يمكن اطلاق وصف "بلفور" القرن الواحد والعشرين على الرئيس الاميركي دونالد ترامب، الذي يكمل ما بدأه وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور مطلع القرن العشرين، الذي اعطى وعداً ليس حقوقياً "لليهود"، لانشاء وطن قومي لهم على ارض فلسطين في 2 تشرين الثاني 1917 وهذا ما اعلنه ترامب بشأن غزة في ترحيل اهلها وسكانها، وطردهم من ارضهم الى مصر والاردن كمرحلة اولى، ودول اخرى في مرحلة ثانية، بما يؤدي الى استكمال مشروع "اسرائيل الكبرى" التي يؤمن ترامب كغيره من رؤساء اميركا واداراتها المتعاقبة الجمهورية والديموقراطية، بأن "اسرائيل" وجدت لتبقى، ولكن ليست صغيرة. كما سأل ترامب رئيس حكومة العدو "الاسرائيلي" بنيامين نتنياهو عندما التقاه قبل انتخابه لولاية رئاسية ثانية: لماذا "اسرائيل" ما زالت صغرى؟
وهذا السؤال "الترامبي" كان بدأ وضعه موضع التنفيذ في رئاسته الاولى، عندما وافق على ضم الجولان الى "اسرائيل" بقانون اصدره "الكنيست الاسرائيلي" عام 1981 ، والاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية ونقل السفارة الاميركية اليها، في وقت شجع الرئيس الاميركي الحكومة "الاسرائيلية" على ضم الضفة الغربية نهائياً، كجزء من "ارض اسرائيل" المسماة بالتوراة "يهودا والسامرة"، التي منها انطلقت مملكة داود، وهذا ما بدأ نتنياهو تنفيذه، والتي اسقط "اتفاق اوسلو" في العام 1996 عندما اصبح رئيساً للحكومة، والذي سبقه اغتيال رئيس الوزراء اسحق رابين في العام 1995 على يد مستوطن يهودي متطرف في العام 1995.
فالرئيس الاميركي، الآتي الى السياسة من كونه رجل اعمال وعقارات، يتعاطي مع المسألة الفلسطينية كمساحة عقارية، وليس وطناً اسمه فلسطين، بل دولة "لليهود" التي لا تقوم الا بتطهير العرقي، وهو المشروع الصهيوني الحقيقي، الذي بدأ في مطلع القرن الماضي وما قبله، بشراء اليهود لعقارات من فلسطينيين ولبنانيين اثرياء كان لديهم اراض في فلسطين اعدها "لليهود" لاقامة مستوطنات عليها، والاستيلاء على اراض الفلسطينيين بالقوة عبر ارتكاب مجازر ومحاصرة القرى والبلدات، التي هجرها اهلها قبل نكبة 1984 وما بعدها، عندما نشأ الكيان الصهيوني بعد حرب شكلية مع جيوش عربية في القرار 1081 الصادر عن الامم المتحدة، فاعترف بدولة "اسرائيل"، او ما سمي تقسيم فلسطين في 15 ايار 1948 وضمت الضفة الغربية والقدس الى الادارة الاردنية، وغزة وسيناء الى الادارة المصرية، وهذا ما يحاول ترامب ان يفعله بتهجيرهم الى مصر والاردن.
فالمشروع الصهيوني يتقدم بالتوسع والاستيطان بدعم اميركي خصوصا وغربي عموما، وان ترامب يريد في رئاسته الثانية تحقيق ما سعى اليه اسلافه، وليست المرة الاولى التي يطرح موضوع طرد سكان غزة الى مصر، فتقدم به ايفال آلون وهو مسؤول "اسرائيلي" في العام 1967 وبناء مستوطنات في القطاع، لكن مشروعه لم يتحقق بسبب الانتفاضات المتعاقبة للشعب الفلسطيني في غزة، وهو ما حاول ايضا في الضفة الغربية تهجير سكانها الى الضفة الشرعية والمعروفة بالاردن، لاقامة "وطن بديل للفلسطينيين" فيها، وهي التي غالبية سكانها من الفلسطينيين ايضا، لكن مشروع آلون فشل في غزة والضفة الغربية، وجاء ترامب لينفذه تحت عنوان تحويل غزة الى "ريغيير الشرق الاوسط"، لنقل سكانها الى مصر والاردن لانه توجد صعوبة ان يقيموا في القطاع المهدم نحو 70% من احيائه ومنازله ومؤسساته، ويحتاج الى ما بين 10 و15 سنة للاعمار، وفق ما اكد ترامب الذي يحاول ان يقدم مشروعه العقاري بحلة انسانية، لكنه عملياً هو استعمار عقاري، يسوق له ترامب سواء في ضم كندا الى اميركا، أو في اعادة الاستيلاء على بناما واستعادة غريلاند.
وترامب المثير للجدل وصاحب المواقف المتقلبة والمتناقضة، فانما ما يروج له يلقى الاستهجان من غالبية الاميركيين، الذين يحاول رئيسهم الجديد اقناعهم بانه يعمل لمصلحة "اميركا اولا"، ولم يصرف اموال دافعي الضرائب من الشعب الاميركي على شعوب اخرى، ومساندة دول في حروبها ، وانه صاحب دعوة "للسلام" وليس للحروب، فبدأ باخراج المهاجرين غير القانونيين من اميركا، ويستكمل بناء الجدار مع المكسيك ويرفض استمرار تمويل حرب اوكرانيا ضد روسيا، ولم يمول كندا التي يريد ضمها الى اميركا، لتصبح الولاية 51، ورفع الرسوم التجارية معها كما مع الصين والمكسيك والاتحاد الاوروبي.
ويبدو ان ترامب مستمر في افكاره الانعزالية ومشاريعه الاستثمارية ومنها ما يتعلق بغزة، والمصمم ان ينقل سكانها الى مصر والاردن، مؤكدا ان النظامين فيهما سينفدان ما طلبه ترامب منهما، او سيعاملهما باسلوب مختلف، وهذا ما دفع بالملك الاردني عبدالله الثاني، ان يتوجه الى واشنطن حيث التقى ترامب، الذي ابلغه بان عليه التنفيذ، فظهر الملك عبدالله وكأنه موافق بتحفظ ، وهو على استعداد لاستقبال الفي طفل فلسطيني بحاجة الى علاج.
ولاقى مشروع ترامب لغزة وموافقته على ضم الضفة الغربية وما قام به "الكنيست الاسرائيلي" من اقرار قانون بوجود دولة واحدة هي "اسرائيل"، وليس دولتين، ارتياحا واسعا في صفوف "الاسرائيليين" لا سيما المتدينين منهم، لان ترامب هو ما سيحقق لهم "وعد الله"، لقيام "دولتهم التوراتية" في "ارض الميعاد"، من "الفرات الى النيل"، وهذه الدولة يجب ان تحصل على كل الاراضي وتهجير الشعب الموجود فيها.
فما يعمل له ترامب "شرق اوسط جديد"، الاخطر من تقسيم "المشرق العربي" في اتفاقية سايكس ـ بيكو وبعده وعد بلفور، اذ ان المشروع وضع للتنفيذ، وما اعلان نتنياهو عن ترحيل الفلسطينيين الى السعودية، التي تطالب بحل الدولتين، الا مرحلة ما بعد حرب غزة ولبنان وتصفية المسألة الفلسطينية.
نسخ الرابط :