شهادات على مجازر المساعدات: هكذا يعبث العدوّ بالمجتمع الغزّي


يقطع مئات الآلاف من المجوّعين في قطاع غزّة نحو 7 كيلومترات مشيًا على الأقدام للوصول إلى قاعدة “زيكيم” العسكرية، أقصى شمال مدينة بيت لاهيا، في شمال القطاع، حيث تتوقّف شاحنات المساعدات المحمّلة بالطحين على بعد بضعة أمتار من جنود الاحتلال والآليات العسكرية. وللحصول على كيس طحين زنة 25 كيلوغرامًا، لا بدّ من أن تصل إلى حيث يرتكب جنود الاحتلال يوميًا مجزرة تلو الأخرى. ووسط الكثبان الرملية والزحام الشديد، التقت “الأخبار” بالمواطن محمد الصليبي، وهو شاب ثلاثيني، حظي بكيس من الطحين بعد معركة من التدافع والاقتتال شهدت ضرب بعض الشبان، آخرين بالسلاح الأبيض. أمّا لماذا، فيجيب الصليبي الذي كان يعمل معلّمًا حكوميًا بأنّ “جنود الاحتلال يتعمّدون إدخال شاحنة أو شاحنتين فقط، وتندفع الحشود المنهكة للحصول على ما تستطيع. الكمية المتاحة أقل بكثير من أعداد من يطلبون الطحين. شاحنتان لأكثر من 200 ألف شخص. والاقتتال هو النتيجة المنطقية للفوضى وانعدام النظام في حالة كهذه. من يستطيع ويغامر ويتخلّى عن انضباطه السلوكي سيعود إلى أطفاله بالخبز، ومن يتردّد سيعود بالحسرة”.
الأخطار المحيطة بالمغامرة لا تتوقّف عند هذا الحدّ، إذ إنّ لحظة واحدة يقرّر فيها أحد الجنود أنه يشعر بالخطر، تمنحه الضوء الأخضر لارتكاب مجزرة، من دون الرجوع إلى القيادة العليا. حدث ذلك، أمس، حيث يروي أحمد مقداد الذي شاهد الواقعة ونجا منها بأعجوبة أنّ “الآلاف من الشبان اندفعوا في اتّجاه الشاحنات، وتجاوزت أعداد محدودة منهم آليات العدو. وبدأت المقتلة حين أطلق الجنود المئات من زخّات الرصاص باتّجاهنا. حوصرنا لساعات في الحُفر ووراء كثبان الرمل. استشهد وأصيب المئات. ببساطة كان الجنود يصطادوننا مثل البطّ. كانوا يتنافسون في القنص. وربما يتراهنون في مدى مهارتهم وقدرتهم على القنص. نجونا بأعجوبة، عدنا بالحسرة والخوف، ولم نحصل على الطحين”. ووفقًا لإحصائيات وزارة الصحة في غزّة، فقد استشهد، أمس، 53 مواطنًا وأصيب نحو 200 آخرين بالرصاص الحي في المناطق العلْوية من الجسد، أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات.
هذه الآلية العشوائية، التي توافق جيش الاحتلال والمؤسسات الدولية على تسميتها بـ”التوزيع الذاتي”، تشكّل مع الإنزال الجوي ومصائد الموت الأميركية، ثالوث الانعطافة “الإسرائيلية” لتحسين الوضع الإنساني في غزّة في الحدود الدنيا، ومن ثمّ تحقيق هدف “نزع ورقة التجويع من يد حركة حماس”، لا سيّما بعد الضجّة العالمية التي أثارتها المجاعة في غزّة.
وفي هذا السياق، دعا رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الدول إلى تنفيذ عمليات إنزال جوي فوق القطاع، علمًا أنّ عمليات الإنزال المحدودة التي نفّذتها مصر والأردن و”إسرائيل” خلال الأيام الماضية، لم تتجاوز هامش الاستعراض. إذ إنّ حمولة خمس طائرات شحن جوي من البضائع أقل من الكمية التي تحملها شاحنة واحدة. وكذلك، فإنّ الإنزالات التي نُفّذت خلال الأسبوع الماضي، سقطت حمولات معظمها في مناطق خطيرة مصنّفة على أنها حمراء، ولم يستطع أن يصل إليها أحد. أمّا تلك التي أُسقطت في المناطق الغربية، فقد تسبّبت إحداها بإصابة عدد من النازحين، الذين تكتظّ المنطقة بمئات الآلاف من الخيام المتراصّة التي تؤويهم.
وتتجاوز الأهداف التي تحقّقها الآلية التي تفرضها “إسرائيل” لتوزيع المساعدات، المخاوف المدّعاة من سيطرة “حماس” عليها، إذ تُستخدم في الواقع لإعادة هندسة طبقات المجتمع ووضعه تحت أقسى مستويات ضغط صراع البقاء، بما يضمن تدمير منظومة السلوك والقيم لديه. وفي هذا الإطار، يرى الناشط الحقوقي، عبد الله شرشرة، أنّ “جيش الاحتلال يستغلّ الظروف التي أنتجها عامان من الحرب، والمتمثّلة في غياب الحكومة الفاعلة وحالة الفراغ السيادي، في بناء مجموعات الجريمة والسرقة المنظّمة. بل إنّ جيش الاحتلال استخدم تسهيل سرقة المساعدات في بناء ظواهر أمنية عميلة، كما جرى مع مجموعة ياسر أبو شباب التي حصلت على تمويل يُقدّر بمئات ملايين الشواكل بين شهرَي أيار وكانون الأول 2024 بغطاء غير مباشر من الاحتلال، عبر سرقة مئات الشاحنات. كما أنّ شاحنات المساعدات أضحت مؤخّرًا المصدر الرئيس للبضائع في غزّة، حيث أصبح تداول المساعدات بمثابة سوق ضخمة يعمل فيها مئات الآلاف من الأفراد. وهذه السوق تحتاج إلى تدفّق مستمر للبضائع، ما يؤدّي إلى أنتشار عمليات النهب العشوائي والفردي بشكل واسع النطاق لتغذية السوق واستمرار عملية التداول. فكلّ سوق بحاجة إلى سلعة، والمساعدات هي المصدر الوحيد للسلع”. ويتابع شرشرة: “يُجبر جيش الاحتلال سائقي الشاحنات على التوقّف في المناطق المكتظّة ولا يسمح بوصول الشاحنات إلى مخازن الأونروا والمؤسسات الدولية بهدف استدامة الفوضى، فيجد كثيرٌ من الأفراد أنفسهم مضطرين لممارسة السلب أو النهب بهدف الحصول على الغذاء. هنا تصبح الحاجة المعيشية المباشرة عاملًا ضاغطًا يذيب الحدود الأخلاقية والقانونية”.
وهكذا، يعيد الاحتلال هيكلة الطبقات الاجتماعية في قطاع غزّة، وذلك عبر إقصاء النخب من المشهد العام، إمّا عبر الاغتيال أو عبر التهجير القسري. وبالموازاة، يجري تحييد قوى الأمن، وضرب البنى التحتية للمجتمع المدني والقطاع الخاص، ما يؤدّى إلى فراغ في بنى السلطة المختلفة. وفي هذا الإطار، يقول شرشرة: “كان هناك في غزّة طبقة واسعة من العاطلين عن العمل، خاصة من الشباب – تتجاوز نسبتها 49% قبل الحرب – ككتلة اجتماعية قابلة لإعادة التشكيل. هؤلاء يشعرون بالخنق من التهميش، ولديهم غضب تجاه النظام وإفرازاته. وهؤلاء الشباب لديهم قدرة أكبر على التأقلم والتكيّف. وقد مكّنهم اقتصاد الحرب من الاندماج في منظومة جديدة لا تقوم على العمل والإنتاج، بل على المراكمة الانتهازية والنهب. وتحوّلت هذه الطبقة من موقع الهامش إلى الفاعل المركزي في مشهد ما بعد الحرب. وأُعيد إنتاج مفاهيمها حول الأخلاق والشرعية والنجاح، مع تدمير المؤسسات التي كانت تؤطّر السلوك الجمعي وتضبطه – مثل المدرسة، المسجد، التنظيم السياسي، المجتمع المدني، والقضاء – وتآكلت المرجعيات الأخلاقية التقليدية. لم تَعد الأخلاق نابعة من وعي جمعي مستقرّ، بل أصبحت غائبة في واقع فوضوي”.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)
:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي