكامن، المتنافر، الهشّ، ولكن الحيّ بعمق. في عالمه، لا تُفرض الوطنية ولا تُؤلّه، بل تُرتّق، وتُبحث، وتُغنّى، بصوت جماعي متعدد. تتحول بذلك إلى تجربة مشتركة، لا تُكتمل، وتُعاد صياغتها باستمرار.
عبر مسرحه، موسيقاه، وحتى صمته، ينبعث شوقٌ إلى أفق مواطني أفقي، وحنينٌ إلى وطنٍ يصعب العثور عليه، وغضبٌ رقيق لمن يحبّ من دون أوهام. تبدو أعماله، في هذا السياق، كجَزّ (jazz) سياسي: مرتجل، مجسّد، ومتجذر في الشارع .
في لبنان، لا يمكن للرواية الوطنية أن تنشأ على شكل سردية موحّدة، منغلقة على ذاتها. بل قد تولد من مخيال جماعي قيد التشكل: نقدي، عاطفي، وصراعي.
رواية تتبنّى التناقضات التي تكوِّن التاريخ اللبناني، وتمنح للقطائع قيمتها بوصفها لحظات كاشفة، وتجعل من السخرية أداة وعي ومقاومة. أمام انهيار الخطاب السياسي التقليدي، تقدّم هذه الرواية بديلاً متواضعاً ومكانياً، تحمله أصوات هشّة ولكنها ثابتة، لأناس لا يزالون، رغم كل شيء، يؤمنون بانتماء ممكن .
لم يعد الهدف أن نقول: «هذا هو لبنان»، وكأننا نُعرّف جوهراً ثابتاً، بل أن نقول: «هذا ما عشناه، ما شعرنا به، ما أنشدناه... وما لا نزال نجرؤ على أن نحلم به».
بهذا المعنى، يكون النشيد الوطني تركيبة مفتوحة، تنبع من أصوات الحياة اليومية، من شظايا اللغة، ومن أصداء العاطفة. ربما، ولو مؤقتاً، يمكننا أن نتبنّى أغنية «قوم فوت نام» كاستعارة لهذا الانتظار المليء، ريثما نرسم، من تناغمات العادي واليومي، سردية على مقاس الإنسان: نشازها جزء منها، هشاشتها قوتها، وصدقها قدرتها على احتواء تعقيد التجربة اللبنانية بكل أطيافها.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :