إذا سارت الأمور على ما يرام، من المفترض أن تفضي الاستشارات النيابيّة المُلزمة اليوم إلى تسمية رئيس جديد مكلّف بتشكيل الحكومة المقبلة، وهو ما يأذن بدخول مرحلة البحث في التشكيلة نفسها وبيانها الوزاري. وإذا افترضنا شروع العهد بتنفيذ ما ورد في كلمة رئيس الجمهوريّة أمام البرلمان، فستمثّل التشكيلة وبرنامج العمل الحكومي الترجمة العمليّة للعناوين العامّة التي وعد بها الرئيس. وفي طليعة المهام التي تنتظر الحكومة المقبلة، تكمن أولويّات التعامل مع آثار الحرب الإسرائيليّة الأخيرة، والتي لا تقتصر فقط على الجانب المتعلّق بإعادة الإعمار، بل تشمل كذلك إعادة إنهاض القطاعات الاقتصاديّة المتضرّرة، وشبكات الحماية المطلوبة للفئات الأكثر هشاشة.
ثمّة مقاربة اقتصاديّة شاملة يحتاجها لبنان في هذه المرحلة، وبما يتخطّى حدود استقدام المساعدات الخارجيّة، على أهميّتها طبعًا. خلال الحرب الماضية، ثمّة مجتمعات كاملة جرى اقتلاعها وتمزيق نسجيها المحلّي، في بعض المناطق، بما شمل تهشيم دورتها وقطاعاتها الاقتصاديّة. وعمليّة إعادة بناء النسيج الاجتماعي في تلك المناطق، ستحتاج إلى أكثر من مجرّد دفع التعويضات، أو ترميم وإعادة بناء الأبنية المتتضرّة. وتخطي مرحلة "حكومة تصريف الأعمال"، قد يكون مناسبة للشروع بهذه الورشة، التي تتقاطع تحدياتها مع تحديات النظام المصرفي المهشّم، والديون العامّة التي جرى تعليق سدادها. في كل هذه التحديات، السؤال المركزي يبقى نفسه: أي اقتصاد يريد لبنان؟ وأي سياسات عامّة تخدم هذا الاقتصاد بالتحديد؟
الخروج من دوّامة التقشّف
التحدّي الأوّل للتعامل مع كل ما سبق، سيكون الخروج من دوّامة السياسة التقشّفية المتبعة من أشهر، والتي حالت دون التوسّع في الإنفاق على أي من الأولويّات الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة، أو حتّى صيانة البنية التحتيّة. وحين نتحدّث عن الخروج من دوّامة التقشّف، فنحن لا نصوّب هنا على مبدأ الامتناع عن إقراض الدولة عبر خلق النقد، والتي تمثّل سياسة لها ما يبرّرها على مستوى الاستقرار النقدي. بل نشير تحديدًا إلى سياسة مراكمة الإيرادات العامّة نفسها لدى المصرف المركزي، والامتناع عن صرفها، بغية تقليص المعروض النقدي من الليرة اللبنانيّة، أو ربما استعمالها لزيادة احتياطات مصرف لبنان بالعملات الصعبة. في الحالتين، كانت النتيجة إفقاد الدولة اللبنانيّة لدورها الاجتماعي، بما في ذلك التعامل مع التحديات التي فرضتها ظاهرة النزوح في عزّ الحرب الأخيرة.
أرقام مصرف لبنان، تشير إلى أنّ حجم ودائع القطاع العام لدى المصرف المركزي بات يوازي -كما في منتصف شهر كانون الأوّل الماضي- 5.96 مليار دولار أميركي، مقارنة بـ 4.32 مليار دولار أميركي في منتصف شهر شباط. أي بمعنى آخر، تراكم نحو 1.64 مليار دولار أميركي -بالعملتين المحليّة والصعبة- في حسابات الدولة لدى مصرف لبنان، بفعل سياسة احتجاز هذه الجبايات الضريبيّة، والامتناع عن صرفها خلال هذه الفترة التي لا تتجاوز الـ 10 أشهر.
غنيٌّ عن القول أنّ سياسة تقشّفية من هذا النوع لا تترك حيّزًا للتعامل مع المستجدات التي فرضتها الحرب الأخيرة، ومنها المسائل المرتبطة بترميم البنية التحتيّة، أو تأمين مقوّمات نهوض القطاعات الاقتصاديّة في المناطق المتضرّرة. مع الإشارة إلى أنّ بعض هذه الحاجات -كإمدادات الريّ مثلًا- يتّسم بطبيعة طارئة وداهمة، ولا يمكن أن ينتظر الانتهاء من إعداد خطّة إعادة الإعمار، ومن ثم عقد مؤتمرات المانحين لاستقدام المساعدات. أي بعبارة أوضح، العديد من التحديات، التي تمنع عودة الحياة الاقتصاديّة في بعض المناطق، يجب أن يتم التعامل معها بمقدّرات الدولة نفسها، ومن دون انتظار الإطار الأوسع للمعونات الخارجيّة. وهذا ما يفترض أن تعالجه السياسة الماليّة للحكومة.
إشكاليّة موازنة 2025
من المهم التنويه، إلى أنّ جانبًا من هذه السياسة التقشّفية جرى فرضه وتبريره بالقيود التي فرضتها موازنة العام الحالي، والتي تشدّدت في تقليص سقوف الإنفاق، بناءً على تقديرات منخفضة -وغير واقعيًة أبدًا- للإيرادات المتوقعة هذه السنة. ومع عدم إقرار موازنة العام الحالي 2025، سيكون متوقّعًا المضي بنفس سقوف الإنفاق القائمة، والمتقشّفة، بناءً على قاعدة الإثني عشريّة المعروفة. وعليه، تصحيح هذا الخلل، يفترض أن يبدأ بتعديل وإقرار موازنة العام الحالي، للتمكّن من الإنفاق ضمن الضوابط القانونيّة الملائمة.
ومن المعلوم أن لجنة المال والموازنة طلبت من حكومة تصريف الأعمال سابقًا إعادة النظر في مشروع موازنة 2025، بعدما "تخطته تداعيات الحرب". وللحؤول دون صدور الموازنة نفسها بمرسوم من قبل الحكومة، سيكون على المجلس النيابي رد المشروع، أو تعديله قبل إقراره لاحقًا في المجلس النيابي. والسيناريو الثاني، كما هو واضح، سيكون الأمثل لتكامل الموازنة مع المتطلّبات الاقتصاديّة للمرحلة المقبلة، عوضًا عن السير بقاعدة الإثني عشريّة، أو السير بالموازنة المقترحة في حال إصدارها بمرسوم من قبل الحكومة.
إشكاليّات إعادة الإعمار
بالنسبة إلى ملف إعادة الإعمار، تعمل الحكومة حاليًا -ومن المفترض أن تتابع ذلك الحكومة المقبلة- على الخطّة الشاملة بالاتفاق مع البنك الدولي، والتي يفترض أن تلحظ إنشاء صندوق إئتماني لاحتواء وإدارة المساعدات الخارجيّة المرتقبة. وبعد إنجاز الخطّة، بما فيها آليّات إدارة الصندوق، سيكون بإمكان لبنان الاتجاه نحو مؤتمر للمانحين العرب والأجانب، بهدف تمويل عمليّة إعادة الإعمار. وبات من المعروف أنّ أي مؤتمر من هذا النوع سيكون مصيره الفشل، ما لم يتوازى مع الآليّات التي يشرف على وضعها البنك الدولي، بما في ذلك أصول إجراء المناقصات والتلزيمات والتعهّدات.
غير أنّ الواضح أيضًا أن المجتمع الدولي سيفرض مجموعة من الإصلاحات المرتبطة بأمور تتجاوز عمليّات إعادة الإعمار وحدها، قبل منح المساعدات. وذلك سيشمل حتمًا بعض الإصلاحات المرتبطة بالنظام المالي اللبناني، للحؤول دون تبديد جزء من هذه المساعدات في عمليّات ذات طابع مصرفي داخلي، كما جرى في بعض المراحل مع المساعدات المرتبطة باللاجئين السوريين. وكما أشار "بنك أوف أميركا" في آخر تقاريره، من المتوقّع أن تطالب الدول المانحة بالتقدّم في مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي، المرتبطة بهذه الإصلاحات بالذات، قبل تقديم المساعدات المتعلّقة بإعادة الإعمار.
وعلى هذا النحو، لن تملك الحكومة المقبلة ترف شراء الوقت، قبل المضي بتعديل وإقرار خطّة التعافي المالي، التي سيُطرح في ضوئها الإطار الأوسع للإصلاحات المطلوبة للخروج من الأزمة الماليّة الراهنة. وبغض النظر عن طبيعة الشروط الخارجيّة، ونوعيّة الجوانب التي ستتناولها، من الأكيد أن طبيعة الأزمة الماليّة في لبنان تفرض ترابط الإصلاحات ذات الطابع المالي والمصرفي والنقدي، وهو ما يعكس ضرورة السير بالخطة الكاملة منذ البداية. فعلى سبيل المثال، لا يمكن الشروع بعمليّة إعادة هيكلة الدين العام، من غير امتلاك مشروع متفق عليه لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، والعكس صحيح.
أمام هذا المشهد، نعود إلى الفكرة الأساسيّة: ثمّة حاجة لمقاربة وضع ما بعد الحرب وفق منطق متكامل، بما يتطرّق لحاجات القطاعات الاقتصاديّة، ونوعيّة شبكات الحماية الاجتماعيّة المطلوبة، ناهيك عن ملف إعادة الإعمار نفسه. وهذا يرتبط بدوره بخطّة التعافي المالي الشاملة، التي لا يمكن فصلها عن واقع القطاعات الاقتصاديّة في ظل الأزمة الماليّة. في كل هذه الملفّات، الرؤية التي تحكم العمل الحكومي يجب أن تعود إلى السؤال حول نوعيّة الاقتصاد الذي تريده للبنان، ونوعيّة السياسات التي يمكن أن تقود بهذا الاتجاه. وإشكاليّة خطط التعافي المالي السابقة، تكمن في عدم تطرّقها لهذا السؤال أولًا.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :