تجمع أوساط اقتصادية على أن لبنان لا يعرف إضاعة الوقت بشأن الإسراع في ترميم نظامه المالي وإحياء الفرص الضائعة في العديد من المجالات جراء سنوات من التلكؤ في الإصلاحات الضرورية بسبب انقسام الطبقة السياسية، وتهيئة بيئة أعمال محفزة للمستثمرين وتحسين معيشة المواطنين.
تتزايد قناعة الخبراء والمتابعين للشأن اللبناني بأن النظام المالي المتآكل في البلاد بفعل الصدمات المتتالية يشكو من ثغرات كثيرة يتوجب إصلاحها على وجه السرعة كونها مفتاح إيقاظ الاقتصاد المنهار.
ويحتاج النظام المالي عقب تشكيل حكومة جديدة وانتخاب رئيس للبلد قبل أشهر إلى إصلاح عميق لأن توفير التمويل للشركات والمستثمرين سيحرّك خيوطا كثيرة، منها الاستهلاك وتنمية التجارة وتحصيل عوائد إضافية لخزينة الدولة.
وتوقع وزير المالية ياسين جابر الأربعاء أن يتم إقرار قانون السرية المصرفية في البرلمان خلال أيام. وقال للصحافيين، في الكويت حيث يشارك في اجتماعات الهيئات المالية العربية، “توقعاتي أنه سيقر، إن لم يكن غدا أو بعد غد… أكيد سيقر.”
وأكد أن صغار المودعين ممن تقل ودائعهم عن 100 ألف دولار يمثلون 84 في المئة من المودعين في لبنان بقيمة إجمالية نحو 20 مليار دولار. وقال إن الحكومة بصدد وضع خطة لمعالجة قضية المودعين “ومن الطبيعي” أن تبدأ بصغار المودعين.
ويمارس المانحون الدوليون ضغوطا على لبنان للإسراع في معالجة قصور القانون المثير للجدل كأحد المحاور الرئيسية لعملية الإصلاح التي لا تزال بطيئة جدا.
وكان القانون المعدل الذي أُقر في يوليو 2022 نسخة مخففة من المسودة الأصلية، مما أثار مخاوف من أن صندوق النقد الدولي لن يعتبره قويا بما يكفي ليكون إجراء إصلاحيا حقيقيا.
ورفض الرئيس السابق ميشال عون التوقيع على مشروع القانون لإجازته، وأعاده بدلا من ذلك إلى مجلس النواب (البرلمان) لإجراء المزيد من التعديلات عليه.
وتواصل الحكومة الجديدة الدفع قدما بحزمة من الخطوات الضرورية لمعالجة الأزمات المالية والاقتصادية بدءا من التعيينات الإدارية كتعيين حاكم لمصرف لبنان المركزي وصولا إلى إقرار القوانين الإصلاحية وعلى رأسها مشروع قانون السرية المصرفية.
وتعكس هذه الخطوة توجها جادا نحو الإصلاح، لكن تنفيذها يعتمد على التزام القوى السياسية بإقرارها في البرلمان قبل اجتماعات الربيع مع صندوق النقد الدولي.
وبينما رحب البعض بهذا القرار باعتباره خطوة نحو تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، يرى آخرون أن إلغاء السرية المصرفية قد يؤثر سلبا على ثقة العملاء وقد يؤدي إلى تداعيات سلبية على الاستثمارات المالية.
وبموجب التعديلات الجديدة، ستُجبر البنوك على فتح حسابات المتعاملين أمام سلطات التحقيق القضائي والضريبي في حالات مثل التهرب الضريبي وغسيل الأموال.
كما ستتمكن مؤسسات مكافحة الفساد من الوصول إلى البيانات المصرفية للأفراد المشتبه بتورطهم في قضايا فساد، بما في ذلك تحويلات الأموال التي قامت بها الشخصيات السياسية والتجارية والمصرفية إلى الخارج خلال الأزمة المالية.
ويقول الخبراء إن إقرار تعديل قانون السرية ومعه قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي يمثل خطوة مهمة نحو مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية.
ولكن التحدي الأكبر يبقى في قدرة الحكومة التي يرأسها نواف سلام على تنفيذ إصلاحات ضرورية في ظل ظروف سياسية واقتصادية صعبة واستعادة الثقة لبناء القطاع المصرفي من جديد.
وأوضح جابر أن لبنان يتفاوض حاليا مع البنك الدولي على قروض عديدة أحدها لتأسيس صندوق بقيمة 250 مليون دولار لإعادة البنى التحتية في المناطق المتضررة. وقال إن شروط المؤسسة الدولية المانحة في هذا الصدد هي فقط “الإصلاح”.
وردا على سؤال بشأن توقعاته لمساعدات خليجية قال إن “دول الخليج وقفت إلى جانب لبنان واليوم هم ينصحوننا بمعالجة وضعنا.”
وفي بلد تقف فيه البنوك على أنقاض الثقة، وتروى فيه قصص المودعين المتضررين من تفجر أزمة 2019، لا يمر تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان المركزي كخبر روتيني.
واعتمد تمويل الدولة بشكل متزايد على الاستدانة بالدولار من البنوك، وهذه البنوك بدورها كانت تستقطب ودائع اللبنانيين والمغتربين بفوائد مرتفعة لتعيد إيداعها في مصرف لبنان.
وهكذا تولدت حلقة مغلقة، حيث المودعون يمولون البنوك، التي تمول بدورها المصرف المركزي، وهذا الأخير يمول الدولة. وكل شيء كان يسير على ما يرام حتى توقف كل شيء.
وأكد كريم سعيد حاكم المركزي المعين حديثا في وقت سابق هذا الشهر أن على البنك التركيز على مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب في وقت يبدأ فيه مهمته لإنقاذ القطاع المصرفي الهش وإزالة اسم لبنان من “القائمة الرمادية” لمجموعة العمل المالي (فاتف).
التحدي الأكبر يبقى في قدرة الحكومة على تنفيذ إصلاحات ضرورية في ظل ظروف سياسية واقتصادية صعبة
وأدرجت فاتف العام الماضي لبنان على قائمة الدول التي تتطلب تدقيقا خاصا، في خطوة أثارت قلقا من أنها قد تثبط الاستثمار الأجنبي الذي يحتاجه البلد للتعافي من أزمة مالية منذ خمس سنوات ولا تزال آثارها ملموسة حتى الآن.
وتمويل الإرهاب وغسيل الأموال من أبرز مخاوف الولايات المتحدة، التي تريد منع جماعة حزب الله اللبنانية من استخدام النظام المالي والتدفقات النقدية عبر البلاد لإعادة بناء نفسها.
وذكر سعيد، الذي عين الأسبوع قبل الماضي، أولوياته الرئيسية خلال تسلمه منصبه رسميا من القائم بأعمال حاكم المصرف المركزي المنتهية ولايته وسام منصوري.
وأضاف “سيعمل المركزي على القضاء على الاقتصاد غير الشرعي.” وأوضح أنه سيعمل على تحديد من لهم نفوذ سياسي ومالي وأقاربهم ومن يرتبط بهم.
ويخلف سعيد الحاكم المؤقت وسيم منصوري الذي أشرف على البنك منذ انتهاء ولاية رياض سلامة في 2023، نتيجة للانهيار المالي واتهامات بالاختلاس، وهي اتهامات ينفيها سلامة.
وبسبب انتشار الفساد وهدر الإنفاق من الطبقة الحاكمة، شهد لبنان انهيارا ماليا أصاب النظام المصرفي بالشلل وتسبب في خسائر تقدر بنحو 72 مليار دولار.
وقال سعيد إن “المصرف المركزي سيعمل على إعادة جدولة الدين العام وسداد مستحقات المودعين ودعا البنوك الخاصة إلى زيادة رؤوس أموالها عبر ضخ تمويل جديد تدريجيا.”
وشدد على أن البنوك غير القادرة أو غير الراغبة في ذلك عليها أن تسعى إلى الاندماج مع مؤسسات أخرى وإلا فستتعرض للتصفية بطريقة منظمة مع إلغاء تراخيصها وحماية حقوق المودعين فيها.
كما تعهد سعيد بحماية استقلالية المصرف المركزي من أثر الضغوط السياسية ومنع تضارب المصالح.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :