جدلية الحرب والسلاح: الدجاجة قبل البيضة.. أم العكس؟
لعل من أقدم الجدليات العبثية في التاريخ الإنساني هو السؤال عن أيهما وُجد قبل الآخر: “الدجاجة أم البيضة”؟ حيث يؤشر هذا التساؤل إلى نمط تفكير يتلهى بالسفسطة، من دون القدرة على تقديم إجابات على الأسئلة الصحيحة التي يجب أن تطرح.
وقد اعتمدت البشرية هذا النمط من التفكير في كثير من حالات الجدال السياسي العقيم، عندما تريد جماعة ما أن لا تضع إصبعها على الجرح الحقيقي، خوفاً من المسّ بمصالحها، أو لغايات تتعلق بتفاهمات تجريها، تشكل في مجموعها شبكات من العلاقات المتبادلة الخاصة على حساب معيشة العامة وحيواتها.
ثم إن الدول والحكومات أيضاً استهدت إلى هذا الأسلوب في طرح القضايا العامة، ولحرف الشعوب عن المطالبات المحقة الخاصة بهم، حتى باتت هناك مقولة ساخرة تقول إن “على الشعوب الاعتذار من حكوماتها لتقصيرها في تأمين مصالح هذه الحكومات”!
ينطبق هذا الأمر اليوم على مسألة سلاح المقاومة في لبنان، ليتحول لاحقاً إلى أنموذج يطبق في باقي الدول، على أن هذا السلاح هو سبب للعدوان الصهيوني المستمر، فتطرح نظرية أن السلاح جالب للدمار. ولما كان العدو يتذرع بهذا السلاح المخيف له، فإنه يقوم بالعدوان اليومي. وعليه يستنتج أصحاب هذه النظرية أنه يجب سحب هذه الذريعة، وعندما لا يجد العدو سبباً يخيفه فإنه سيتوقف تلقائياً عن العدوان.
طبعاً لا داعي للخوض في تجارب التاريخ، البعيدة والقريبة، وفي لبنان تحديداً، لإثبات عقم هذه النظرية وفشلها، فهي سالبة بانتفاء الموضوع.
لكن ما يثير الجدل هو الربط بين السلاح الموجود والعدوان الاسرائيلي المستمر من ناحية كينونة حمل السلاح. فإذا اعتبرنا أن المقاومة تحمل السلاح والسلاح يجذب العدوان، فإننا نريد بذلك أن نصل إلى قاعدة ضرورة انتفاء المقاومة، والتي ولدت بالأساس نتيجة للعدوان وليست سبباً له، ونتناسى أن المشكلة الأساسية في هذا السياق هو العدوان ومن يمارسه، وليس النتائج المنبثقة عنه وإحداها المقاومة. يمكننا تشبيه هذه المعادلة، ولو مجازاً، بـــــ”الدور” المستخدم في علم المنطق، والذي يبطله علماء المنطق ومن ورائهم باقي العلماء، لأنه لا يمكن أن تكون المقاومة سبباً ونتيجة للعدوان في ذات الوقت.
تكمن المشكلة الحقيقية في أصحاب هذه النظرية أن المقاومة لا تضرّ بمصالحهم بقدر ما تضرّ بمصالح حلفائهم الخارجيين، المتحالفين أو المطبعين مع العدو الصهيوني. وهذا يخلق جدلاً من نوع آخر، حيث إن المقاومة لا تضر بمصالح ونفوذ أصحاب الهيكل داخل البلد، بقدر ما تضر بتحالفاتهم ومصالحهم المشتركة مع المتحالفين مع العدو، وهو أمر يحتاج إلى الوقوف عنده طويلاً.
الجدلية الثانية متعلقة بجدوى الاحتفاظ بالسلاح مع عدم استخدامه في مقاومة العدوان المستمر، فيعود أصحاب النظرية السابقة إلى مقاربة أخرى لموضوع السلاح، مفادها أنه طالما لا يستخدم السلاح بوجه العدوان المتذرع بوجود السلاح، فما الجدوى من بقائه، طالما يقوم العدو بتدميره على مراحل؟ وعليه لماذا لا نسحب الذريعة من يد العدو ونرمي السلاح أرضاً، ومن ثم نرى ما سيفعله العدو؟!
والجواب يكمن في الإشكالية المطروحة نفسها، لأن السؤال الصحيح هو أنه طالما لا يتم استخدام السلاح فلماذا يستمر العدو بالعدوان؟ فهل المشكلة في وجود السلاح أو في الموقف من العدو أو في إرادة استخدامه؟ أم أن المشكلة تكمن في فكرة المقاومة نفسها ووجودها واستمرار هذا الوجود؟ وهنا نعود إلى ذات الجدلية المذكورة أعلاه، فهل المقاومة وُجدت قبل العدوان.. أم أن العدوان حدث قبل المقاومة؟ وهل المقاومة سوى نتيجة من نتائجه؟ وإذا كانت المقاومة غير فاعلة اليوم فلماذا يستمر العدوان؟
الجدلية الثالثة مرتبطة بحصرية وجود السلاح بيد الدولة. لكن لهذه الجدلية أيضاً إشكاليات متعددة، أولها تعريف السلاح، فهل المقصود مطلق سلاح.. أو السلاح الذي ينتقص من سيادة الدولة على أراضيها؟ أو السلاح المهدّد للسلم الأهلي؟ أو السلاح الذي يسلب الأمان الاجتماعي؟ فعندما طرح رئيس الجمهورية مسألة حصرية السلاح بيد الدولة، سعى أصحاب النظريات أعلاه إلى الاصطياد في الماء العكر، فجاء جواب الأمين العام لـ”حزب الله” أن الحزب مع هذا الطرح، ولكن لا يرى أنه يتعلق بسلاح المقاومة لأن سلاح المقاومة ليس له وظيفة داخلية، وبالتالي وجوده لن ينتقص من سيادة الدولة ولا قدرتها على بسط سيطرتها السياسية والأمنية، وبإخراج هذا السلاح من هذه المعادلة، أصبح لزاماً على جميع المُنادين بسحب السلاح، تسليم أسلحتهم وفتح المربعات الأمنية الخاصة بهم قبل المطالبة بسحب سلاح المقاومة. وأما فيما يتعلق بقرار السلم والحرب، فتتجلى الجدلية هنا بوضوح، حيث نشأت المقاومة في ظروف اللادولة، وتبنت هامشاً من الاستقلال في قرارها طبقاً لهذه المعادلة، ولغاية اليوم لم تثبت الدولة امكانية تحملها عبء المواجهة كي تنكفئ المقاومة أو تتخذ خياراً غير عسكري. بالتالي مَن وُجد قبل مَن في هذه المعادلة؟ ومَن تحمل عبء الدفاع قبل مَن؟ الإجابة توضح النتيجة بالتأكيد.
وبالمناسبة، في الثامن من تشرين الأول/اكتوبر عام 2023، بدأت المقاومة بعمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا اللذين غطت الحكومات المتعاقبة العمل العسكري فيهما لكونهما أرضاً محتلة، ولم توسع مساحة عملياتها إلا بعد أن قام العدو بتغيير المعادلة القائمة منذ العام 2006. وقد أثنى جميع الأطراف آنذاك على الحدود التي التزمتها المقاومة في إسنادها لغزة حين لم تُعرض لبنان للحرب. لكن أَلَم يكن في بال العدو أمراً مختلفاً منذ البداية؟
في النهاية، كيفما عالجنا الإشكاليات المطروحة، نصل إلى ضرورة بقاء المقاومة كحالة وطنية شرعية تساند الدولة في مواجهة العدو، وأن فكرة نزع السلاح متأتية من حدود المصالح الشخصية المترابطة مع مصالح الخارج المتحالف مع العدو، وهي غير مبررة ولا تؤمّن مصالح الدولة والشعب والأرض. وعليه إذا ما أردنا حقاً إيقاف المقاومة عن العمل والوجود بطريقة شرعية وعقلانية، ليس علينا سوى إزالة سبب وجودها، عندها ينتفي مبرر بقائها تلقائياً من دون الحاجة إلى صراعات ونزاعات سياسية وغير سياسية.
ومن المعيب فعلاً تناسي العدوان وتحميل المقاومات سبب المآسي، ومن المخزي تأطير الإنسان في الحدود الخالية من المعاني الإنسانية العليا مثل الحرية والكرامة والسعي نحو تحقيق هذه المعاني السامية.
ويبقى السؤال الأزلي قائماً “هل الدجاجة كانت قبل البيضة.. أم العكس؟”!
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)
:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي