المهندس سمير الحباشنة
“1 “
هي سوريا الحبيبة، نبض العروبة، وأول ديمقراطيتنا العربية المعاصرة، سوريا كانت نموذج للمواطنة والعدالة والمساواة. سوريا التي لا تميز بين مواطنيها على أساس ديني أو عرقي أو مناطقي، سوريا التي ضربت أمثلة كبيرة على ذلك، فوضعت الزعيم الوطني السوري الكبير، فارس خوري، في صدارة مشهدها السياسي كرئيس للوزراء بل وتوزيره كوزير للأوقاف، حتى عندما تساءل أحد النواب؟! :
أجابه رئيس الكتلة الإسلامية في مجلس النواب قائلاً: نؤمّن فارس باش خوري على أوقافنا أكثر من ما نؤمّن أنفسنا. بل وكان الحاحاً وطنياً على فارس خوري بأن يترأس الجمهورية.
سوريا أيضاً التي وضعت سلطان باشا الأطرش في الصدارة ليكون قائدا للثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي، دون أن يتوقف أحد على أن الباشا هو درزي.
وسوريا التي قدمت نموذجاً للانتقال السلمي عام 1955 ،حين سلم الرئيس هاشم الأتاسي الرئاسة لشكري القوتلي أمام البرلمان، بمشهد حضاري يذكرنا بمشهد الأمس حين تمت عملية الاستلام والتسليم بين الرئيسين ترامب وبايدن .
” 2 “
هذه سوريا التي فتحت جامعاتها للتعليم المجاني لكل أبنائها ولكل أبناء الأقطار العربية ، وبالنسبة لنا في الأردن فإن بناة الدولة الأردنية الأوائل، إنما هم في أغلبيتهم خريجو جامعة دمشق .
سوريا التي كان يتقدم المواطن العربي بها للعمل في مؤسساتها، بمساواة تامة مع المواطنين السوريين دون تمييز.و على سبيل المثال الدامغ ولي تجربة خاصة فقد التحقت بوزارة التربية والتعليم السورية، كمدرس في مدرسة رسم عبود الابتدائية في ريف حلب، ولم يسألني أحد عندما تقدمت بطلب التعيين من أنني لست سوريّا.
سوريا هذه، حاضنة لكل المعاني والسلوكيات المغرقة في الجمال والتمدن . و بقيت كذلك .. الى أن ابتليت بنظام أقرب للعصابة، وطوال أكثر من خمسين عاما عاث هذا النظام الفساد بالبلاد ونكل بالمواطنين ومايز بينهم وفق أسس مقيتة مذهبية ومناطقية وعرقية لا تليق بسوريا الحاضنة المثالية للمواطنة ونموذج العدالة والمساواة. بل و حول هذا النظام / العصابة سوريا إلى معتقل كبير يفتقد إلى أدنى المعايير الإنسانية، وأقول ذلك ليس لأنني سمعت أو قرأت عن بلاوي” صيدنايا ” وغيرها من السجون بعد سقوط تلك العصابة عن الحكم، ولكن لأنني ومع كوكبة من الطلبة الأردنيين والفلسطينيين، قد عشنا تجربة الاعتقال وعرفنا المعنى القاسي من أن تكون معتقلاً في سوريا .
“3”
سوريا اليوم تحتاج إلى كل أبنائها، تحتاج الى أن يكونوا قدر المسؤولية،وأن يتخذوا جملة من الإجراءات الفورية تحول بين سوريا وبين أن تدخل في دوامة التقسيم أو دوامة الحروب الداخلية، لا سمح الله، أو حتى أمكانية استيلاد نسخة جديدة من النظام السابق.
سوريا، وبرسالة من محب، تحتاج إلى…
أولاً، الإسراع في بدء الحوار الوطني الشامل، دونما استثناء لكل الأفكار والقيادات والنخب والتيارات السياسية على اختلافها
ثانياً، الإسراع بوضع دستور عصري يحاكي الحياة السورية ومتطلباتها ، ويفضي إلى بناء نظام ديمقراطي تشاركي برلماني يعلي من قيم المواطنة والعدالة والمساواة، والقيم الإنسانية بعامة بين كل السوريين ،دون الالتفات أو التوقف عند الدين أو العرق أو المنطقة. فالسوري الذي تحتاجه البلاد اليوم هو الذي يتميز بالكفاءة وبالانتماء وبالنزاهة، وهي المعايير التي يجب أن تحكم الفرق بين مواطن وآخر دون النظر إلى أي اعتبارات أخرى .
ثالثاً ، بناء الجيش وجهاز الأمن الوطني من كل سوري محترم محترف والاستعانة بكوادر الجيش العربي السوري المنحل، فالأغلبية الساحقة منهم لم يشاركوا في موبقات النظام السابق. وتقديري بأن بناء جيش ذو عقيدة وطنية عسكرية لن يتم بالسرعة المطلوبة إن لم يتم الاستعانة بكوادر الجيش العربي السوري، الذين راكموا خبرات وحرفية على مدى عقود طويلة منذ الاستقلال وحتى اليوم.
رابعاً، السماح بحرية للعمل السياسي والحزبي وإطلاق حرية الصحافة والإعلام وفق متطلبات الدستور والقانون.
خامساً، وتمنياتي على السيد الشرع وعلى قيادة سوريا الحالية أن يوسعوا ” فتحة الفرجار “وأن يشكلوا على الفور حكومة وطنية انتقالية تمثل كل السوريين عبر كل التيارات السياسية، وألا تقتصر المسؤولية على جهة واستثناء جهات أخرى.
سادساً، وإني اتمنى على الأشقاء السوريين ،أن يبتعدوا عن مفهوم الاجتثاث السيئ السمعة والنتائج، الذي اتبع على سبيل المثال في العراق ، فأبعد الكثير من أبناء الوطن المنتمين والأكفاء عن المسؤولية و الذي كان الوطن بحاجة ماسة اليهم .بما في ذلك من كان في حزب البعث فليس كل من عمل بالدولة في ظل النظام السابق أو كان عضوا في حزب البعث ، هو جزء من عصابة النظام .
فالدولة يجب أن لا تقوم على أسس ثأرية، ولنا في تجربة روسيا عندما سقط الاتحاد السوفيتي وكذلك الدول الاشتراكية عندما تبدلت أنظمتها وأصبحت أنظمة ديمقراطية ،فأنها لم تمارس الاجتثاث ولم تلغي الأحزاب الشيوعية، بل أنها ومنذ اليوم الأول بعد سقوط الأنظمة في تلك الدول كانت الأحزاب الشيوعية موجودة في البرلمان مثلها مثل غيرها من القوى. فحزب البعث يبقى بالنهاية فكرة وتيار سياسي ومن الظلم بمكان أن نربطه بعصابة أو بحقبة بائدة.
سابعاً ، وتمنياتي على الأخوة الكرد، أن ينخرطوا في دولتهم الجديدة ،وأن يسهموا في بنائها وفق أسس المواطنة وعدم التمييز بين السوريين. فالكرد هم الأمة التوأم للعرب وليس لديهم بالنهاية إلا وطنهم. واذكر الأخوة الكرد أن أية تحالفات خارجية هي تحالفات مؤقتة ولا تخدم إلا الآخر، وحين تنتهي مصلحة هذا الآخر بهذا التحالف ،فإنه لا يتردد بأن يترك حلفاءه إلى مصيرهم.
“4”
وبعد، نحب أن نرى سوريا وقد ربطت المستقبل بمراحلها المضيئة السابقة، أي سوريا الديموقراطية ولكل السوريين، قبل أن يختطفها العسكر، ومن ثم تختطفها عصابه من أيدى العسكر، فحولت سوريا إلى ما هي عليه اليوم من بؤس وضعف وتخلف.
والله ومصلحة الشقيقة الغالية سوريا وشعبها الحبيب من وراء القصد
كاتب ووزير اردني سابق
نسخ الرابط :