بعد التهدئة وتبادل الأسرى ... ما ترتيبات اليوم التالي ؟
الحروبُ المتواصلة في المشرق العربي تتجه الى تهدئة محسوبة. التهدئةُ حاجة ماسة للمحاربين المتعَبين والتوّاقين الى إستراحة . لكن لا سبيل الى استراحةٍ راسخة وتبادل كامل للأسرى إلاّ بعد الإتفاق على ترتيبات اليوم التالي لتوقف إطلاق النار .
ترتيباتُ اليوم التالي لن تقتصر على الحرب في غزة والضفة الغربية ولبنان بل ستشمل ساحات دول غرب آسيا من شواطيء البحر المتوسط جنوباً الى شواطيء بحر قزوين شمالاً ، ولا يبدو أنها ستشمل "الميني حرب" التي توسعت وما زالت في الضفة الغربية . هذه الترتيبات لا تقتصر على وقف ميداني لإطلاق النار بل على استراحة مديدة للمحاربين وإطلاق الأسرى وتهدئة الصراع بين أطرافه المتنازعين على الأرض والسلطة والمصالح والنفوذ . وقد تتضمن الترتيبات ايضاً إعادة ترسيم خرائط إتفاق سايكس-بيكو الذي يربو عمره على نحو مئة سنة .
ترتيباتٌ بهذا الإتساع والشمول تستوجب مايسترو مقتدراً وإدارة عليا. دونالد ترامب رشّح نفسه لهذا المركز وهذه المهمة وسيباشر متطلباتهما في العشرين من كانون الثاني/يناير الجاري ، أيّ بعد إمساكه رسمياً بمقاليد السلطة في بلاده. غير ان ترامب لن يكون وحده في ملاعب دول غرب آسيا المتعددة إذ سيكون ضالعاً في مواجهات ضارية مع لاعبين متشددين متمرسين وآخرين قدامى دهاة .
اللاعبون المتشددون المتمرسون هم قادة قوى المقاومة في كلٍّ من فلسطين ولبنان والعراق واليمن. اللاعبون القدامى الدهاة هم الحكام في كلٍّ من تركيا وايران والسعودية . الى هؤلاء ، ثمة لاعبون صهاينة محترفون يلعبون مع الرئيس الاميركي في الحرب ضد قوى المقاومة في شتى ساحات دول غرب آسيا ، ويلعبون معه وعليه في الساحة الاميركية اذا إقتضت مصلحة "اسرائيل" ذلك . هؤلاء اللاعبون جميعاً هم الذين وضعوا ويضعون ترتيبات إستراحة المتحاربين وتبادل إطلاق الأسرى التي يُفترض ان تكون قد أنجزت ووضعت موضع التنفيذ بين "اسرائيل" و"حماس" وحلفائها قبل ظهر يوم الأحد الماضي ، وان توضع موضع التنفيذ بين "اسرائيل" ولبنان في 27 كانون الثاني/يناير الجاري .
لأن ترتيبات اليوم التالي لوقف الحرب تنطوي على إستراحة مديدة للمحاربين، فهي غالباً ما تكون عرضة للخرق والعودة الى القتال . بنيامين نتنياهو هو المرشح الدائم لخرق الإتفاقات والترتيبات ، ويُرجح مراقبون كثر انه سينتهز اول فرصة وذريعة متاحتين كي يعود الى حرب الإبادة في غزة وحرب التوسّع في لبنان. غير ان ترامب الطموح الذي في رأسه مخطط لـِ "جعل اميركا عظيمة مرة اخرى" قد يمنع نتنياهو من إفساد مخططه الإمبراطوري الذي ينطوي على اهداف استراتيجية ومطامع واسعة بعيدة المنال . أيّاً ما يكن الأمر بين القطب الاميركي والتابع الإسرائيلي، فإن قادة قوى المقاومة الشعبية العربية محكوم عليهم بأن يستعدوا لأسوأ الإحتمالات الصهيونية ، فماذا تراها تكون؟
يُستخلص من المواقف والتصريحات التي تزخر بها وسائل الإعلام الإسرائيلية أن ثلاثة مشروعات تدور في رؤوس الساسة الصهاينة في الوقت الحاضر :
أولها ، منع حركة حماس وحلفائها من العودة الى السيطرة على قطاع غزة وتحويله مرةً اخرى الى شوكة في خاصرة كيان الإحتلال . وعليه ، يعمل نتنياهو وحلفاؤُه لتعزيز منحى بعض اركان إدارة ترامب الداعين الى وضع قطاع غزة تحت وصاية دولية ، وإبتداع منظومة محلّية مدنية فلسطينية لإدارة القطاع وتوزيع المساعدات الإنسانية.
ثانيها ، إقناع ترامب بدعم عملية توسيع إستيطان الضفة الغربية وصولاً الى ضمّها بأكملها الى "اسرائيل" مقابل موافقتها على تخصيص جزء يسير منها لدويلةٍ فلسطينية منزوعة السلاح تكون ملجأ اخيراً للفلسطينيين المهجّرين من سائر انحاء فلسطين الجاري إستيطانها وضمّها الى كيان الإحتلال.
ثالثها ، تسريع ُتحقيق ما يُسمى "مشروع الشرق الأوسط الجديد" وذلك بتقسيم سوريا الى كيانات قائمة على أسس مذهبية او إثنية او قَبَلية ، وإشتراط ان يكون ذلك بديلاً وحيداً من مهاجمة ايران بمساعدة اميركا لتدمير منشآت برنامجها النووي.
إن سعي "اسرائيل" لتسويق وتنفيذ هذه المشروعات الخبيثة ليس امراً سهلاً البتّة ، خصوصاً اذا ما جرت مواجهتها بمقاومةٍ شعبية سياسية وإقتصادية وعسكرية واسعة على مستوى عالم العرب برمته مصحوبةً بإستعداد قوى المقاومة الشعبية العربية الناشطة في كلٍّ من فلسطين ولبنان والعراق واليمن للردّ بلا إبطاء في حال إمتنع العدو الصهيوني عن الإنسحاب من كل المواقع اللبنانية التي تسلّل اليها او محاولته إقامة تحصينات له فيها ، وهو أمر مخالف لإتفاق وقف إطلاق النار الذي تتولى الولايات المتحدة حاليّاً الإشراف على تنفيذ بنوده، او محاولة العدو إقامة مناطق عازلة في قطاع غزة ، او منع مئات الآف الأهالي المهجّرين الى جنوب القطاع من العودة الى منازلهم في غزة ومحيطها في شماله .
الى ذلك ، إتضح ان قوى المقاومة الناشطة في فلسطين ولبنان ليست مهزومة ولا ضعيفة. صحيح أنها تضررت جرّاء حرب الإبادة الطويلة التي شنّتها "اسرائيل" على قطاع غزة من جهة ، ومن جهة اخرى قطع طريق توريد السلاح من ايران وغيرها الى المقاومة اللبنانية عبر الحدود مع سوريا بعد إنهيار نظام الأسد ، إلاّ أن ما لديها من أسلحة مخزّنة وأخرى جرى ويجري تصنيعها في الداخل يكفي على ما يبدو للقيام بما يتوجب عليها القيام به لصدّ العدو ومنعه من معاودة حروب التدمير والتوسّع.
فوق ذلك ، يجب ألاّ يغيب عن أذهان قادة المقاومة ان "اسرائيل" تضررت كثيراً نتيجةَ إنعكاسات الحرب التي شنتها على غزة والضفة الغربية ولبنان لمدة 15 شهراً وأدت الى نزوح نحو 90 الف مستوطن من مستعمراتهم في شمال فلسطين المحتلة ، ومثلهم من إيلات ومحيطها في الجنوب ، والى تدمير أو إغلاق مئات المصانع والشركات ، وتضرّر سائر مرافق الإقتصاد ، ونزوح اكثر من نصف مليون إسرائيلي الى خارج الكيان ، وتدمير الكثير من اسلحة ومعدات وعتاد الجيش الإسرائيلي ما أدّى ويؤدي الى الحدّ من قدرة "اسرائيل" على الإستمرار في الحرب مدةً اطول.
يتضح من مجمل ما تقدّم بيانه ان قوى المقاومة الشعبية العربية الناشطة نجحت، بحرب الإستنزاف التي ردّت بها على عدوان "اسرائيل" المتواصل والمدعوم من الولايات المتحدة مالياً وعسكرياً ، في الصمود مدةً قياسية ضد العدو . اكثر من ذلك، أرسى صمود قوى المقاومة الشعبية العربية في كل الساحات مفهوماً جديداً للإنتصار قوامه إحباط مخططات العدو ، ومنعه من تحقيق اهدافه ، وإعادة النازحين الى ديارهم ومنازلهم واملاكهم.
الخلاصة ، اذا كان من شأن وقف إطلاق النار الأخير تحقيق التهدئة واستراحة المحاربين في المدى القصير فضلاً عن إنسحاب العدو الصهيوني من كامل قطاع غزة تالياً ومن جميع المواقع التي إحتلها في القرى الحدودية بجنوب لبنان ، فإن من شأن مردوده في المدى الطويل ان يعزّز قدرات قوى المقاومة على الصمود ، وإحباط اهداف العدو ومخططاته ، ومراكمة الخبرات ، وتعبئة الطاقات على طريق التحرير والنصر المتكامل.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)
:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي