مثّل فوز ترامب في نظر الفيلسوف الفرنسي، لورانس دوفيلار، خسارة للجميع، معتبراً وصول "الترامبية" بداية نهاية عالمنا الذي نعرفه وجماله وسلامه.. كيف ذلك؟ ولماذا؟
سيعود الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني/يناير 2025 ظافراً بوصفه الرئيس الــ 47 للولايات المتحدة. وقد أثارت تصريحاته كما العادة موجة من القلق في العالم، ولا سيما في ما خصّ جعل كندا الولاية الــ 51، وردود رئيس الوزراء الكندي المستقيل، جاستن تردودو عليه، وكذا الأمر في شأن أوروبا وحلف شمال الأطلسي.
وبدا لأكثر المتابعين للشأن الأميركي، أنّ "الترامبية" ليست حالة فريدة أو معزولة، بل هي ممتدة في التقاليد الأميركية. تبحث هذه المقالة في شخصية ترامب وفي الحالة التي التفّت حوله تحت مسمّى "الترامبية" وأبرز سماتها.
نهاية عالم نعرفه
بالنسبة للفيلسوف الفرنسي، لورانس دوفيلار، مثّل انتخاب ترامب بداية النهاية. نهاية العالم بلا شك، ولكن قبل كلّ شيء نهاية شكل من أشكال الكرامة السياسية. إذ الأمر لا يتعلّق بأميركا والأميركيين فحسب. فما تحقّق، والذي سيتمّ الاعتراف به سريعاً: أننا نستطيع أن نحكم من دون عقيدة ومن دون اهتمام بالحقيقة. ومن الآن فصاعداً، نعلم أيضاً أننا نستطيع أن نقود من دون برنامج ونبهر من دون أيديولوجية.
وسيكون من الخطأ، في نظره، تحليل نتيجة هذه الانتخابات من حيث الأحكام المعتادة: الشعبوية، الفاشية، اليمين أو اليمين المتطرّف، اليسار، الليبرالية. إذ إنّ "الترامبية" لا تندرج تحت أيّ تراث، ولا تنتمي إلى أيّ حزب: إنه نظام سياسي جديد، وقد يكون التحوّل الأكثر أهمية الذي شهده الغرب في السنوات الأخيرة. لقد دخلنا، في عرف المفكّر الفرنسي، في 5 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2024 في طور سياسي جديد. لقد خسر الجميع، والعالم نفسه لديه كل شيء ليخسره: الحفاظ عليه، وسلامه، وحتى جماله، إنها بداية النهاية [1].
عوامل صعود ترامب
ترامب ليس أيديولوجياً ولا مثقّفاً. إنه قبل كل شيء رجل أعمال وشخصية تلفزيونية، ولدت سمعته، إن لم تكن ثروته، من برنامج تلفزيون الواقع "The Apprentice". وفي حملته الانتخابية عام 2016، كان قادراً على فهم وتجسيد الاستياء الذي شعرت به أميركا المسيحية البيضاء، المتروكة لمصيرها، مُسترجعاً الطاقة التدميرية لحركة حزب الشاي (Tea Party) [2] ورغبته في كنس النخب و"تطهير" واشنطن.
وجاء التنظير من طرف حاشيته: ستيف بانون (Steve Bannon)، الذي أدخل موضوعات اليمين المتطرّف في حملته، والهوس بالهوية و"مناهضة العولمة"، وستيف ميلر (Steve Miller)، مستشاره اليميني المتطرّف لشؤون الهجرة، وقد قيل إنّ: "الترامبية لها جوهر، وهذا الجوهر هو القومية". وتعتمد على مزيج من الرسائل المناهضة للنظام والمعادية للنخب (الشعبوية)، والقومية، والمحافظة الدينية، والليبرالية (المناهضة للديمقراطية).
لقد فاز ترامب بتبنّيه قضايا جماعات المصالح والناخبين "المفيدين"، من دون السعي إلى التماسك الأيديولوجي. لقد راهن بشكل رئيسي على التعبئة (المفرطة) للقاعدة البيضاء والريفية وغير المتعلّمة. بفضل مجموعة من العوامل، ولا سيّما عدم شعبية منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، والامتناع القوي عن التصويت وجرعة من الحظ، مكّنت من انتخابه رئيساً في العام 2016. وساهم صعود المشاعر المناهضة للهجرة دوراً حاسماً في انتخابه، حيث واجه خصوماً أساسيين ما زالوا يتّسمون بالموقف المؤيّد للهجرة الذي يميّز الحزب الجمهوري، من رونالد ريغان إلى جورج دبليو بوش.
علاوة على ذلك، استغلّ ترامب وعمّق أزمة التمثيل السياسي التي ساعدت في وصوله إلى السلطة. ولا يمكن فصل هذا التطوّر عن التحوّل الذي طرأ على المشهد الإعلامي الأميركي في تسعينيات القرن المنصرم، وعلى وجه الخصوص، ظهور شبكة فوكس نيوز (Fox News). فقد عمل على تكثيف سياسة عدم الوساطة في السياسة من خلال استخدامه لموقع "تويتر"، في حين أضعف وسائل الإعلام التقليدية من خلال إداناته واتهامه المنهجي، وكذلك من خلال نشر معلومات كاذبة أو تصريحات تآمرية، وتضخيم الجماعات المتطرفة، بما في ذلك الجماعات العنيفة.
"الترامبية" تفوز
وقد دفعت خسارته للانتخابات في 3 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2020 المعلنة في 6 كانون الثاني/يناير من العام 2021، أكثر من 2000 من أنصاره في حملة عنيفة إلى احتلال مبنى الكونغرس، وتبيّن في لجان التحقيق المشكّلة لهذا الحدث الخطير أنّ ترامب خطّط لذلك. ورافقت ذلك حملة إعلامية لتضفي شرعية على هذا العمل وخصوصاً من طرف "فوكس نيوز".
وخسارة ترامب لم تعنِ خسارة الترامبية، فخاضت الانتخابات التشريعية، وجاءت المفاجأة الكبرى لانتخابات 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 من الفجوة بين "الموجة الحمراء" المعلنة (الجمهوري) والأداء الضعيف للجمهوريين الذين توقّعوا الفوز بما يصل إلى 60 مقعداً في الكونغرس.
وفي حين لم تؤدِ الانتخابات النصفية إلى ظهور أعمال عنف جديدة، متولّدة من الأكاذيب أو رفض الاعتراف بالهزائم، إلا أنّ التطرّف العنيف ظلّ بالنسبة لمكتب التحقيقات الفيدرالي التهديد الأول: إذ تظلّ شريحة من السكان متطرّفة، بما في ذلك بين بعض المسؤولين المنتخبين.
وفي هذه الانتخابات النصفية لعام 2022، سارعت وسائط الإعلام إلى إعلان ترامب خارج اللعبة. ومع ذلك، فقد أعلن ترشّحه لعام 2024 في اليوم التالي لها، ولديه فريق حملة انتخابية والكثير من المؤيّدين في أجهزة الحزب الجمهوري المحلية، وفي غياب منافس قد يفرض نفسه.
وبدا أنّ ترامب نفسه، لا يستطيع أن يسيطر على تياره: فكثير من المثقّفين والصحافيين والناشطين والشباب الطموح كانوا يغذّون الحروب الثقافية على الوسائط وشبكات التواصل الاجتماعي، مُتحدين في مواجهة "العدو المشترك"، بمقترحات راديكالية وعنيفة في كثير من الأحيان. وتردّد الحديث عن حرب أهلية يجب تجنّبها بأيّ ثمن، ولا سيّما مع التحريض على العنف بحجة اضطهاد ترامب ومناصريه، في زمن ازداد فيه العنف السياسي بكثرة في أرجاء بلاد العام سامّ.
تطرّف برعاية الشرعيّة
وفي العام 2020، أعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي أنّ الإرهاب الداخليّ يمثّل تهديداً ذا أولوية. ونشرت إدارة بايدن في أشهرها الأولى استراتيجية وطنية ضدّ الإرهاب الداخلي، وهي الأولى من نوعها في البلاد.
لكنّ الولايات المتحدة هي أيضاً بلد الميليشيات، التي شهدت نمواً متجدّداً خلال السنوات العشر الماضية، عدديّاً ونوعيّاً. إذ يوجد اليوم 169 مجموعة عسكرية خاصة تعمل خارج أي سيطرة أو سلطة للحكومة الفيدرالية. فقد اكتسبت الميليشيات زخماً بالفعل في التسعينيات من القرن الفائت، لكن بشكل خاص مع انتخاب أوباما (2009) وتسريح حروب بوش منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظهرت ميليشيات جديدة، مع تجنيد سياسي ونشط ومستهدف للجنود العائدين من العراق أو أفغانستان.
نشر عالما السياسة الأميركيان، ليليانا ماسو (Lilliana Mason) وناثان كالمو (Nathan Kalmoe) كتاباً في عام 2022 [3]، عن التطرّف السياسي الأميركي في وجوهه المختلفة: دعم العنف الحزبي، وتشويه السمعة الذي يمكن أن يصل إلى حد تجريد الخصم من إنسانيته، ورفض نتائج الانتخابات، والمواقف المناهضة للديمقراطية، والعنف.
وجرى تحديد طبيعة ومحدّدات ومدى التطرّف والمشاركة في أعمال العنف السياسي، مع الإشارة بشكل عابر إلى العامل الأكثر تعبيراً: العداء والعنف الجنسي. والفارق بين العنف السياسي في السابق أنه كان مداناً. أما اليوم فيجد له رعاية من حزبيين وبرلمانيين. ما يلاحظ في الولايات المتحدة هذا المزيج الخطير من العنف السياسي، والحزب المتواطئ، والأكاذيب المنتشرة على نطاق واسع، ولقد أصبحت الشعبوية القومية والاستبدادية ظاهرة عالمية، فإلى أيّ مدى سينزلق الحزب الجمهوري نحو الاستبداد؟ [4].
[1] Laurence Devillairs , "Le trumpisme, ou la jubilation du nihilism", Le Point (France), Publié le 15/11/2024.
[2] Tea Party movemen): حركة أميركية سياسيّة اقتصاديّة محافظة، ضمن الحزب الجمهوري. طالب أعضاء هذه الحركة بخفض الضرائب وبتقليل الديون القوميّة الأميركية، وعجز الموازنة الفيدراليّة من خلال تقليل الإنفاق الحكومي.
[3] Radical American Partisanship: Mapping Violent Hostility, Its Causes, and the Consequences for Democracy,(university of Chicago, 2022).
[4] Maya Kandel, Quel avenir pour le trumpisme ? revue Politique étrangère, Pritemps 2023. P. 27 – 38.
نسخ الرابط :