حين كتب الشعراء بالرصاص عن الحرب وبيروت المقاتلة والقتيلة

حين كتب الشعراء بالرصاص عن الحرب وبيروت المقاتلة والقتيلة

 

Telegram

 

لم تكن الحرب الأهلية اللبنانية ساحة للمقاتلين فقط حيث كانت أيضاً حلبة للشعراء. هناك، بين الركام والحواجز، حمل بعضهم الكلاشينكوف بدل الديوان، وظنوا أن البندقية قد تغير واقعاً عجزت القصيدة عن هزه. لم تكن تلك ظنوناً عبثية تماماً، بل كانت وهماً مشتركاً بين أدباء وشعراء آمنوا بأنهم قادرون على كسر حدود الطائفة والفساد والرأسمال بالقوة. حلم ساذج؟ ربما. لكنه حقيقي جداً لمن عاشه.
في معمعة الحرب، برزت أسماء شعراء شباب حملوا التجربة على أكتافهم وراحوا يكتبون منها ولها. الشاعر والصحافي بلال خبيز، مثلاً، اتخذ التجريب الشعري سلاحه، تنصل من الأنا الفردية وتحدث بلسان الجماعة، جماعة الشعراء المحاربين أو المؤمنين بحربهم، وجماعة الأشياء بعمومها، المتروكة في القصيدة للتعبير عن آلامها. ارتدى خبيز ثوب الرافض لما آلت إليه أحوال المشاركة في الحرب فشخص الواقع اللبناني كمشرح. كشف كيف تحول أمراء الحرب إلى أساتذة وفلاسفة، بينما ضاع جيل كامل في مستنقع الطائفية والعنف. خبيز لم يتصالح يوماً مع مشاركته. خرج من المعركة ليكتشف أن عدوه كان داخله. بنية فكرية ملوثة، خطاب تم تلقينه له، ووعي زائف ظن أنه يغير بينما كان يستغل.
كذلك فعل الشاعر يوسف بزي في معظم مجموعاته الشعرية التي عرض فيها ذاته كمقاتل سابق، وهو لم يكتب شعراً عن الحرب بل كتب الحرب نفسها كما عاشها بشخصيته المعلقة بين الركام. ثم في كتابه "نظر إلى ياسر عرفات وابتسم" نقل التجربة الشاعرية إلى النثر، فصارت الرواية القتالية في حرب الشوارع أوضح وملموسة. كانت هدنات الحرب تنهار أمام عينيه كما تنهار الجمل في النص. خاض المعركة ثم انسحب منها ليقاتل على الورق. حارب على الحاجز ثم تساءل من هناك: من هو العدو؟ السياسيون الذين خانوا الناس أم المواطن الذي قرر أن يعيش وسط الجحيم؟ بالنسبة إليه، الناجون هم الأبطال.
قول الحرب بلا تزيين
 أما الشاعر والمسرحي يحيى جابر، فقرر أن يخبر ويروي ويوثق بلا تزيين، بجمل قصيرة صادمة لا تحتاج إلى بلاغة التأويل الشعري الذي صبغ الشعر النثري في تلك الفترة، بل كان مباشراً، خصوصاً في مجموعتيه "بحيرة المصل" و"الزعران". وفي كتابه "الزعران"، يظهر يحيى جابر كابن الجنوب الذي خاض حرباً لا بطولات فيها. خرج منها بخيبة وكتبها بلسان الشارع. لا أناشيد ولا نشوة، بل مرارة. أسلوبه ساخر وساخط ومملوء بالحنان الغاضب. الحرب لديه ليست راية، بل ندبة. كل ما كتبه كان ضحكاً على جرح مفتوح، لا يشفى.
الشاعر والمسرحي فادي أبوخليل لجأ إلى اختزال الذاكرة بشعر موجز، كثيف، يضرب ولا يشرح، خصوصاً في مجموعة "فيديو".
من بين هؤلاء المقاتلين يظهر إسكندر حبش شاعراً عايش الحرب وشارك فيها كمنظر لها وليس كمقاتل، وربما كان هذا النوع من المشاركة أقسى وأقوى من حمل لسلاح المادي. لهذا راح يجر الكآبة وراءه كما يجر وطنا ممزقاً لم تسعفه البندقية كما التنظير لحملها، بل جعلته وطناً ممزقاً على شاكلة الشعراء، ومنهم اسكندر حبش، الذي راحوا يرثون أنفسهم ويرثون الوطن الضائع في شظايا الأحلام والقتال. الشاعر شارل شهوان أضاء بدوره في كتابه "حرب شوارع" وكذلك في مجموعاته الشعرية على ثيمات الغربة والتشظي والمرارة، ولبنان الذي أكل لحمه الطائفي. لكنه ظل شاعراً يسير في الحرب بين السخرية والوجع. من مراهق يبحث عن مكانه، إلى شاعر يرسم جراحه بدلاً من أن يطلق النار. لغته بسيطة، لكنها جارحة. لا تبحث عن استعارات، بل تترك الحقيقة تتكلم عن نفسها: عن بلد يفرغ من شبابه مع كل موجة هجرة، بينما الساسة يواصلون حفلتهم الجنائزية فوقه.
ثم جاء الانفجار الكبير، اجتياح بيروت عام 1982. هناك، أغلق كتاب خليل حاوي. الشاعر القلق، صاحب "نهر الرماد"، أنهكته المدينة. انفطر قلبه، حرفياً، حين رأى الدبابات الإسرائيلية تدخلها. لم يحتمل. انتحر. قصيدته الأخيرة لم تكتب على الورق، بل على الجبين الجماعي لأمة تنهار. فكانت الحرب كما عبرت عنها قصائد هؤلاء دماراً مادياً، ومصنعاً لسبك الخراب داخل اللغة والشكل الشعري أيضاً. فصارت القصائد هجينة، مفرطة في سورياليتها، تائهة مثل الحرب نفسها.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram