بين القمامة والدخان: لبنان في صدارة الدول العربيّة الأكثر تلوثاً

بين القمامة والدخان: لبنان في صدارة الدول العربيّة الأكثر تلوثاً

 

Telegram

 

في تقرير صادم صادر عن مؤشر Numbeo العالمي لجودة الحياة لعام 2025، تصدّر لبنان قائمة الدول العربية من حيث نسبة التلوث الأعلى، في حين برزت سلطنة عُمان كأكثر الدول العربية نظافةً من حيث جودة الهواء. ويعتمد المؤشر على تقييمات المستخدمين لمستوى التلوث، ويأخذ بعين الاعتبار عوامل متعددة مثل جودة الهواء والمياه، نظام التخلص من النفايات، التلوث الضوضائي، وتوافر المساحات الخضراء.
هذه المرتبة المتأخرة ليست مجرد رقم في تقرير، بل تمثل جرس إنذار بيئيا وصحيا واجتماعيا يتطلب تدخلًا عاجلاً وجديًا.
التلوّث في لبنان: أزمة متجذّرة في كل زاوية
تُشير المؤشرات البيئية خلال السنوات الأخيرة إلى أن لبنان بات من أكثر البيئات تدهورًا في المنطقة. فمظاهر التلوث لا تقتصر فقط على هواء مُحمّل بالغبار والدخان، بل تمتد إلى مياه ملوثة، نفايات تتراكم في الشوارع والأحياء، غياب شبه تام للمساحات الخضراء، وضوضاء لا تهدأ ليلًا ونهارًا.
هذا الواقع لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة سنوات من الإهمال الرسمي، غياب التخطيط البيئي، وتهرّب الدولة من مسؤولياتها في حماية البيئة. وقد ساهمت الأزمات الاقتصادية المتراكمة في تفاقم الوضع، إذ باتت البلديات عاجزة عن تنفيذ خطط فعالة لمعالجة النفايات أو فرض رقابة على مصادر التلوث الصناعي والمنزلي.
آثار التلوث في لبنان: خطر يتجاوز الصحّة إلى كيان الوطن
من الملاحظ أن للتلوث آثاراً كارثية تطال أكثر من جانب في حياة اللبنانيين. أول هذه الجوانب هو الصحة العامة، حيث ازدادت معدلات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي مثل الربو والحساسية، لا سيما بين الأطفال وكبار السن. كما ارتفعت حالات الإصابة بالأمراض السرطانية المرتبطة بالتعرض المطوّل للهواء الملوث والمواد الكيميائية السامة الناتجة عن حرق النفايات في الهواء الطلق.
ولا تقتصر الأضرار الصحية على الأمراض العضوية فقط، بل تمتد إلى الصحة النفسية، إذ يعيش المواطن اللبناني تحت ضغط بيئي مزمن، يرافقه شعور بالغضب والاختناق المستمر، في ظل غياب أي أفق للحل.
أما بيئيًا، فإن التلوث يُهدد ما تبقى من تنوع بيولوجي نادر في لبنان، إذ تُلوَّث الشواطئ، وتُصبّ النفايات في الأنهار، وتُجرف الغابات من دون تعويض. هذه البيئة المريضة لا تستطيع أن تُنتج هواءً نقيًا ولا طعامًا نظيفًا، ما يُعمّق الفجوة بين الإنسان وبيئته.
ويضاف إلى ذلك الأثر الاقتصادي الخطير، إذ إن ارتفاع نسب التلوث يدفع العديد من المستثمرين إلى تجنّب المشاريع السياحية أو الزراعية في البلاد، ناهيك عن خسائر قطاع الصحة والضمان بسبب ارتفاع تكاليف العلاج. كما أن بيئة لبنان غير الجاذبة تؤثر على استقرار الكفاءات، وتُساهم في هجرة العقول.
حجم الكارثة: أزمة وجود وليست فقط بيئية
في ظل هذا الواقع، لم تعد أزمة التلوث في لبنان مجرد أزمة بيئية عابرة، بل أصبحت أزمة وجود تهدد المستقبل. فبينما تستطيع الدول أن تُصلح اقتصادها أو تُبدّل حكوماتها، فإن انهيار البيئة يحتاج إلى عقود من العمل المُمنهج لإصلاحه، إن لم يكن قد فات الأوان. إن فقدان الثقة في قدرة الدولة على حماية المواطن من المخاطر البيئية، يزيد من شعور اللبنانيين بالعجز واللامبالاة، ويكرّس ثقافة الهروب لا المواجهة.
إن إنقاذ البيئة في لبنان لا يتم بقرارات ارتجالية أو حملات موسمية، بل يتطلّب خطة وطنية شاملة تتكامل فيها الجهود الرسمية والشعبية. أولى الخطوات يجب أن تكون في إصلاح قطاع النفايات، من خلال إنشاء مصانع فرز وتدوير حديثة، وفرض غرامات صارمة على الرمي العشوائي، وتعزيز ثقافة الفرز من المصدر لدى المواطنين.
كما ينبغي أن تتحول الدولة إلى اعتماد الطاقة النظيفة، خاصة أن أزمة الكهرباء المستمرة أرغمت المواطنين على استخدام مولدات ملوِّثة على مدار الساعة. يجب تسريع دعم مشاريع الطاقة الشمسية، وتسهيل وصولها للأحياء السكنية والمؤسسات الصغيرة.
ومن الضروري أيضًا تحسين البنية التحتية للمياه، إذ أن كثيرًا من المناطق تعاني من تلوّث في المياه الجوفية، وتسريب مياه الصرف إلى الأنهار. كما لا يمكن التغاضي عن أهمية إعادة إحياء المساحات الخضراء، عبر تشجير المدن، وتحويل الأراضي المهملة إلى حدائق عامة.
وفي هذا السياق، يجب إنشاء هيئة وطنية بيئية مستقلة، تتمتع بصلاحيات واسعة لمراقبة تطبيق القوانين البيئية، ومحاسبة المخالفين دون تدخلات سياسية أو طائفية. كما يمكن التعاون مع منظمات دولية للحصول على دعم تقني وتمويلي، على غرار ما فعلته دول أخرى خرجت من أزمات كبرى.
إن التلوث الذي يشهده لبنان اليوم لم يعد مجرد ظاهرة مقلقة، بل أصبح تهديدًا حقيقيًا لصحة الأفراد، واستقرار المجتمع، وبقاء الدولة. البيئة النظيفة ليست رفاهية، بل حق أساسي من حقوق الإنسان، ولا يمكن الحديث عن الإصلاح أو النهوض بالبلاد دون تضمين ملف البيئة كأولوية وطنية قصوى.
لقد آن الأوان لأن يتحوّل القلق البيئي إلى حراك شعبي ورسمي جاد، قبل أن نجد أنفسنا في وطن لا يُطاق العيش فيه، ولا يصلح للحياة. فهل من يحرّك ساكناً أم نبقى رهائن للأمراض المستعصية الناجمة عن سموم التلوث؟
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram