الطائـــــــــــــفيــة...

الطائـــــــــــــفيــة...

 

Telegram


بقلم الياس الغنّاج

الطائفية، تعريفًا في اللغة، نسبة ولاء وعصبية إلى الطائفة، والطائفة هي مجموعة جزئية من كلٍّ وجودي أو اعتباري، وقد يكون التجزيء التوصيفي في سياق وظيفي عملي أو مهني أو في سياق فكري أو في سياق إيماني ديني، كما قد يكون لتمييز وتوصيف مجموعة جزئية من كائنات حيوانية أو نباتية أو جامدة، هذا ما قد يكون في مضمون مصطلح الطائفة. ولكن الطائفية كنسبة ولاء فيها معنى قصدي ما، فإنّ مضمونها يُستعمل حصريًّا لمجموعة محدودة حصرية من الناس هي جزء لا يتجزّأ ولا يستقل عن الواقع الوجودي الكلّي الذي ينتمي إليه، ولكنّه يصير متميّزًا في "الوعي" عن غيره من "الأجزاء" الأخرى في هذا الكلّ ذاته... نخلص إلى الإشارة أنّ الطائفيّة، في سياق النمو الطبيعي للوعي، ليست أكثر من فعل نكوصي لمدى وعي يتقلّص إلى مرتبة أولية من حديّة الرؤية التي لا تدرك أنّ خلف وأبعد من أفقها المدرك آفاقًا وآفاقًا، حتى لتصير هذه الرؤية الأولية فعل طمس وتضخيم: طمس لظهور شخصية الفرد، الشرط الضروري في إمكانية التطور الحضاري، وتضخيم لفئة يبهر الناظر عن ظهور شخصية الجماعة – المجتمع – الحقيقة الوجودية، لتحقيق قوة "حضور الإنسان" []، في الوقت نفسه، ولكنه في كلا الحالين المتحدين استيهامي لأنّه ينبع من انتقائية تضخيمية لـ"الذات" – وهي جزء وليست كلا في شتى الأحوال – وإقصائية طمسية لـ"الآخر" – وهو أيضًا أجزاء وليس كلاًّ في شتى الأحوال. في الطائفية التحام لجوئي نقوم به للذات المفردة المستغرقة في شعورها بضعفها وشدة حاجتها إلى الراعي، وهي طبيعية وضرورة وجودية في مرحلة طفولة الإنسان، كما أنّها بنت مدى الإدراك الطفلي الأولي من الوعي الاجتماعي الوجودي لأنّ هذه الروابط المباشرة، ومنها الروابط الرحمية والتي تظهر أيضًا، وبناءً لهذا الرابط الحسي الأولي حتى في جماعات قبل إنسانية (ذئاب - فيلة – قردة وغيرها).. ورمزها التعبيري الأبيَن في الاجتماع الإنساني يبرز في الرابطة القبلية والعشائرية كمرتبة ثقافة أوليّة تتوزّع إلى أفخاذ وبطون وأصلاب. وبمعنى ما، فإنّ الطائفية رابطة سابقة للوعي العقلي، وبالتالي سابقة للاختيار، الذي لا يحدث إلا بعد التحليل، وسابقة للإرادة، مما يعني أنّ الطائفية بصورة ما هي نقيض لأية حرية ممكنة، خصوصًا أنّها بموجب وجودها الذي أنتج تعريفها لا يمكن لها أن تعني ذاتًا كاملة لأنّها في طبيعتها جزء من ذاتٍ أوسع مهما اختلف سياق الاستعمال وقياسه في المجالين الوظيفي السلوكي العملي المادي، أو المعنوي الفكري المفهومي الماهوي العقلي الثقافي...
 في الولاء الطائفي نزوع ركوني سكوني استجابي إلى قوة قاهرة وقد لا تكون قوية في ذاتها ولكنها قوية بالنسبة لضعيف ناشئ تجعله العادة متنازلاً، فيما بعد، عن قوته التي يكتسبها عبر نموه ليظلّ، وبالرغم مما جهّزته به الحياة من قدرة على الانطلاق إلى رحاب أوسع يستحقّها، ومحاكمة أصبح يستطيعها بما توصّل إليه من خبرات وعلوم وثقافة ومناهج في البحث والكشف والإبداع، تجعله الطائفية بالرغم من ذلك مرتهنًا مؤطّرًا محبوسًا في ولاء أسرة منذ أن كان طفلاً غير قادر على الاختيار...
 وإذا استقرأنا معالم تاريخية أسّست لمدنية الإنسان لوجدنا أنّ ظهور المدينة في الآلاف السابقة للمسيح في سوريا، إنّما كان هذا التجاوز النمائي التلقائي الإجرائي للولاء الطائفي – الفئوي إلى الاختلاط التفاعلي الخلاّق فيكون الولاء الطائفي – الفئوي بطبعه مباينًا للمدنية – ثقافة المدنية ازدهارًا وعمرانًا وإبداعًا في العلم والفلسفة والفن وليست اسبارطة، المحافظة على خصوصية بنيوية فئوية هي التي تأسّست مدنية اليونان برحابة آفاقها، بل هي أثينا حيث تتفاعل مجموعاتها الجزئية.
 ثم فإنّ في المسيحيّة والمحمدية إطلاق رسالة مداها كوني مسكوني، والطائفية هي معاندة لهذه الشمولية إلى حدية حصرية مجتهدة في حدودها الضيقة المنكفئة في أسار(؟) سابق لوعي وقدرة وإدراك وإرادة أفرادها أنفسهم... ولا ننسى الويلات التي ألحقها المؤمنون بأنفسهم في صراعاتهم واصطراعاتهم الطائفية وخلال أجيال ضمن الرسالة الواحدة نفسها.
 وإذا دقّقنا النظر أكثر سنجد أنّ التبريري الاجتزائي – الطائفي المقيّد في فئوية حصرية خاصة لا غطاء ايديولوجي أو مقدس له إلا في اليهودية، في التوراة اليهودية بمقولة "الشعب الخاص" و"الإله الخاص"، هذه المقولة التي ارتقى عنها الوعي الإنساني الديني إلى "رب العالمين" وإلى "الإله المحبة" بدون تقييد أو حصر، والتي لم يتمكّن اليهود من مواكبتها مع أنّها سابقة في تراث بلادنا المقدّس في سوريا، لكتابهم التوراة، وهو ما كشفته الأثريات المكتوبة ذات البعد التقديسي الديني...
 تلزم عن الطائفية مقولة "أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" بمعناها البدوي العربي المباشر وليس بمعناها الإعلائي الذي شحنها به الإسلام المحمدي، أي اردعه عن ظلمه إذا كان ظالمًا... في الطائفية، ولدينا عيّنات كثيرات طاغيات على ما نقول، أنت تنصر أخاك في ظلمه وبالتالي تصير انت وإياه موظّفين لترويج الظلم الذي سيلحق بكما منه الكثير عندما يحدث مغطى بتبريرات يتمّ إظهارها على أنّها ضرورات تبيح المحظورات، فإذا السوق ملأى بـ"المحظورات" التي يتأوّل معناها إلى سلوك في درك متدنٍّ.
 "ملوك الطوائف" مصطلح تاريخي لا يحتاج إلى بيان، وهو ما أنتج هزيمة وتضعضعًا وضعفًا وظلمًا واعتداءً وانحطاطًا، ولعلّ في قصيدة نزار وفي رشاقة التقاط الروح للحظة تعبيرية بليغة الدلالة:
 يقول نزار:
كتبت لي يا غالية
كتبت تسألين عن اسبانية
لم يبق في اسبانية
منا ومن عصورنا الثمانية
غير الذي يبقى من الخمر
بجوف الآنية
وأعين كبيرة كبيرة
لا زال في سوادها
ينام ليل البادية
مضت قرون خمسة
مذ رحل الخليفة الصغير
عن اسبانية
ولم تزل أحقادنا الصغيرة
كما هيه
ولم تزل عقلية العشيرة 
في دمنا كما هيه
مضت قرون خمسة يا غالية
كأنّنا نخرج هذا اليوم
من اسبانية
 في هذا الشعر جنوح عاطفي أم تشخيص مفعم بالوجدان لواقع يظهر لأي متابع ببعض روية... هي صورتنا التي يعلنها نزار وفي أعمق أسبابها باطل الطائفية والاستجابة التسليمية له...
 بعد هذا هل في "الطائفية" أخطار؟ يكفي أنها ظاهرة مرضية، ويكفي أن نستعرض ما حملته من مآس وحروب وويلات.
 وقد يكفي أيضًا ألا يتجرّأ العاملون بمقتضاها "تربية" وتحريضًا وحكًا على الغرائز، وشحنا للنفوس والأفكار بما لا يبني ولا ينمي ولا يطلب الخير، يكفي ألا يتجرّأ واح حتى من العاملين لها أن يتبنّاها علنًا أو أن يعتبرها شأنًا حضاريًّا فيه رفعة وكرامة ومصلحة للمجتمع، يكفي ذلك كي ينتفض منا الوجدان كمواطنين نفتخر أن يكون مسارنا في نهج عقلي ونباهة تحصننا وتقينا من أزمات نكون نحن أدواتها ليتربع على أكتافنا انتهازيون يستخفون بطيشنا ويهملون مصالحنا ويحرقوننا غابات ليولعوا سجائرهم ويشبعوا غلواءهم النرجسية.
 الحماس سيف ذو حدين: حد إلى الذات يجرّحها، وحد إلى الخارج يفتح آفاقًا للذات فتنمو، وفي الحالة الثانية هو دائما مشروط بالحكمة، وألا يأخذ صاحبه إلى مسلخه دون أن يدري فيلحس المبرد متوهمًا أنّه يلعق غير دمه.
 والحكمة روية ومحاكمة، وتدقيق قبل التهور. والمثل الشعبي بليغ الدلالة: "ما حدا عقل وندم"، يعني فيما يعني أنّ من لم يحكّم العقل ذاهب إلى الندم.
 وهل العقل إلى قوة الربط المغايرة والمباينة والمناقضة للفصل والتجزيء والفئوية والحدية والحصرية والطائفية؟تظهّر من فعالية "الجماعة الموجة" أو "ثقافة القطيع".

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram