تضع أجندات تركيا في شمال سوريا تجاه الأكراد السلطات الجديدة في سوريا التي تقودها هيئة تحرير الشام الباحثة عن شرعية دولية في مأزق. فانخراط الهيئة في مكافحة داعش يتطلب تعاونها مع قوات سوريا الديمقراطية وهو ما لا تريده أنقرة.
القاهرة - توافرت لدى تنظيم داعش العديد من العوامل المساعدة لإنجاز عودة قوية إلى المشهد داخل الساحة السورية، ومنها إلى عموم الإقليم والعالم. ولذلك ويحاول زائرو دمشق من الأوروبيين والأميركيين تقييم قدرة الجهاديين الصاعدين من رافعي شعار (من يحرر يقرر) على كبح آخرين منافسين يخيف شبحهم الجميع، ما عدا تركيا التي تراهم أهون شرًا من الأكراد.
وعكست الزيارات المتكررة لمسؤولين غربيين لسوريا الفترة الماضية وتصريحاتهم المتعلقة بطبيعة مخاطر ما بعد مرحلة نظام الأسد قدرا من المخاوف المشتركة من استغلال تنظيم داعش الفراغ وارتباك القوى الصاعدة وتناقضات المصالح والأهداف لإعادة بناء هياكله وصفوفه.
ولا يرتكز تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سياقات استعادة قواه وإطلاق مرحلة جديدة من دورة نشاطه في سوريا على إمكاناته الذاتية فحسب، إنما في المقام الأول على تقاطع مصالحه مع احتياجات قوى إقليمية تتعرض لمخطط إزاحة إجباري، وأخرى صاعدة تملأ فراغها.
والصداع الذي كانت تسببه هيئة تحرير الشام عندما كانت تقود جيبا معارضا في شمال غربي سوريا (إدلب) لنظام بشار الأسد وحلفائه، تعاني منه هي الآن بعد أن حلت محل نظامه في دمشق بسبب تفاعلات الشمال السوري التي قد تفضي إلى انبعاث مذهل لداعش يطغى على حدث تغيير النظام، مُخترقًا مشهد التحولات التي يخوضها تنظيم القاعدة المحلي لإبراز نسخة تتواءم مع متطلبات الداخل والخارج.
ويجد رئيس هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع (أبومحمد الجولاني) نفسه في حيرة لإرضاء الأميركيين والأوروبيين بشأن جعل تقويض داعش أولوية، ما يتطلب التعاون مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تدير مرافق احتجاز تسعة آلاف سجين من داعش، وهي الطرف الرئيسي الذي اعتمد عليه التحالف الدولي في تقويض داعش وتفكيك شبكته الراعية للإرهاب.
ويصب تعاون هيئة تحرير الشام والفصائل الموالية لها لدعم الحملة ضد داعش في مصلحتها، بهدف تحقيق الاستقرار لحكمها واكتساب الشرعية من قبل قوى دولية بدأت في التواصل مع الهيئة وقائدها لدعم الانتقال الناعم في سوريا، ومنح مكافحة الإرهاب العابر للحدود أهمية وأولوية.
ولن تجد هيئة تحرير الشام طريقًا وسطًا يوطد سلطتها إلا من خلال إرضاء رغبة الغرب عبر التعاون في محاربة داعش والإرهاب عموما ما يقتضي التنسيق مع حليف واشنطن على الأرض (قوات سوريا الديمقراطية)، وهو ما يجعل الأميركيين يتسامحون في ملفات أخرى تحتاجها الهيئة بشدة لإرضاء الأجنحة المتشددة داخلها لتتفادى الانقسامات والانشقاقات، في ما يتعلق بتمرير تطبيقات رؤاها حيال المرأة والحريات والأقليات.
وتؤشر معادلة تبادل المنافع بين حكم ديني يطبق نموذجه الأحادي الإكراهي لكسب ولاء أتباعه وقوى خارجية تركز على مطالبته بكبح معتنقي نسخة الإرهاب العابر للحدود وكوادر وأفراد داعش في سوريا، لفرضية استنساخ الحالة الأفغانية القائمة على معادلة مماثلة، ما منح طالبان القدرة على موازنة قبولها داخل صفوفها المتشددة من جهة وقبولها من جهة أخرى لدى الغرب كجهة منجزة في مكافحة داعش.
ويتناقض هذا التوجه الذي تسوقه هيئة تحرير الشام مع عزم تركيا الحليف الإقليمي الرئيسي لها على تنفيذ إستراتيجية ثنائية هدفها توحيد سوريا تحت حكم الجهاديين السنة الموالين لها وتفكيك أي مظهر سلطوي كردي.
وتتطلب خطط أنقرة للشمال وعموم سوريا بعد إسقاط نظام بشار الأسد حل وتفكيك قوات (قسد) وتوزيع النفوذ داخل سوريا بين الطيف السني لتكريس هيمنة الراعي الإقليمي التركي على مقدرات ومستقبل البلد، ما يعني اضطلاع هيئة تحرير الشام، بوصفها الرقم الأول في المعادلة، بعبور نهر الفرات لإجبار قسد على التسليم أو إقناعها بحل نفسها طواعية.
وتقف سلطة الأمر الواقع بقيادة أحمد الشرع بين إرادتين على طرفي نقيض. الأولى: الحرص على عدم التعرض لحليف للولايات المتحدة والإسهام في انبعاث تنظيم داعش أو إعادة تدويره. والثانية: قتال قوات سوريا الديمقراطية حتى لا تنفذ تركيا أهدافها في الشمال السوري بطرق ليست في مصلحة الهيئة، بينها مضاعفة نفوذ قوى إسلامية سنية أخرى.
وترتكز خطة تركيا لمستقبل سوريا تحت حكم الإسلاميين السنة على إنهاء الحكم الذاتي الكردي في الشمال والإيعاز بحل مشكلة عناصر داعش المحتجزين عبر نقل المسؤولية عنهم للإدارة الجديدة وتقسيم النفوذ بين الإسلاميين السنة الموالين لأنقرة لضمان نفوذ أكبر على الملفات الأمنية في الشمال، وكل الملفات في مناطق سوريا بالشمال والوسط والجنوب.
ويُعد مقترح نقل الإشراف على معسكرات احتجاز عناصر داعش بالمناطق التي يسيطر عليها الأكراد إلى الإدارة الجديدة فخًا لهيئة تحرير الشام، حيث ثبت من تسلسل أحداث تعامل أنقرة معه عبر السنوات الماضية أنها تناور بمختلف الوسائل وبخداع الأرقام لإطلاق سراح غالبية المنتمين لداعش، وتخطط بنهاية المطاف لخلق توازن قوى إسلاموي سني موال لها من الطيف السني، متضمنًا كوادر تنظيم داعش لملء الفضاء الحيوي السوري بالموالين لها وإنهاء أي تكتل كردي على حدودها.
وأطلقت السلطات التركية سراح غالبية المشتبه بهم في الانتماء لداعش ممن اعتقلتهم، رغم أن عددًا كبيرًا منهم متهم بارتكاب جرائم خطيرة تتعلق بالإرهاب، وسوف تجد مخارج لتفسير منحهم الحرية مع خطورتهم، مثل زعم نقص الأدلة أو وجود أخطاء في الإجراءات القانونية.
وإذا لم تتجاوب هيئة تحرير الشام وتقود حملة الغزو عبر نهر الفرات لإنهاء حكم الأكراد الذاتي وتوحيد سوريا تحت سلطة الإسلاميين السنة بمختلف طبقاتهم بإشراف أنقرة، لن تتردد تركيا في تحقيق الهدف بأدوات أخرى، في مقدمتها الجيش الوطني السوري، وهو رأس حربتها الذي أثبت ولاءً، وطاعة عمياء في تنفيذ الأوامر القتالية ضد الأكراد بمدن الشمال السوري حتى لو تطلب الأمر ارتكاب تجاوزات وتطهير عرقي.
ويدل سجل الجيش الوطني على جهوزيته لتحقيق الهدف التركي، بصرف النظر عن المذابح التي سترتكب وأعداد الضحايا، خاصة مع استبعاد تسليم قوات سوريا الديمقراطية للأمر الواقع بسهولة، حيث نفذ في السابق بدعم من الجيش التركي وغطاء جوي من قواته عمليات تطهير عرقي في منطقة عفرين عام 2018لأكثر من ثلاثمائة ألف كردي سوري.
ولن تتراجع أنقرة عن استكمال المخطط، لأنها وجهت الجيش الوطني السوري لشن هجومه الخاص في نوفمبر العام الماضي ضد الأكراد في الشرق بالتوازي مع هجوم هيئة تحرير الشام على دمشق، ولن تكتفي بما تحقق وهو الاستيلاء على تل رفعت ومنبج ودفع القوات الكردية إلى خط نهر الفرات، وهي ماضية صوب هدفها النهائي المتمثل في تفكيك (قسد) وتقويض السلطة السياسية التي تدافع عنها وسحب صلاحياتها.
وتنطوي خطة تركيا على تكريس بديل أكثر أمنًا لسيناريو تجهيز داعش منفردًا لاقتحام السجون وتهريب عناصره إذا جرى سحب القوات الكردية من حراستها على وقع توغل الجيش الوطني السوري، وسيطال الخطر تركيا إذا حدث إطلاق غير مُسيطَر عليه ومدروس لداعش من السجون.
وتهدف خطة تركيا بمنح داعش دور غير معلن ضمن حالة متفاوتة النفوذ والأدوار يسيطر عليها عملاؤها الجهاديون، إلى الحيلولة دون ظهور ميليشيات مسلحة يمكن أن تتحدى حكم ما بعد الأسد، وحرمان قوى إقليمية (إيران) من اللعب بورقة داعش لدعم كيانات تستنزف المسار الجديد.
ومن الوارد أن ترضخ الولايات المتحدة ودول أوروبا لهذه السيناريوهات لضمان عدم خسارة تركيا، ولأن الأوضاع اختلفت بعد إسقاط نظام الأسد عما قبله، في حين ينعكس ذلك سلبًا على الحالة السورية التي يهيمن عليها تكفيريون من تيارات متصارعة ومتناحرة.
وينضم مقاتلو داعش وفقًا لهذه السيناريوهات إلى طيف فصائلي غير قابل لصناعة جيش موحد، بقدر ما يقود لصراع داخلي وتقسيم قائم على المحاصصة بين المقاتلين والمرتزقة الأجانب والفصائل التي كانت تنتشر في الغوطة وريف حلب كبقايا جيش الإسلام وهيئة تحرير الشام والموالين لها وفصائل السويداء وحوران وغيرها.
وإذا تمكنت أنقرة من حماية سلطة هيئة تحرير الشام من ظهور تمرد ميليشياوي ضدها يقوده تنظيم داعش في طريق تحقيق هدفها لتقويض سلطة الأكراد وتوحيد حكم سوريا تحت هيمنة الجهاديين السنة الموالين لها، لن تستطيع حماية سوريا من التقسيم بعد تفخيخ جغرافيتها السياسية بميليشيات لا وزن عسكريا لها في ما يتعلق بملفات الأمن القومي وحماية مقدرات الدولة، ما يدخل البلاد دوامة من الخلل الأمني لسنوات طويلة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :