العدوان الإسرائيلي على الجنوب: رسائل التهديد والتحولات الإقليمية.
أورنيلا سكر
العدوان الإسرائيلي على الجنوب اللبناني بالأمس لم يكن مجرد ردّ أمني معزول، بل رسالة سياسية وأمنية واضحة تعبّر عن عمق انزعاج إسرائيل من التحوّلات الجارية في المنطقة، لا سيما في ظل زيارة المسؤول الإيراني عباس عراقجي إلى بيروت، والتطورات الميدانية في الساحة السورية. ما حدث يعكس محاولة إسرائيلية متكرّرة لإعادة شدّ العصب الطائفي وتعزيز الانقسامات الداخلية في لبنان، بما يخدم مشروعًا مستمرًا لتفتيت الهوية الوطنية وتعميق سياسة التفرقة.
غير أن السؤال الجوهري يبقى: هل يمتلك اللبنانيون الوعي الجماعي الذي يرقى لمستوى هذه التهديدات؟ أم أن الانقسامات الطائفية والتحزّبات الضيقة لا تزال تتحكم في المزاج العام وتمنع التوصل إلى موقف وطني جامع؟ والأهم من ذلك: هل يُنظر إلى لبنان اليوم كمشروع دولة قابلة للإعمار والاستقرار، أم كساحة مفتوحة لحروب الآخرين؟
ما نراه حاليًا هو جزء من مشهد إقليمي أوسع، تتحوّل فيه الرسائل الأمنية إلى أدوات ضغط نفسي وعسكري، تستخدمها إسرائيل لتأكيد تفوقها الذي بات مهددًا داخليًا وخارجيًا. فلم تعد الصورة الذهنية عن إسرائيل كقوة لا تُقهر مقنعة حتى لحلفائها، في ظل انقسامات داخلية عميقة في الكنيست، وتصدّعات في الائتلاف الحاكم، ورفض شريحة من المجتمع الإسرائيلي مثل الحريديم الانخراط في الخدمة العسكرية.
على الصعيد الدولي، نشهد تغيّرًا تدريجيًا في مواقف بعض الدول الأوروبية تجاه إسرائيل، نتيجة الضغط الشعبي والإعلامي، خصوصًا في ظل الحرب على غزة. دول مثل بريطانيا، فرنسا، وألمانيا لم تعد تمنح تل أبيب غطاءً غير مشروط كما في السابق، وباتت هناك دعوات متزايدة في العواصم الأوروبية لوقف الدعم العسكري والمادي. هذا التحوّل يتقاطع أيضًا مع مراجعات فكرية في الغرب تتناول مفهوم "معاداة السامية" بطريقة أكثر توازنًا، بعيدًا عن الاستخدام السياسي الذي ارتبط بسياسات الاعتراف بالذنب تجاه المحرقة.
على المستوى العالمي، العالم يشهد انتقالًا تدريجيًا في موازين القوى. صعود الصين عسكريًا، وتحوّلات في السياسة الباكستانية، وتعثّر الاستراتيجيات الغربية في مواجهة روسيا، جميعها مؤشرات على نهاية حقبة التفوّق الغربي المطلق. هذه التغيرات لا يمكن فصلها عن موقع إسرائيل ضمن هذا النظام الدولي الجديد. فحسابات الردع تتغيّر، وحجم الدعم يتقلّص، والدعاية القديمة لم تعد قادرة على تغطية واقع متصدّع.
وفي خضم كل هذا، المؤسف أن بعض القوى اللبنانية لا تزال تفضّل الارتهان للمواقف الغربية على حساب المصلحة الوطنية. بدلًا من تعزيز منعة لبنان ووحدته، تنخرط في اصطفافات تخدم رواية إسرائيل، وتُضعف موقع لبنان في معادلة الردع. وما يجري في سوريا المجاورة من تنازلات واضحة، لم يمنع إسرائيل من مواصلة سياساتها العدوانية، ووصم النظام السوري بـ"الإرهاب" رغم كل ما قدمه من تنازلات. وهذا يكشف أن الانبطاح لا يضمن السلام، وأن الاستقواء بالعدو لم يكن يومًا طريقًا لحماية الوطن.
إن قراءة الواقع السياسي بوعي وطني مستقل هي الخطوة الأولى في مواجهة الحرب النفسية والميدانية التي تُشنّ على شعوبنا. لم تعد معادلات القوة تُقاس فقط بالصواريخ والدبابات، بل بالوعي، والسيادة، والإرادة الجماعية في التحرّر من التبعية. والسؤال الذي يجب أن يطرح اليوم بجدية: كيف تتحرر الشعوب من عبودية الوهم، وتستعيد حقها في تقرير مصيرها بنفسها؟
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :