قلم ترامب يعيد رسم خرائط الاستعمار - Daraj
رنين عواد
تُعيد الترامبية تشكيل النظام العالمي عبر إحياء مفهوم مناطق النفوذ الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر، والذي يمنح القوى الكبرى حق السيطرة على المناطق القريبة منها جغرافياً. هذا النهج، يقدّم المصالح على السيادة الوطنية ومبادئ القانون الدولي.
من تحويل كندا إلى الولاية الواحدة والخمسين لأميركا، إلى انتزاع قناة بنما، وشراء جزيرة غرينلاند، وحتى فكرة “امتلاك” غزة وتحويلها إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، أثارت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب جدلاً واسعاً. بين من يراها مجرد استعراض سياسي، أو مقترحات استفزازية، أو محاولات لفرض قوته على طاولات المفاوضات، أو حتى أفكار غير منضبطة وخارجة عن المألوف، وبين من يرى أنها انعكاس لرؤية جيوسياسية أوسع وامتداد للخطط التوسّعية، التي تبنّاها الرئيسان ثيودور روزفلت وأندرو جونسون في القرن التاسع عشر.
في هذا السياق، قال دانييل إيميروار أستاذ التاريخ في جامعة نورث وسترن، إن ثيودور روزفلت وأندرو جاكسون هما أبرز شخصيتين تاريخيتين يمكن مقارنتهما بترامب في ما يتعلق باستعراض القوة، إذ كانا “يستمتعان بالقدرات التي تمنحها القوة العسكرية الأميركية”.
قبل الحرب العالمية الثانية، اعتمدت القوى الكبرى على تقسيم مناطق النفوذ عبر اتفاقيات مثل سايكس بيكو ومبدأ مونرو ووعد بلفور. وسبق أن ضمت أميركا أراضي شاسعة مثل ولايات لويزيانا وفلوريدا وكاليفورنيا ومانهاتن عبر الشراء. لكن مع انتهاء الحرب، وضع ميثاق الأمم المتحدة حداً لهذا النهج، محرماً الاستيلاء على الأراضي بالقوة. وعلى الرغم من ذلك، استكملت إسرائيل عملية ضم الأراضي بالقوة بمباركة ترامب، تحت مسمّى صفقة القرن.
تُعيد الترامبية تشكيل النظام العالمي عبر إحياء مفهوم مناطق النفوذ الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر، والذي يمنح القوى الكبرى حق السيطرة على المناطق القريبة منها جغرافياً. هذا النهج، يقدّم المصالح على السيادة الوطنية ومبادئ القانون الدولي.
وتعطي تصريحات ترامب حول التوسّع الإقليمي والمطالبات الأميركية بمناطق مثل غرينلاند وبنما، ضوءاً أخضر لقوى إقليمية أخرى لتبرير سياساتها التوسّعية وإعادة تشكيل خريطة النفوذ العالمي، وفقاً لقواعد القوة بدلاً من القانون.
يُعدّ ضم روسيا غير القانوني للقرم عام 2014 سابقة خطيرة، إذ تجاهلت موسكو ميثاق الأمم المتحدة، واستخدمت القوة لفرض واقع جديد، أثار مخاوف عالمية بشأن إمكانية عودة ممارسات الضم القسري. وقد تمنح تصريحات ترامب ذريعة لدول أخرى تتبنّى سياسات توسّعية؛ مثل روسيا التي تزعم أحقيّتها في أوكرانيا، والصين التي تعتبر تايوان جزءاً منها، لإعادة تشكيل خرائط نفوذها مستغلّة ضعف الردع الدولي.
طموحات ترامب التوسّعية دفعت رئيس الوزراء التركي الأسبق داود أوغلو إلى إحياء حقبة الدولة العثمانية في الشرق الأوسط. وتعليقاً على مشروع “ريفييرا الشرق”، أشار أوغلو إلى أن “الدولة الشرعية التي حكمت فلسطين وأهل غزة هي الدولة العثمانية”، وطرح أنه “يجب على أهل غزة إجراء استفتاء بصفتهم رفاق تاريخ ومواطنين، ويجب ربطهم بالجمهورية التركية كمنطقة مستقلّة تتمتّع بالحكم الذاتي حتى يتم إنشاء دولة فلسطين”.
“تصرّفات ترامب تُنبئ بتحوّل دائم في المشهد السياسي، وليس مجرد تغيير يمكن التراجع عنه بعد أربع سنوات”، وفقاً لـ هيذر هورلبورت خبيرة الشؤون السياسية والدولية في المعهد الملكي للشؤون الدولية Chatham House.
وفي هذا السياق، يعتبر خبراء الأمم المتحدة أن تصريحات من قوة كبرى ستكسر المحظور العالمي بشأن العدوان العسكري، وتشجّع دولاً أخرى ذات نزعات توسّعية على الاستيلاء على أراضي الغير، ما ستكون له عواقب مدمرة على السلام وحقوق الإنسان في العالم”. ويرى الخبراء أن “الانتهاكات تحل مكان سيادة القانون الدولي وما توفّره من استقرار، بمنطق “حكم الأقوى” الذي لا يخضع لأي ضوابط”.
تعليقاً على تصريحات ترامب، وصفت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أنييس كالامار خطة ترامب للسيطرة على غزة وتهجير سكانها بأنها “شكل من أشكال الاستعمار في القرن الحادي والعشرين”، إذ تُعيد إلى الأذهان القرن التاسع عشر عندما كانت الدول الأكثر قوة تستولي على الدول الأضعف”. بدوره، قال وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو: “لقد دخلنا عصراً يشهد عودة قانون الأقوى”.
الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي قال إن “ما يطرحه ترامب ليس فقط دعوة لجريمة حرب، بل دعوة لتمزيق القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وإنهائهما”، معتبراً أن السماح لترامب بتمرير هذه الأفكار، يعني أن العالم لا يعيش وفقاً للقانون الدولي، الذي طُوّر بعد الحرب العالمية الثانية، وأضاف: “الآن، الرسالة مفادها أن ذلك كله لم يعد موجوداً، العالم محكوم بشريعة الغاب”.
على متن طائرة رئاسية، فكر ترامب في غزة “كمشروع عقاري ضخم” تملكه الولايات المتحدة وتعمل على تطويره، على حد تعبيره. لاحقاً، رداً على سؤال حول عملية شراء القطاع، أجاب ترامب: “لن نشتري أي شيء، سنأخذه”. “تحت أي سلطة ستأخذ غزة؟” سأل الصحافيون ترامب فأجاب: “تحت سلطة الولايات المتحدة”، مقترحاً أن يُعاد تطوير المنطقة ببناء فنادق جديدة ومباني مكاتب ومنازل. وسبق أن استخدمت القوى الاستعمارية قديماً مشاريع اقتصادية كذريعة للاستيطان وتهجير السكان الأصليين.
يطرح ترامب فكرة إيجاد قطعتي أرض في مصر والأردن لنقل مليوني فلسطيني من داخل قطاع غزة لتحقيق حلمه ببناء “ريفييرا الشرق الأوسط”، وخلال اجتماعه مع ملك الأردن عبدالله الثاني، استخدم سياسة الإكراه قائلاً: “نحن نقدّم الكثير من الأموال للأردن ومصر، الكثير، لكليهما. ولكن ليس عليّ أن أهدد بذلك”. في عام 2023، تلقّت مصر مساعدات أميركية بقيمة 1.45 مليار دولار، بينما بلغت قيمة المساعدات المقدّمة للأردن 1.72 مليار دولار. وذكر موقع “العربي الجديد” أن المبعوث الأميركي إلى مصر اقترح مشاركة الولايات المتحدة في حل أزمة سد النهضة مع أثيوبيا، لكن بشرط التعاون في نقل سكان غزة إلى مصر والأردن.
رفضت الدولتان مقترح ترامب، إذ شدد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والملك الأردني عبدالله الثاني على “أهمية بدء عملية إعادة إعمار قطاع غزة بشكل فوري، مع عدم تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه”، وأكّد المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية محمد الشناوي، أن السيسي والملك عبدالله “أبديا حرصهما على التعاون الوثيق مع الرئيس الأميركي ترامب بهدف تحقيق السلام الدائم في منطقة الشرق الأوسط، وقيامه بقيادة مسار يؤدّي إلى هذا الهدف المنشود الذي طال انتظاره، بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية وفقاً لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وضمان التعايش السلمي بين كل شعوب المنطقة”.
يعتمد ترامب مبدأ القوة المفرطة والإكراه لإنشاء النيو- إمبراطورية. وفي تصريحات سابقة، لم يستبعد استخدام القوة العسكرية أو الاقتصادية لإقناع الدنمارك بتسليمه غرينلاند، التي تتمتّع بحكم ذاتي في ظل السيادة الدنماركية. في عام 2019، أعاد ترامب الطرح الأميركي حول شراء غرينلاند، حينها وصفته رئيسة وزراء الدنمارك بالفكرة “السخيفة”. يرى ترامب في ذوبان الجليد الناتج من أزمة التغيّر المناخي، التي يرفض الاعتراف بها، فرصة للتنقيب عن النفط وغيره من المعادن في الجزيرة الأكبر في العالم. وبعد طرحه الفكرة مجدداً، أكّد رئيس وزراء غرينلاند موتي بوروب إيغيدي، أن غرينلاند “ليست للبيع ولن تكون أبداً”، وأضاف “نحن سكان غرينلاند، لا نريد أن نكون أميركيين، ولا نريد أن نكون دنماركيين أيضاً. مستقبل غرينلاند سيقرره أهل غرينلاند”.
أما بالنسبة إلى قناة بنما، فقد ذكر ترامب خلال حفل تنصيبه أنه يزعم استعادتها، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة فقدت حوالي 38000 شخص لبنائها، وقال: “الصين تُدير قناة بنما، ولم نعطها للصين، لقد أعطيناها لبنما، ونحن نستعيدها”. رئيس بنما خوسيه راؤول مولينو، قال إن “القناة بنمية وستبقى كذلك”. في السياق عينه، صرّحت الخارجية الأميركية عبر حسابها على موقع”إكس” أن “الحكومة البنمية وافقت على عدم فرض رسوم على السفن الأميركية العابرة للقناة”، ولكن، أعلنت هيئة قناة بنما في بيان أنها “تتمتّع بسلطة تحديد الرسوم والحقوق الأخرى لعبور القناة، وأنها لم تجرِ أية تعديلات على هذه الحقوق”.
عندما سُئل الرئيس الأميركي عما إذا كان يستطيع طمأنة العالم بأنه لن يستخدم الإكراه العسكري أو الاقتصادي أثناء محاولته السيطرة على قناة بنما وغرينلاند، قال: “لا، لا يمكنني أن أؤكّد لكم ذلك بشأن أي من الأمرين”. وفي سؤال حول ما إذا كان يفكر أيضاً في استخدام القوة العسكرية لضم كندا والاستيلاء عليها، أجاب: “لا، القوة الاقتصادية، لأن كندا والولايات المتحدة… هذا سيكون مذهلاً. نتخلّص من ذلك الخط المرسوم بشكل مصطنع”. لاحقاً وقّع ترامب أوامر تنفيذية تقضي بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المئة على جميع الواردات، بالإضافة إلى رسوم بنسبة 10 في المئة على منتجات الطاقة، وتأتي هذه الأوامر رداً على تصريح رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، الذي قال: “كما قلت بشكل لا لبس فيه منذ البداية، لا توجد فرصة في الجحيم أن تصبح كندا الولاية رقم 51″، متابعاً “يتعين علينا أن نأخذ ما يقوله على محمل الجد”، وسبق أن أشار ترامب إلى أن كندا “ستكون أفضل” في حال وافقت على الأمر.
هل يمكن الاستيلاء على الدول؟
تتجاهل تصريحات ترامب الأعراف والممارسات الدولية السائدة، بخاصة بعد مرحلة إنهاء الاستعمار التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ونشأة الأمم المتحدة. في تصريحاته، مزّق ترامب القانون الدولي، متجاهلاً مبادئ السيادة وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
تنصّ المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة على حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتحظر المادة 2 (4) من ميثاق الأمم المتحدة التهديد باستخدام القوة، أو استخدامها للاستيلاء على أراضي الشعوب، وهو الأمر الذي أكّده سفير بنما لدى الأمم المتحدة إلوي ألفارو دي ألبا، في تعليقه على رغبة ترامب في استعادة السيطرة على قناة بنما.
سبق أن اعتبرت محكمة العدل الدولية أن احتلال إسرائيل غزة غير قانوني، وبالتالي لا يمكن أن تسلّم إسرائيل غزة للولايات المتحدة الأميركية. ووفقاً للمادة 49 من اتفاقية جنيف “يُحظر النقل القسري الفردي أو الجماعي، وكذلك ترحيل الأشخاص المحميين من الأراضي المحتلة إلى أراضي القوة المحتلة، أو إلى أي بلد آخر، سواء كان محتلاً أم لا، بغض النظر عن الدافع وراء ذلك”. ولهذا السبب، أثنى مندوب الكويت لدى الأمم المتحدة طارق البناي، على “الموقف الحازم للمجتمع الدولي في رفض هذه المقترحات”، معتبراً أن “هذا غير مقبول، سواء كان ضد شعب فلسطين أو أي دولة أخرى”. واعتبرت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أنييس كالامار، أن “أي خطة لترحيل الفلسطينيين قسراً خارج الأراضي المحتلة ضد إرادتهم، تُعدّ جريمة حرب، وعندما تُرتكب كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد السكان المدنيين، فإنها تشكّل جريمة ضد الإنسانية”.
قضية شراء غرينلاند تتعلق بجوانب كثيرة معقدّة، بما في ذلك حقوق السكان الأصليين في الجزيرة، وتشكّل الأطماع بالنفط والمعادن الموجودة في الجزيرة، تهديداً لحقوق هؤلاء السكان وثقافتهم وطرق عيشهم. “للشعوب الأصلية الحق في تقرير المصير”، ولأفرادها حق في “عدم التعرّض للدمج القسري أو لتدمير ثقافتهم”، وفقاً لإعلان الأمم المتحدة بشأن الشعوب الأصلية الصادر في عام 2007. يُعدّ الاستيلاء على أرضهم من دون موافقتهم انتهاكاً للقانون الدولي وحقوق الإنسان.
ينصّ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، على أن “للشعوب كافة حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي، وحرة في السعي الى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”، ويحظر ميثاق الأمم المتحدة، واتفاقيات جنيف، والقانون العرفي الدولي الضم القسري للأراضي، ويعتبره انتهاكاً صارخاً للأمن والسلام الدوليين. فهل نحن أمام نظام عالمي جديد يُعيد رسم الخرائط بقوانين القوة على حساب القانون الدولي؟
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :