تأتي محاكمة بنيامين نتنياهو بتهمة الفساد على خلفية اتهامات الرشوة والاحتيال، واتهامات بارتكاب جرائم حرب دولية، وفضائح محلية، وإدانة عالمية متزايدة - كل ذلك بينما يواصل تأجيج الحروب المدمرة بلا نهاية في الأفق.
عندما دخل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى قاعة المحكمة في تل أبيب يوم الثلاثاء، لم يتصرف وكأنه أول رئيس وزراء يُحاكم بتهم فساد أثناء وجوده في منصبه. بل استغل الفرصة ليبدأ شهادته بوصف محاكمته بأنها تشبه "مطاردة الساحرات". في الوقت نفسه، تجمع على أحد جانبَي الشارع خارج المحكمة نحو 100 متظاهر يحمّلونه مسؤولية وفاة أسرى إسرائيليين في غزة، بينما وقف 100 من أنصاره على الجانب الآخر، وفصلت بينهما حواجز أمنية ورجال الشرطة.
رئيس الوزراء المتهم، الذي يتوقع أن يقدم دفاعه على مدى ثلاثة أيام قبل أن تبدأ النيابة باستجوابه، نفى ان يكون قد حاول التهرب من المحاكمة منذ أن وُجِّهت إليه ثلاث تهم فساد منفصلة عام 2019، تشمل الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة. فقد وُجِّهت إليه اتهامات بتلقي هدايا من رجال أعمال أثرياء، وتقديم امتيازات سياسية لأصحاب نفوذ إعلامي، وتسهيلات لشركة اتصالات مقابل تغطية إعلامية إيجابية. وهو تجاهل نصيحة محاميه آنذاك بالتنحي عن الحياة السياسية.
في المحكمة، كرر نتنياهو تصريحاته التي أدلى بها عشية جلسة الاستماع إلى قضيته، قائلاً: "انتظرت ثماني سنوات هذه اللحظة لأقول الحقيقة كما أتذكرها". ومهّد لظهوره أمام المحكمة بمؤتمر صحافي متلفز الاثنين، هاجم فيه القضاء والشرطة ووسائل الإعلام. ولم يتأخر خصومه في الرد عليه، ومن بينهم يائير لابيد، زعيم حزب "هناك مستقبل" المعارض، الذي صرح لوسائل الإعلام الإسرائيلية قائلاً: "في يوم قُتل فيه أربعة جنود في الشمال وثلاثة في غزة، يهتم بنيامين نتنياهو بشيء واحد فقط: نفسه". وأضاف: "من يريد أن يفهم لماذا لا يمكن لشخص يواجه اتهامات جنائية أن يكون رئيساً للوزراء، يكفي أن يشاهد مؤتمره الصحافي" الذي وصفه بأنه "مجموعة مخزية من الأكاذيب". واعتبر ادعاء نتنياهو بأنه انتظر ثماني سنوات للإدلاء بشهادته "مزحة سيئة"، متهماً إياه بتعمّد تأخير محاكمته بكل الوسائل الممكنة. وحمّله مسؤولية "الوضع الأمني الراهن، وهجمات السابع من أكتوبر، والحرب، وحقيقة أن المختطفين لم يعودوا بعد".
رغم نجاحه في كسب الوقت، وهو ما حاول تحقيقه حتى اللحظة الأخيرة، خسر نتنياهو رهانه بأن رئيس الوزراء لن يمثل أمام القضاء أثناء شغله منصبه، خصوصاً في خضم حرب جعلت إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية دولة متهمة بارتكاب إبادة جماعية، ووُجهت خلالها اتهامات إلى نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت بارتكاب جرائم حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية.
بذل الرجل كل جهد ممكن واستخدم كل الأعذار لتأجيل محاكمته لما يقرب من خمس سنوات. في البداية، استغل تأثير جائحة كوفيد-19 على جداول المحاكم والمداولات الإجرائية المتعلقة بالشهود والشهادات. ثم لجأ إلى تنظيم سلسلة من الانتخابات البرلمانية ومحاولات تشكيل حكومات ائتلافية تضمن بقاءه السياسي الذي اتُهم بأنه جعله أولوية على حساب محاكمته.
بعدما أبرم تحالفات مع أبرز الشخصيات اليمينية المتطرفة في كانون الأول/ديسمبر 2022، بدأ هجومًا على النظام القضائي برمّته من خلال مقترحات حكومية لـ"إصلاحات قضائية" تهدف إلى تقليص سلطات المحاكم، ومنح الحكومة مزيدًا من التحكم في اختيار القضاة، والسماح للكنيست بتجاوز قرارات المحكمة العليا. وقد أثارت هذه المحاولات احتجاجات حاشدة في الشوارع بدأت في كانون الأول/يناير 2023، وتراجعت بعد عملية "طوفان الأقصى" في غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، عندما شنّ حرب إبادة ضد الفلسطينيين في القطاع، مما أتاح له فرصة أخرى لتأجيل محاكمته بتهم الفساد.
لكن الضغوط المحلية والدولية عليه تصاعدت بشكل كبير حتى خلا من الأعذار. وهو دخل إلى جلسة الاستماع في تل أبيب الثلاثاء للإدلاء بروايته، في ظل أمر توقيف صادر عن المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب في غزة، مع تنديد دولي يعتبر دولته دولة فصل عنصري وإبادة جماعية أسفرت عن مقتل نحو 45,000 فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. والأكثر إثارة للقلق بالنسبة للإسرائيليين هو نزوح نحو ربع مليون إسرائيلي من المناطق الحدودية مع غزة ولبنان منذ عملية "طوفان الأقصى"، بالإضافة إلى نصف مليون آخرين غادروا بشكل دائم، فضلاً عن خسائر اقتصادية بمليارات الدولارات، مع توقعات بإغلاق نحو 60,000 شركة بنهاية العام.
كذلك دخل رئيس الوزراء الإسرائيلي قاعة المحكمة في ظل فضيحة محلية جديدة، تملص قانونيًا منها عبر تحميل مساعده إيلي فيلستين المسؤولية واللوم في تسريب جزء من وثيقة استخباراتية سرية، أو مزورة، لصحيفة "بيلد" الألمانية وصحيفة "جويش كرونيكل" في بريطانيا. وقد سحبت الأخيرة القصة بعدما نفت وسائل الإعلام الإسرائيلية وجود الوثيقة التي زعمت أن القائد الراحل لحماس، يحيى السنوار، كان يخطط لتهريب الأسرى الإسرائيليين من قطاع غزة، وهو ما استخدمه نتنياهو لإقناع الجمهور بأن قوات الاحتلال يجب أن تبقى في ممر فيلادلفيا على طول الحدود بين غزة ومصر، خوفًا من أن ينتهي الأسرى في سيناء أو «يظهرون في إيران أو اليمن". وعندما اعتقلت السلطات الإسرائيلية فيلستين وأربعة آخرين الشهر الماضي بتهمة تسريب الوثائق، اتهم لابيد مكتب رئيس الوزراء بتسريب "وثائق سرية مزورة" لتعطيل أي فرصة للتوصل إلى صفقة حول الأسرى، ولتنفيذ حملة تأثير على الرأي العام ضد عائلاتهم.
وأفادت وسائل إعلام إسرائيلية في 3 كانون الأول/ديسمبر الجاري أن فيلستين أخبر الشرطة بأنه أبلغ نتنياهو بالوثيقة قبل يومين من تسريبها إلى صحيفة "بيلد". وأوضح محامي فيلستين، أوديد سافوراي، أن نتنياهو كان على علم بكلتا الوثيقتين وبخطة تسريبهما. واتهم رئيس الوزراء بـ"التنصل من المسؤولية عن حدث هو من تسبّب فيه"، مشيرًا إلى أن فيلستين اختار عدم التزام الصمت. وأبلغ المحامي إذاعة «كان» الإسرائيلية أن "هناك مرحلة في التحقيق قرر فيها (فيلستين) التوقف عن تحمل المسؤولية نيابة عن رئيس الوزراء ومكتبه".
وأضيفت وصمة أخرى إلى سجلّ نتنياهو عندما دخل قاعة المحكمة مع إطلاق الفيلم الوثائقي "ملفات بيبي" الذي حظرت حكومته عرضه في إسرائيل بسبب لقطات مسربة تظهر غضبه من استجوابه من قبل الشرطة عام 2019، إضافة إلى مقابلات مع منتقديه ومسؤولين إسرائيليين سابقين. ويتناول الوثائقي جوانب من حياته الخاصة، وأسلوب حكمه، وتأثير زوجته سارة وابنه يائير على قراراته.
وفي مناسبات عدة، أشارت مخرجة الفيلم، أليكسيس بلوم، إلى أن سياسات نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل الأطول خدمة، مدفوعة بالمصالح الشخصية و"إصراره على تجنب المحاكمة بتهم الفساد التي قد تؤدي إلى سجنه"، مضيفة أن "هذا قد يفسر العديد من قراراته السياسية ومناوراته وحروبه". واستناداً إلى آراء خصومه، رأت بلوم أن ائتلافه الحاكم و"الدافع الأساسي لحكمه هو حماية مصلحته الشخصية"، بما في ذلك استمرار الحرب "من أجل ضمان بقائه السياسي". ويتضمن الفيلم تصريحات لسياسيين وصحافيين يصفون رئيس الوزراء بـ"مهندس الفوضى" الذي "يعيش في حالة حرب، وفي حالة من عدم الاستقرار". كما ينقل عن رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، الذي استقال هو نفسه قبل محاكمته، أن نتنياهو، برفضه نصيحة محاميه بالاستقالة، كان "يتحدى النظام. وهو قال: لا، أنا فوق الجميع، ولا أحد يمكنه المساس بي". ولذلك، ارتمى في أحضان اليمين المتطرف لتشكيل حكومته الائتلافية.
ويعكس فيلم "ملفات بيبي" عمومًا محاولة جزء من المجتمع الإسرائيلي إنقاذ إسرائيل من نتنياهو الذي أثبت مرارًا لمنتقديه المحليين أنه مستعد لحرق الدولة الصهيونية قبل أن يذهب إلى السجن. ولا يسع المرء إلا أن يأمل.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :