في اليوم الأول بعدَ الستين، لم ينتظِر الجنوبيون أحداً، لا دولة ولا قرارات أممية ولا لجنة إشراف. وقرروا، كما عهدهم، أن تحرير أرضهم وتحصيل حقوقهم لا يتمّان إلا على أيديهم.
بعدَ شهرين، اختبر الناس فيهما معنى أن يكون الجنوب في عهدة «الشرعية» و«المجتمع» الدوليين، بادروا إلى فتح القرى بلحمِهم الحي، متقدمين على الجيش الذي كان عليه فتح الطريق أمامهم، فعبّدوا هم الطرقات أمام جنود الجيش الذين دخلوا إلى مناطق منعهم جيش الاحتلال وراعيه الأميركي من دخولها سابقاً. وخلال ساعات قليلة، بدا واضحاً وحاسماً، أنه ما لم تكُن الدولة جدّية في تولّي زمام الأمور، فإن أهل الأرض يعرفون طريقهم إلى تحصيل حقهم، والمقاومة على طريقتهم.
ما حصل أمس، سيُستكمل اليوم، بمزيد من الحشود الشعبية، من أبناء القرى الحدودية وبقية قرى الجنوب والبقاع الغربي، حيث لن ينتظر الناس الإذن من أجل استكمال عملية إخراج قوات الاحتلال من آخر المواقع التي لا تزال تحتلها. ومنذ ساعات بعد ظهر أمس، بدأت التحضيرات الأهلية والشعبية. فأُعلن عن وقف التعليم اليوم، وإقفال المتاجر والأعمال في غالبية الجنوب والبقاع، وتنظيم عملية الاقتحام الشعبي لما تبقّى من قرى منع العدو الناس من الدخول إليها أمس، عبر إطلاق النار، وسط جهود للقوات الدولية لمصلحة العدو، بحجة «توفير العودة الآمنة»، فيما كان الجيش يواجه وضعاً ميدانياً لم تستعد له القيادة السياسية في البلاد. فهو يلمس أهمية ما يقوم به الناس، ويرى همجية العدو، لكنه يعمل على تدوير الزوايا، فيفتح طريقاً ويحاول احتواء تحرك، بينما لم تتغير التعليمات له، علماً أنه كان يُفترض به أن لا ينتظر أحداً من أجل إرسال القوات إلى الحدود مباشرة، وتحدي قرار العدو بإبقاء الاحتلال في مناطق عدة.
ما حصل أمس، وما هو منتظر اليوم، قد يشكّل كل ذلك نقطة فاصلة في المواجهة المستمرة مع العدو. سقط أمس 23 شهيداً في يوم التحرير الشعبي الأول، وقد يسقط المزيد من الشهداء اليوم، لكنّ القرار الواضح عند الأهالي هو المواصلة، بينما كانت الاتصالات السياسية من دون نتيجة حاسمة، حيث أصر الأميركيون على أن إسرائيل ستبقى في بعض النقاط لمزيد من الوقت، وهو أمر سيكون له أثره على كل مشروع تنفيذ القرار 1701، لأن تحويله إلى غطاء للاحتلال لن ينجح، والمقاومة لم تقل كلمتها بعد.
أمس كانَ الكلام هو لأهل الجنوب والقرى الحدودية، خصوصاً أن الاتصالات السياسية بدَتْ متأخرة عن الموقف الشعبي والميداني. وعلمت «الأخبار» أن رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي أجريا اتصالات مع الفرنسيين والأميركيين للضغط على إسرائيل، لكن من دون الحصول على النتيجة المرجوة. وكشفت مصادر بعبدا أن «الاتصالات ركّزت على فريق مجلس الأمن القومي وقائد المنطقة الوسطى مايكل كوريلا، وقالوا إنهم يتواصلون مع الجانب الإسرائيلي»، لكن لا توجد أي ضمانات أو مؤشرات إلى انسحاب إسرائيلي قريب، فيما أعلن البيت الأبيض ليلاً تمديد اتفاق وقف إطلاق النار حتى 18 شباط.
ومساء، تردّدت معلومات عن أن قيادة قوات اليونيفل تبلّغت بأن قوات الاحتلال ستبقى لمدة أسبوعين على الأقل، لكنّ رئاسة الجمهورية أصدرت بياناً قالت فيه إنه «لا صحة للأخبار عن إبلاغ إسرائيل لبنان عن بقائها في خمس نقاط حدودية 15 يوماً، وإن الرئيس عون يواصل اتصالاته الداخلية والخارجية لاستكمال الانسحاب الإسرائيلي من القرى المحتلة».
وفيما ينتظر لبنان رداً رسمياً على مطالبته بتنفيذ الاتفاق، أُعلن في باريس أن الرئيس إيمانويل ماكرون طلب من رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، في اتصال هاتفي، سحب قواته التي لا تزال منتشرة في لبنان. فيما جرى الحديث عن اتصالات شاركت فيها عواصم غربية أخرى سعت إلى محاولة التوصل إلى اتفاق بتحديد مدة زمنية جديدة، سيما أن قوات الاحتلال كانت تصر على البقاء وتطالب بإجراءات ضد المواطنين الجنوبيين الذين «ينتهكون» الاتفاق.
المقاومة غير معنية بالاتصالات
وفيما كانت تحركات الناس تتم بشكل منسّق بين لجان الأهالي والبلديات، أصدر حزب الله بياناً وجّه فيه التحية إلى المواطنين مؤكداً على أهمية استعادة الأرض وطرد الاحتلال. وكشفت مصادر مطّلعة أن بيان حزب الله ثم كلمة رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، جاءا تمهيداً لقرار أبلغه حزب الله بأنه «لا يُشارك في أي اتصالات داخلية أو خارجية بخصوص تمديد مهلة الـ 60 يوماً، وأنه متمسك بنص الاتفاق وضرورة انسحاب العدو من دون أي تأخير». ولمست جهات رسمية بارزة أن المقاومة ليست في وارد الدخول في أي نوع من التفاوض الجديد، وأن على الدولة اللبنانية وفرنسا والولايات المتحدة أن تلزم العدو بتنفيذ الاتفاق، في إشارة بدت «مثيرة للقلق» عند جهات سياسية اعتبرت أن حزب الله ليس في وارد أي نوع من الضغط على الناس لوقف دخولهم المدني إلى القرى المحتلة.
وبحسب مصادر متابعة، جرى الحديث عن نصائح وجهتها سفارات أجنبية إلى قيادة الجيش والحكومة، حملت نوعاً من التهديد في حال تطورت تحركات الأهالي. ونقلت كعادتها، «تهويلاً إسرائيلياً بعودة الحرب في حال لم تتمكن إسرائيل من تنظيف المنطقة الحدودية من المقاومة وهي لن تسمح بعودة الأهالي قبل إنجاز هذه المهمة».
وقالت المصادر إن «مشهد الجنوب أعادَ تثبيت حضور المقاومة جنوب الليطاني، وكشف أن الجانب الأميركي لا يريد للجيش اللبناني أن يمسك الجنوب، وإلا لما تأخر لحظة عن الضغط على العدو». وبات واضحاً «أن الموقف الأميركي تحوّل من أداة ضغط على المقاومة إلى عنصر إحراج لرئيس الجمهورية العماد عون»، حيث بات واضحاً أن «الأميركيين يريدون من الجيش اللبناني أن يسير بتوجيهات العدو وحسب، وهذا ما لن يحصل».
في هذه الأثناء، بدا من التحركات الأهلية التي جرت مساء أمس أن أهالي الجنوب ليسوا بوارد التراجع، وستزداد تحركاتهم اليوم وفي الأيام المقبلة بحسب التطورات، وهناك دعوات من البلديات المحلية وأهالي القرى لمعاودة محاولة الدخول إلى البلدات الحدودية اليوم الإثنين بزخم أكبر وأوسع وستكون هنالك مشاركة من طلاب الجامعات والمدارس.
وأمام مشهد الصمود توالت المواقف، إذ أكّد الرئيس السابق العماد إميل لحود أن «هذا الشعب، من أبناء الشهيد البطل السيّد حسن نصرالله، لا يمكن سحقه ولو تجمّعت جيوش العالم ضدّه، ففي كلّ يوم يسقط فيه شهيدٌ يولد عشرات المقاومين الجدد، وستبقى المعادلة الوحيدة التي تحمي لبنان هي جيش، شعب ومقاومة تجاه أيّ عدو، وهذه ليست حبراً على بيانات بل هي إيمان راسخ لن يتزعزع». وتوجه رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى أهل الجنوب قائلاً: «تؤكدون أنكم كما أنتم عظماء في مقاومتكم، كذلك أنتم اليوم تثبتون للقاصي والداني أنكم عظماء في انتمائكم الوطني وأن الأرض هي كما العرض ترخص في سبيل الذود عنها أغلى التضحيات وأن السيادة هي فعل يُعاش وليست شعارات تلوكها الألسن». كما صدر عن رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون بيان قال فيه «إلى أهلنا الأعزاء في جنوب لبنان، هذا يوم انتصار للبنان واللبنانيين، انتصار للحق والسيادة والوحدة الوطنية. وإنَّي إذ أشارككم هذه الفرحة الكبيرة، أدعوكم إلى ضبط النفس والثقة بالقوات المسلحة اللبنانية، الحريصة على حماية سيادتنا وأمننا وتأمين عودتكم الآمنة إلى منازلكم وبلداتكم». وكتب الرئيس سعد الحريري عبر حسابه على منصة «إكس»: «أنحني أمام الشهداء والجرحى من أهلنا المدنيين العزّل في الجنوب وأمام إرادتهم الصافية في وجه احتلال يخرق اتفاق وقف إطلاق النار. التحية لجيشنا الوطني الذي آمل أن يلتزم أهلنا بتوجيهاته لحمايتهم. المجتمع الدولي مدعو فوراً لتحمل مسؤوليته تجاه احتلال خارج على قانونه وعلى اتفاق ضمنته ورعته دول عظمى والتزم به لبنان التزاماً كاملاً». أما رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية فعلّق قائلاً: «أهل الجنوب اليوم هم الرسالة الأقوى للمجتمع الدولي ليضغط على إسرائيل لتنفيذ القرارات الدولية».
رعد: دعوة صارخة من شعبنا لإلزام العدو بالانسحاب الفوري
توجّه رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد إلى «أبناء نهج الصمود والعزة والمقاومة»، قائلاً: «مرة جديدة تُعلّمون العالم كيف يكون الإباء وكيف يتجلى الانتماء والولاء للوطن وكيف يُصنع التحرير وتُصان الحرية، مرة جديدة (...) عدتم ووقفتم شامخين ومعكم أهلكم الشركاء من البقاع ومدنه وقراه ومن أحياء الضاحية والعاصمة بيروت وبلدات الوفاء في الجبل والشمال، تصرخون في أسماع المحتلين ومن يدعم إرهابهم وغزوهم أن يخرجوا من أرضنا، وأن لا مكان لهم على ترابنا. نحن أسياد هذه الأرض وأبناؤها وحماتها شعب وجيش ومقاومة». وأضاف: «مرة أخرى تعلنون بكل جرأة ووضوح وعنفوان: أيها الغزاة الصهاينة لا تنطلي علينا مؤامراتكم ولا تخيفنا أسلحتكم ولن نسمح لكم بالتطاول على حقنا بالوجود وعلى إرادتنا بالتحرير وعلى القانون والاتفاقات بالتجاوز والمماطلة والتسويف، ودماء شهدائنا تنتزع منكم النصر وتحقق التحرير وتستعيد الحقوق وتجسّد العدالة، فيا أهلنا الأحرار، بوقفتكم وزحفكم اليوم نحو قراكم وبلداتكم تعلنون للعدو المجرم ولكل من يعترف به ويدعمه ويسلّحه بأسلحة تدمير بيوتكم وبلداتكم أن احتلاله لفلسطين بالقوة والقهر هو تهديد للبنان، ولكل دول المنطقة، وأن خياركم لمواجهة هذا التهديد الدائم هو المقاومة بالتضامن مع الجيش والشعب حتى إزالة تهديده وإنهاء الاحتلال وضمان حماية سيادتنا في وطننا وأمننا واستقرارنا وإعاده بناء ما دمّره العدوان».
وأكّد أن «ما يجري وما جرى اليوم هو عينة تفضح كذب ادّعاءات العدو بالنصر وزيف أوهامه بالقدرة على مواصلة احتلاله للأرض عبر التلطّي خلف دول الاستكبار الداعمة لإرهابه، ما جرى اليوم هو دعوة صارخة من شعبنا في لبنان إلى كل المعنيين الدوليين لإلزام العدو الصهيوني بالانسحاب الفوري ودون أي تأخير من الجنوب والإذعان لإرادة أهله وتنفيذ ما تمّ إعلانه عن وقف العدوان بالكامل وإطلاق الأسرى وتحريرهم».
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :