يستند النظام الضريبي إلى مجموعة من الأسس الفلسفية الأساسية، التي تعكس قيم المُجتمع والنظريات الإقتصادية والأولويات السياسية. ولا تقتصر شرعية النظام الضريبي على هذه الأسس، بل هو مدعوم بعدد من النظريات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، التي أدّت إلى تشريع مفهوم ما كان يُسمّى في قديم الزمان <خوّة>، ليُصبح عنصرا من عناصر السيادة الوطنية.
ومع العيوب التي تطال النظام الضريبي اللبناني، وبداية عهد الرئيس جوزاف عون الذي يُعوّل عليه اللبنانيون لبناء دولة مؤسسات، أصبح من الضروري إعادة النظر بالنظام الضريبي اللبناني، وإعادة شريحة كبيرة من اللبنانيين إلى الكنف السيادي للدوّلة.
فلسفة النظام الضريبي
يستند النظام الضريبي في كينونته على عددٍ من الأسس التي جعلته حاجة للمجتمعات، أكثر منه <إقتناص للأموال الخاصة> من قبل سلطة شرعية:
– أولاً : تُستخدم الضرائب في خلق إيرادات لتمويل السلع والخدمات العامة. وبالتالي ينصّ العقد الإجتماعي على أن المواطن يُساهم في تمويل الدولة، مُقابل خدمات أساسية وسلع تُقدّمها الحكومة ويعجز المواطن عن تقديمها لنفسه (الطرقات، الجيش، التعليم، الرعاية الصحية، الأمان الإجتماعي…). وبالتالي هي مسؤولية جماعية لتمويل هذه الإحتياجات.
– ثانياً : العدالة الإجتماعية هي من الأدوار التي أُنيطت بالحكومات في سياساتها المالية، وبالتالي تهدف الأنظمة الضرائبية إلى تحقيق درجة من العدالة في إعادة توزيع الثروات، عبر توزيع عادل للعبء الضريبي بين مُختلف فئات المُجتمع. وهناك نوعان من العدالة في روحية الأنظمة الضريبية: الأولى الأفقية، حيث يدفع ضريبة مُماثلة كل من يكون في وضع إقتصادي مُماثل، والثانية العامودية، حيث يُساهم من هو وضعه الإقتصادي أفضل بقدر أكبر في الضرائب.
ويُعتمد في العديد من البلدان نظام الضريبة التصاعدية ، التي تنصّ على تزايد المُعدّلات الضريبية مع زيادة الدخل. كما هناك مبدأ آخر يُعتمد في بعض الأنظمة، وهو مبدأ المنافع حيث يُساهم أكثر من يستفيد أكثر من الخدمات العامة.
– ثالثاً : من وجهة نظر إقتصادية، يُساعد النظام الضريبي في تقليل التشوهات التي تطال النشاط الإقتصادي، على مثال الإدخار الكبير الذي يُمكن إستخدامه في الإستثمارات، وبالتالي تقوية الماكينة الإقتصادية مما يعود بالفائدة على الجميع. وتقترح ضرائب Pigouvian أن يتمّ إستخدام الضرائب لتصحيح العوامل السلبية الخارجية (تلوّث مثلًا)، عن طريق إستيعاب تكاليف الأنشطة الضارة. في حين يُنادي بعض الإقتصاديين بمبدأ الحياد، حيث لا تفضيل لقطاع إقتصادي على أخر.
– رابعاً : إجتماعيا تبقى إعادة توزيع الثروات بين الأفراد، عنصرا أساسيا في عملية تقليل عدم المساواة بين فئات المُجتمع. وتُساعد الضرائب في تمويل البرامج الإجتماعية، مما يؤدّي إلى الرفاهية بين شرائح المُجتمع المهمّشة. وفي بعض الأحيان تقوم الحكومات بتحفيز العمل الخيري أو الإجتماعي عبر إعفاء التبرعات من الضرائب.
– خامساً : من وجهة النظر السياسية، تُعتبر الضرائب سيادية، وبالتالي تأخذ شرعيتها من الدستور وهو ضمانة لتطبيقه. وفي نفس الوقت يتوجّب على الحكومة إعتماد شفافية مُطلقة، لشرح حجم وكيفية إنفاق الأموال (قطوعات الحساب).
نظام ضريبي فعّال
تقول المرأة الحديدية <مارغريت ثاتشتر> أن الشعوب لا يُمكن أن ترى الإزدهار، إذا ما قامت حكوماتها بتحميلها عبئا ضريبيا كبيرا. وبالتالي تصميم نظام ضريبي فعال يوازن بين خلق إيرادات وكفاءة إقتصادية وعدالة إجتماعية، هو مهمة معقدة. لذا يتمّ إعتماد نظام بحسب المبادئ التوجيهية: العدالة، الكفاءة الإقتصادية، سهولة الفهم والإمتثال، الكفاية.
المعروف عالميا أن المكونات الرئيسية للنظام الضريبي هي: ضريبة الدخل، الضريبة على القيمة المضافة، الضرائب العقارية، الضرائب الإنتقائية، الضرائب البيئية، الضرائب الإجتماعية… ولضمان تنفيذ دقيق وعادل للنظام الضريبي، تنصّ الـ Best Practices على أن يكون هناك إدارة ضريبية قوية لضمان الإمتثال، وإستخدام المكننة، ومحاربة الإقتصاد النقدي، وتثقيف الشعب، وعدم فرض ضرائب تفوق قدرة الشعب على التحمّل، وإعتماد الشفافية المُطّلقة والعدالة في التطبيق. بالطبع يُمكن تحديث النظام الضريبي سنويا، من خلال تحليل ما حصل في العام السابق وإجراء التعديلات اللازمة.
النظام الضريبي في لبنان
يعاني النظام الضريبي اللبناني من نقاط ضعف عديدة، تساهم في عدم فعاليته وعدم عدالته وتشويه هيكليته:
– أولاً : يعتمد النظام الضريبي اللبناني بشكل كبير على الضرائب التراجعية، حيث نرى أن الضريبة على القيمة المضافة تؤمّن جزءا كبيرا من دخل الخزينة، وبالتالي هي تؤثّر بشكلٍ كبير على الطبقة الفقيرة. في نفس الوقت، هناك محدودية للضرائب التصاعدية، حيث نرى مُعدّلات ضريبية مُنخفضة نسبيا للدخل الفردي.
– ثانياً : ضعف التنفيذ والإمتثال الناتج بالدرجة الأولى عن التهرّب الضريبي والتحصيل غير الفعّال والإعتماد على الورق. كل هذا مُغذى بالفساد الذي يحميه النفوذ السياسي.
– ثالثاً: وجود إقتصاد «الكاش» الذي يضرب مداخيل الدولة بشكلٍ كبير، وتصاعد التهرّب الضريبي في السنوات التي تلت بدء الأزمة، مع غياب قدرة على الملاحقة نتيجة التدخل السياسي وعدم إستقلالية القضاء.
– رابعاً : غياب المساواة والإعفاءات غير المبرّرة: يكفي النظر إلى الضرائب على الشركات والأفراد، لمعرفة اللامساواة في النظام الضريبي اللبناني. كما أن الإعفاءات تُضعف الصحن الضريبي، مع غياب تبرير واضح لهذه الإعفاءات (حال الأملاك البحرية والنهرية).
– خامساً : غياب الشفافية والمساءلة: غياب الشفافية المُتمثّل بغياب قطوعات الحساب وغياب حق الوصول إلى المعلومات، يؤدّي إلى خلق شعور لدى المواطن بعدم شرعية الضرائب. كما أن غياب المحاسبة للفاسدين تؤدّي إلى تحفيز الآخرين على التهرّب الضريبي.
– سادسا : الإستنسابية في تحصيل الضرائب، التي لا تُعامل الشعب اللبناني على قدم المساواة كما نصّ عليه الدستور اللبناني.
– سابعا : لا يتمّ إستخدام الضرائب المُحصّلة في مكانها الصحيح، وهو ما يؤدّي إلى عدم الكفاءة والفساد والنقص في الشفافية، وكلها عوامل تؤدّي إلى ضعف النظام الضريبي في لبنان (أكثر من 60% من الشعب اللبناني لا يمتلك رعاية صحّية).
ولمعالجة هذه النقاط يتوجّب على الحكومة العمل على إصلاح النظام الضريبي من خلال:
– أولاً : تعزيز قدرة الإدارة الضريبية في وزارة المال، ومكافحة التهرّب الضربي والفساد، وتعزيز الشفافية وإصلاح الإطار القانوني، لضمان قانون عادل واضح وقابل للتنفيذ.
– ثانياً: تحسين الحوكمة الرشيدة والمساءلة في الإنفاق العام ،لإستعادة ثقة المواطن بمؤسساته، وهو ما يتطلّب إلتزام من القوى السياسية.
– ثالثاً : تحديث الإدارة الضريبية من خلال المكننة وتبسيط الإجراءات الضريبية وتقليل الأعباء الإدارية. كما يتوجّب تقوية التدقيق وتنفيذ العقوبات على المخالفين، وتحسين التبادل الضريبي عبر الحدود. ويبقى الأهم ضرب الإقتصاد النقدي، عبر وضع سقوف للعمليات النقدية ومكننة المعاملات التي تتخطّى سقف مُعين.
– رابعاً : إصلاح قانون الضرائب من خلال إعتماد الضرائب التصاعدية (مساهمة أكبر للدخل الأعلى)، وتوسيع القاعدة الضربيية من خلال إلغاء الإعفاءات غير المبرّرة، وفرض ضرائب جديدة على القطاعات التي لا تطالها الضرائب (وهي كثيرة). أيضًا يتوجّب تبسيط المعاملات الضريبية ، التي تتطلّب في أغلب الأحيان أخصائيين للتصريح عنها، وإلغاء الثغرات التي تؤدّي إلى تجنّب الضرائب، والقيام بحملات إعلانية (فيديوهات أو صور) بسيطة، تسمح للمواطن العادي بالتصريح عن مداخيله عبر الإنترنت.
– خامساً : يتوجّب على الحكومة نشر المعلومات المتعلّقة بالضرائب بشكلٍ منتظم، وضمان شفافية إستخدام المال العام. ولعل إقرار قطوعات الحسابات منذ العام 2004 وحتى العام 2024 هو على رأس الأولويات.
بالطبع هذه الإجراءات يجب أن تكون بالتوازي مع الإصلاحات المطلوبة من لبنان من قبل صندوق النقد الدولي، لضمان الإستقرار الإقتصادي والنقدي، وسلوك طريق التعافي، وتعزيز النمو الإقتصادي، وتدعيم شبكات الأمان الإجتماعي.
إلا أنه في المقابل هناك عقبات قد تواجه الحكومة نذكر منها: المقاومة السياسية، المصالح الخاصة، قلّة ثقة الشعب بالحكومة، غياب الشفافية… وغيرها من العوامل التي تجعل من أي إصلاح حبرا على ورق لن يرى طريق التنفيذ.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :