سلط سقوط النظام السوري الضوء على قضية بالغة الأهمية ولكنها غالبًا ما يتم تجاهلها: مصير أرشيفات الدولة السورية. وترك المسؤولون السابقون وراءهم ملايين الوثائق السرية أثناء فرارهم من البلاد أو سعيهم لإخفاء معلومات حساسة. وقد تم تدمير بعض السجلات أو نهبها أو حرقها وسط الفوضى مع تحرك السلطات الجديدة لفرض سيطرتها على دمشق. وفي ظل الفراغ في السلطة الذي أعقب ذلك، تمكنت وسائل الإعلام الغربية من الوصول إلى بعض السجلات السرية ونشرت تقارير كشفت عن الأعمال الداخلية للدولة السورية في ظل حزب البعث وعائلة الأسد.
وكشفت هذه الروايات عن تغذية الجهات الفاعلة الخارجية صراعات سرية وسلطت الضوء على النطاق المذهل لجهاز القمع التابع للنظام، والذي وُصف بأنه “دولة المراقبة الشبيهة بـ “شتازي” الأسد، في إشارة إلى جهاز الأمن الحكومي والشرطة السرية في ألمانيا الشرقية سابقا. ورسمت القصص حول المخبرين المضمنين في الحياة اليومية صورة قاتمة لإرث نظام الأسد، الذي بني على التعذيب والمراقبة البشرية في جميع أنحاء البلاد.
ويرى الباحثان في جامعة جورج تاون مروة داودي و نور الدين جبنون في تقرير نشره المعهد العربي واشنطن دي سي أنه في حين أن مثل هذه الاكتشافات تقدم لمحة عن العمليات الداخلية لنظام الأسد، فإن الحفاظ على هذه الأرشيفات أمر ضروري لمستقبل سوريا حيث يمكن أن تكون بمثابة أساس للعدالة الانتقالية وتعزيز المساءلة والمصالحة. ولا توثق هذه السجلات القرارات البيروقراطية فحسب – بل إنها تؤرخ للعنف المنهجي والمعاناة الإنسانية التي تحملها السوريون لأكثر من خمسة عقود في ظل سلالة الأسد.
ويستحق السوريون، أكثر من المؤرخين أو الباحثين، أن يفهموا آليات القمع التي تستخدمها أجهزة الأمن الهائلة في الدولة، بما في ذلك المخابرات العامة والأمن السياسي والمخابرات العسكرية والمخابرات الجوية. ومع ذلك، فإن أحد أعظم التحديات التي يواجهها الشعب السوري ستكون ضمان قيام السلطات الجديدة بحماية هذه الأرشيفات من التدمير أو الاستغلال أو الترحيل غير المصرح به.
وتعمل الأمثلة التاريخية من العراق وليبيا كحكايات تحذيرية. ففي العراق، استولت القوات الأميركية على سجلات الدولة العراقية أثناء حرب الخليج عام 1991 ومرة أخرى بعد الغزو الأميركي عام 2003 بمساعدة المؤسسين المشاركين لمؤسسة ذاكرة العراق، كنعان مكية ومصطفى الكاظمي.
وصادرت إدارة جورج دبليو بوش هذه الوثائق واستخدمتها كسلاح لتبرير المزيد من التدخلات العسكرية في العراق. كما ضمت مؤسسة هوفر في جامعة ستانفورد ــ وهي مؤسسة ذات إرث غامض من القيم والبعثات المحافظة للغاية ــ العديد من أرشيفات ذلك البلد.
وفي ليبيا، اعترف الصحافيون الأجانب بنهب وتهريب سجلات الدولة. وقد أثار هذا الاستيلاء على السجلات الوطنية مخاوف أخلاقية وقانونية بشأن استخدامها. والواقع أن الكيفية التي تدير بها قيادة ما بعد الأسد سجلات مماثلة في سوريا سوف تشكل الثقة العامة وشرعية المؤسسات الجديدة.
وأرشيفات حزب البعث لها نفس الأهمية. فباعتبارها القوة السياسية المهيمنة في سوريا منذ عام 1963، أوقف الحزب عملياته الرسمية بعد فترة وجيزة من فرار بشار الأسد إلى موسكو في أعقاب استيلاء هيئة تحرير الشام وحلفائها على دمشق في الثامن من ديسمبر. وأعلن الحزب أنه سينقل هياكله المالية والبيروقراطية والأمنية إلى وزارتي المالية والعدل. ومع ذلك، لا يزال مصير سجلاته غير مؤكد.
وتوثق هذه الأرشيفات كيف اخترق نظام البعث كل مؤسسة، وراقب المواطنين، وفرض السيطرة على جميع فروع الحكومة. ومثلها كمثل الحالة العراقية، من المرجح أن تحتوي وثائق حقبة البعث في سوريا على أسماء المخبرين والمتعاونين والمعارضين ــ الأفراد الذين ربما لم يكونوا على علم بمدى مراقبة حياتهم وتسجيلها.
ويتطلب بناء نظام قضائي موثوق به في سوريا ما بعد الأسد الشفافية والمساءلة في التعامل مع هذه الأرشيفات. ويجب أن تتجنب الإجراءات القانونية الاستخدام الانتقائي للسجلات لتسوية الحسابات السياسية أو إرساء أشكال جديدة من القمع.
وعلاوة على ذلك، يتعين على الباحثين والمؤرخين الذين يطلعون على الأرشيفات أن يلتزموا بمعايير أخلاقية صارمة. وينبغي لهم أن يتجنبوا إضفاء طابع الإثارة على واحدة من أكثر الفترات إيلاماً في تاريخ سوريا الحديث أو تحريف المحتوى لتحقيق مكاسب أكاديمية، وخاصة عند التعامل مع وثائق تم أخذها دون علم أو موافقة الشعب السوري.
ويتعين على الباحثين الدوليين والإقليميين أن يفكروا في الآثار الأوسع نطاقاً المترتبة على نشر مثل هذه الروايات. وبدلاً من البناء على التاريخ المسروق، يتعين عليهم إجراء أبحاثهم ونشرها بطريقة تركز على أصوات السوريين وتجاربهم الحية. وتعتبر الأرشيفات الحكومية أكثر من مجرد مستودعات للبيانات التاريخية؛ فهي ترمز إلى الأمن الوطني والسيادة والذاكرة الجماعية.
وهذه الوثائق ملك للشعب السوري وينبغي أن تعمل كأدوات للتأمل والعدالة والشفاء. وإذا تم الحفاظ عليها وإدارتها بنزاهة، فإن الأرشيفات يمكن أن تلعب دوراً محورياً في تشكيل مجتمع عادل وشفاف يأخذ في الاعتبار ماضيه ويبني مستقبلاً أكثر مسؤولية.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :