عقب مرور بضعة أيام على الكشف عن ديب سيك سارع السيناتور الأميركي جوش هاولي إلى طرح مشروع قانون جديد يفرض قيودا صارمة على تطوير واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي الصينية داخل الولايات المتحدة.. القصة بدأت من قرية صينية معزولة.
لم يكن أحد يتصور أن قرية نائية تبعد نحو 1800 كيلومتر عن العاصمة الصينية بكين، ستوضع بين ليلة وضحاها على خارطة المناطق الأكثر جذبا للزوار. حيث تحول منزل عائلة “وينفنغ” فجأة إلى مقصد للراغبين في التعرّف على مسقط رأس “الطالب الصيني المجتهد” الذي أثار قلق وادي السيليكون والإدارة الأميركية.
معظمنا يعلم الآن أن المقصود بهذا الكلام هو مؤسس شركة الذكاء الاصطناعي الناشئة ديب سيك، ليانغ وينفنغ، الذي تحول إلى بطل قومي، بعد أن استطاعت شركته منافسة كُبرى شركات التكنولوجيا الأميركية، رغم مواردها المحدودة المقتصرة على عدد قليل من رقاقات الذكاء الاصطناعي وفريق صغير من العاملين.
صحيفة فايننشال تايمز البريطانية أشارت إلى أن ليانغ قضى عطلة رأس السنة الصينية الجديدة في قريته ميليلينغ، بمقاطعة غوانغدونغ الصينية، حيث أعد له الأهالي استقبالا بالغ الحفاوة وسط إجراءات أمنية مشددة. ورفع سكان القرية، التي لم ينتبه أحد إلى وجودها سابقًا، لافتات احتفالية تحمل عبارات مثل: “ليانغ وينفنغ يعود إلى مسقط رأسه لنشر النجاح والمساهمة في إنعاش الريف.”
وحسب المعلومات التي نشرتها الصحيفة ينحدر ليانغ من عائلة أكاديمية، فجده ووالداه كانوا معلمين. وفي المدرسة الإعدادية، يتذكر معلمه أنه كان طالبًا هادئًا ومتفوقًا، خاصةً في الرياضيات. وبعد إنهاء دراسته الثانوية عام 2002، التحق بجامعة تشجيانغ، حيث حصل على البكالوريوس والماجستير في علوم الحاسوب، وكتب أطروحته حول خوارزميات كشف الحركة.
بعد تخرجه عام 2010، دخل ليانغ عالم التداول الآلي للأسهم، ليؤسس لاحقا صندوق تحوط باسم “هاي فلاير” أصبح واحدا من بين أكبر أربعة صناديق استثمار في الصين، وهو صندوق يعتمد على الخوارزميات الرياضية لتنفيذ التداولات.
بعد جمع ثروة من التداول في الأسهم، انتقل الشاب الطموح ليواجه تحديا جديدا متمثلا بالذكاء الاصطناعي التوليدي، مستعينا المواهب التي عملت معه في شركة هاي فلاير والموارد الحاسوبية لإطلاق “ديب سيك” عام 2023.
لم يمر وقت طويل قبل أن تثير الشركة الناشئة جدلا كبيرا في الأوساط التقنية والمالية، خاصة في الولايات المتحدة، إذ تمكنت من تطوير نموذج دردشة بتكلفة أقل بكثير من المنافسين الأميركيين.
وكانت هاي فلاير، الشركة الأم لديب سيك، قد اشترت في وقت سابق 10 آلاف وحدة معالجة رسومات (GPU) من طراز A100 من شركة إنفيديا الأميركية، قبل أن تفرض واشنطن حظرًا على بيع هذه الرقاقات إلى الصين في عام 2022.
كان هذا كافيا لبناء حاسوب فائق للذكاء الاصطناعي، استخدمته في تطوير نموذج الدردشة الآلي الخاص بها.
المفاجأة الكبرى جاءت مع إعلان ديب سيك تدريب أحد نماذجها الحديثة بتكلفة زهيدة بلغت 5.6 ملايين دولار فقط، باستخدام نحو 2,000 وحدة من رقاقات H800 الأقل تطورًا من إنفيديا. مثيرة بذلك دهشة الخبراء والمستثمرين، خاصة أن الشركات الأميركية أنفقت مبالغ طائلة لتطوير نماذج مماثلة.
تفوق الذكاء الاصطناعي الصيني، الذي اعتمد موارد أقل، زاد من مخاوف تفوق الشركات الصينية على نظيراتها الأميركية مستقبلا، وهو ما سيفسر من قبل المحللين الاقتصاديين على أنه هدر لمليارات الدولارات في استثمارات تكنولوجية وضعت في غير مكانها.
وفي خضم الهزة التي تولدت عن هذه الأخبار، أصبحت شركة إنفيديا، مركزا للجدل الدائر، وتعرضت أسهمها لأكبر خسارة منذ أن أنشئت، بعد أن بدأت التساؤلات حول مستقبل توريد الرقائق إلى شركات صينية.
إذا فكرنا قليلا بالرقم الذي خسرته إنفيديا خلال يوم واحد، وهو 560 مليار دولار (17 في المئة من قيمتها السوقية) لن تكون كلمة هزة كافية لوصف ما حدث. خاصة أنها جاءت في وقت خيل فيه لإدارة الرئيس ترامب أن باستطاعتها توجيه ضربة قوية للصين تعيدها إلى الوراء عشرات السنين.
وعقد الرئيس التنفيذي لإنفيديا، جينسن هوانغ، اجتماعا مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ناقشا فيه “أهمية تعزيز التكنولوجيا الأميركية وقيادة الذكاء الاصطناعي،” وفق تقرير نشرته رويترز.
وبلغت المواجهة أقصاها مع الإعلان عن تقديم السيناتور الأميركي جوش هاولي مشروع قانون جديد مثير للجدل، يفرض قيودا صارمة على تطوير واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي الصينية داخل الولايات المتحدة.
التشريع المقترح يسعى إلى “منع تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي داخل الصين من قبل أي شخص في الولايات المتحدة،” بعبارة أخرى القانون يسعى لمنع الأميركيين أو الشركات المسجلة في الولايات المتحدة من العمل على تطوير الذكاء الاصطناعي في الصين، سواء من خلال الاستثمار أو التعاون البحثي أو نقل المعرفة والتكنولوجيا.
ويرى المحللون أن تمرير المشروع سيؤدي إلى حظر كامل لاستخدام ديب سيك داخل الولايات المتحدة.
ويتضمن مشروع القانون الذي وصفه الباحث في جامعة هارفارد، بن بروكس، بأنه “أكثر الإجراءات التشريعية عدوانية حتى الآن بشأن الذكاء الاصطناعي” عقوبات مشددة تشمل السجن لمدة تصل إلى 20 عاما لمن يثبت انتهاكه للحظر، وغرامات تصل إلى مليون دولار للأفراد، وتصل إلى 100 مليون دولار للشركات.
وأثار مشروع القانون نقاشا واسعا في الكونغرس، لاسيما في ظل القلق المتزايد بشأن سرعة تطور الذكاء الاصطناعي في الصين وتأثير ذلك على الأسواق الأميركية.
ويرى بعض المشرعين أن الذكاء الاصطناعي الصيني قد يشكل تهديدا أمنيا مشابها لما حدث مع تيك توك. وعلى الرغم من تمرير الكونغرس قانونا لحظر تيك توك العام الماضي، إلا أن القرار لا يزال معلقا، خاصة بعد تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن دعمه الأولي للحظر.
وفي ظل هذه المخاوف، قد يكون مشروع قانون هاولي بداية لقيود أوسع على الذكاء الاصطناعي الصيني، رغم الجدل حول دوافعه. إذ يرى منتقدوه أنه يهدف إلى حماية الأسواق الأميركية من المنافسة الصينية أكثر من كونه إجراء أمنيا.
الجدل المثار لم يخرج ليانغ عن صمته، وهو ما يتماشى، كما يقول أحد مديري الصناديق الذين يعرفونه مع شخصيته: “عندما يكون الموضوع مثيرًا لاهتمامه، يمكنه التحدث لساعات، لكنه قد يصمت فجأة؛ لأنه يفكر. إنه ليس وقحًا، بل يكون فقط في حالة تفكير عميق.”
ولم تردّ ديب سيك على اتهامات المنافسين الأميركيين، وهي اتهامات تراوحت بين سرقة التكنولوجيا والبيانات والادعاء بأنها أداة للدولة الصينية. وأصبحت شخصية “الطالب الصيني المجتهد” ليانغ محط تحليل واسع، وسط محاولات للتنقيب والعثور عن أي معلومات جديدة حوله.
من غير الواضح حتى الآن إن كانت ديب سيك قد تمكنت بالفعل من تجاوز القيود الأميركية على توريد رقاقات إنفيديا. لكن، من المؤكد أن الشركة تمكنت من تحقيق إنجازات أقل ما يقال عنها إنها مثيرة للإعجاب في قطاع مليء بالتحديات. وهو ما يرسم علامة استفهام كبيرة حول مستقبل المواجهة في الذكاء الاصطناعي بين الصين والولايات المتحدة.
وإلى أن يحسم الصراع سيستمر الزوار بالتدفق على القرية الصينية النائية التي أخرجها الكشف عن ديب سيك من عزلتها.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :