التعامل مع الودائع: عالقون بين حتمية الخسائر ومحدودية الخيارات

التعامل مع الودائع: عالقون بين حتمية الخسائر ومحدودية الخيارات

 

Telegram

 

لا يزال البحث في مصير الودائع في القطاع المصرفي جارٍ. وبينما تحاول الأطراف السياسية المختلفة أن تتعاطى مع الملف بشكل شعبوي تحت عنوان «قدسية الودائع» أو «ردّ الودائع»، يُستبعد الحديث عن الملف باعتباره توزيعاً لخسائر كبيرة ومتراكمة وقعت في القطاع المصرفي نتيجة عقود من السياسات النقدية والمصرفية السيئة.

حجم الخسائر يفوق 80 مليار دولار، وخيارات التعامل معها ينطلق من إشكالية أساسية: من يتحمّل هذه الخسائر؟

من الواضح أنه ليست هناك وجهة واحدة لدى السلطة؛ هناك من يريد تحميل الدولة الجزء الأكبر من الخسائر عبر «إيراداتها» أو بيع أصولها من مؤسسات وشركات واحتياطات الذهب، وهناك من يريد تحميل المصارف باعتباره الجهة المسؤولة عن الأموال التي تلقتها من الجمهور ووظّفتها لحسابها.

صراع كهذا لم يظهر أفق المعالجة إلا ضمن سلّة بنود جرى تضمينها في خطة الحكومة السابقة المبنية على توزيع الخسائر على الجميع بأوزان مختلفة نسبياً: اقتطاع الودائع، تحويل جزء منها إلى سندات بلا قسيمة (zero coupon bond)، وتحويل جزء إلى سندات أبدية (perpetual bonds)، وتحويل جزء إلى أسهم في المصارف، تسديد جزء نقدي على مدى 11 سنة، وتحويل جزء آخر إلى ليرة ضمن مدة زمنية، شطب الفوائد الإضافية، وإنشاء صندوق يشمل مؤسّسات الدولة واستخدام إيراداته في تسديد جزء من الودائع.

المصارف تركّز على تحميل
الدولة جزءاً كبيراً من الخسائر

كل هذه المرحلة من الخيارات تقوم على حلول مالية تقنية بعيداً من أي رؤية للمستقبل أو للاقتصاد. حتى في تصنيف الودائع لترحيلها إلى وجهة التعامل، يتم الأمر بعيداً من أي رؤية.

فالآلية التي اقترحت للمعالجة تقوم على توزيع الودائع بين «مؤهّلة» و«غير مؤهلة»، وهذا يفترض أن تكون هناك معايير اقتصادية واجتماعية في إطار المصالح الكبرى، لكن اعتُمدت معايير سطحية تقوم على رسم فاصل زمني بين ودائع ما قبل 17 تشرين 2019، والودائع التي حوّلت إلى الدولار بعد ذلك. ليس مفهوماً كيف تم التوصّل إلى هذا الخط الزمني للفصل بين الودائع، لكن التصنيفات اللاحقة هي أكثر وضوحاً مثل تصنيف الودائع بحسب مصدرها وقدرة صاحبها على إثبات مشروعيتها، ثم سيتم اقتطاع الفوائد على الودائع التي تزيد، في حينه، عن معدلات أسعار الفائدة العالمية.

تُقدّر الخطّة أن حجم الفوائد الإضافية يبلغ 4 مليارات دولار. كما تضمن الخطّة إعادة أموال الودائع تحت 100 ألف دولار نقداً للودائع المؤهلة وتحت 36 ألف دولار نقداً للودائع غير المؤهلة، وحجمها يُقدّر بنحو 18.7 مليار دولار، 11.8 مليار منها مؤهّلة و6.9 مليارات منها غير مؤهلة، ويتم التعاطي مع كل منها بطريقة مختلفة. وهذه المبالغ تُسدد 50% من المصارف و50% من مصرف لبنان.

أما الودائع التي تزيد عن 100 ألف فتُرد عبر تحويلها إلى ليرة (إلى حد 500 ألف دولار)، وهذه الأموال تُسدد عبر مصرف لبنان فقط. والأموال التي تزيد عن 500 ألف دولار فمنها ما يُحوّل إلى أسهم في المصارف ومنها ما يُحوّل إلى سندات تُسجّل على الدولة وتُموّل عبر صندوق استرداد الودائع من إيرادات مؤسسات الدولة.

في محصّلة هذه الخطة تكون الدولة، ممثلة بالحكومة ومصرف لبنان، أكبر المساهمين في تحمّل الخسائر. فهي ستسهم بنحو 8.4 مليارات دولار كتسديدات نقدية على مدى 11 سنة، كما إنها مسؤولة عن تسديد نحو 24 مليار دولار عبر السندات المتنوعة (سندات أبدية وسندات القسيمة الصفرية)، على مدى السنوات. والأسوأ أن الخطة تتضمن أن يصرف مصرف لبنان نحو 833 تريليون ليرة على مدى 11 سنة، وهو ما سيكون له تداعيات كبيرة على الوضع النقدي في البلد، عبر خسارة العملة المحلية لقيمتها في السوق بسبب التدفقات السنوية الكبيرة.

أما المصارف فتتحمل نحو 8.4 مليارات دولار نقداً على مدى 11 سنة، في حين أنها تتحمّل خسارة تُقدّر بنحو 9.4 مليارات دولار بسبب عملية الإنقاذ من الداخل (bail-in)، كما ستحتاج المصارف إلى إعادة رسملة بقيمة 5 مليارات دولار.

وأخيراً، المودعون سيخسرون جزءاً من أموالهم عبر اقتطاع فوائض الفوائد المدفوعة سابقاً، والأموال غير المُصرّح عن مصدرها. وهناك خسارة أخرى، تتمثّل بأن هؤلاء المودعين سيخسرون قيمة أموالهم، حتى لو أخذوها بالدولار، إذ إنها ستُسدد على مدة 11 سنة، بقيمتها الموجودة حالياً، وهذا سيعرضها للتآكل عبر التضخّم السنوي. أما الأموال التي ستُسدد بالليرة اللبنانية، فستفقد قيمتها بفعل ضخ هذا الحجم الكبير من الليرات سنوياً، والتي ستسهم في انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار، وبالتالي انخفاض قيمتها، ما يعني أن المودعين سيخسرون قيمة ودائعهم المُسددة بالليرة وبالدولار.

أما المواطن العادي، فهو أحد الخاسرين الكبار من هذه العملية. إذ سينعكس انخفاض قيمة العملة على قدرته الاستهلاكية (خصوصاً موظفي الدولة الذين يتلقون رواتبهم بالليرة)، كما سيخسر المواطنون إنفاق الدولة بكل أنواعه (استثماري أو تشغيلي وغيره) بسبب تحويل جزء كبير من إيرادات مؤسسات الدولة إلى عملية سداد الودائع، وهو ما سينعكس على التدهور الإضافي في نوعية الخدمات ومدى توافرها للمواطنين.

التركيز على تحميل الدولة جزءاً كبيراً من الخسائر لا ينعكس سلباً على المواطنين فقط، بل على المودعين أنفسهم أيضاً، وستحمّل أجيالاً قادمة مسؤولية أخطاء لم يرتكبوها. وهو هروب من فكرة تحميل المسؤولية للأطراف والشخصيات التي أسهمت في الأزمة بشكل مباشر. كما إنه هروب من واقع أن الأموال تبخّرت، ولم تعد موجودة.

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram