قراءة معمقة في بنود اتفاق وقف العمليات العسكرية بين لبنان وإسرائيل:
التحليل والأثر
بقلم: الدكتور محمد دوغان
شهدت منطقة الشرق الأوسط في تشرين الثاني 2024 محطة سياسية وأمنية مهمة بتوقيع اتفاق وقف العمليات العسكرية بين لبنان والعدو الاسرائيلي، في خطوة جاءت بعد تصعيد كبير بين الجانبين على الحدود الجنوبية للبنان. الاتفاق، الذي تم التوصل إليه برعاية دولية بقيادة الولايات المتحدة وفرنسا، يهدف إلى خفض التوترات، معالجة التحديات الإنسانية، وتهيئة الظروف لاستئناف المفاوضات السياسية حول القضايا العالقة.
الاتفاق يعكس تحولاً مهماً في ديناميكية الصراع الإقليمي، حيث جاء بعد ضغوط دولية مكثفة ووساطة متواصلة لاحتواء تداعيات النزاع العسكري الذي ألحق أضرارًا جسيمة بالبنية التحتية اللبنانية وأدى إلى سقوط ضحايا من المدنيين. كما يشكل الاتفاق اختبارًا لالتزام الأطراف المعنية بتجنب التصعيد والالتزام بالهدنة، بما يفتح آفاقًا جديدة أمام استقرار محتمل في المنطقة.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل بنود الاتفاق، مثل وقف العمليات الهجومية، انسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية، ونشر قوات لبنانية ودولية لضمان الاستقرار. للوصول الى حقيقة ثابتة هل الاتفاق هو اتفاق اذعان التزم به الجانب اللبناني مضطرا بعد ان اقتنع بضمانات الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، ام ان الجانب الإسرائيلي مقتنع ان الاتفاق سيحقق له كل الأهداف التي لم يحققها في حربه البرية.
شاب الاتفاق من حيث الشكل والمضمون، الكثير من نقاط الضعف التي طغت على الإيجابيات التي نجمت عنه. ولكن ليس بالإمكان أفضل مما كان. فالحكومة اللبنانية استطاعت ان تحد بعض الشيء من الضغوط التي مارستها أميركا للقبول بالاتفاق، ولكن على مضض، مع تغير الوضع على الأرض بين حزب الله وإسرائيل.
بعد القيام بدراسة لفقرات اتفاق وقف الاعمال العدائية، الذي تم التوافق عليه من الجانبين في 26/11/2024، سنقوم باستخراج نقاط الالتباس في مضمون هذا الاتفاق، وما إذا كان بالشكل الذي صدر فيه يتماشى مع طموحات الدولة اللبنانية. ومن أبرز البنود التي يمكن ان تكون محل خلاف:
1. من غير الواضح هل نحن امام اتفاقية لها ما لها وعليها ما عليها من التزامات تقع على الطرفين، هل نحن امام اتفاق جنتلمان، ام مجرد اتفاق مكتوب او اعلان لهدنة هشة يمكن ان تسقط بأي لحظة! ولكن ما يثير التساؤل: ان كلا الطرفين اللبناني والإسرائيلي عرضا الاتفاقية على حكومتيهما لأبداء الرأي وليس من المعلوم ما إذا كان تم التصديق عليه وفق الإجراءات المعمولة لدى الطرفين، وهذا ما يثير الشكوك حول طبيعة هذه الاتفاق!
2. كما أصبح معلوماً ان هناك وثيقة جانبية بين إسرائيل وأميركا يطلق عليها " وثيقة ضمانات أميركية" لاتفاق وقف العمليات بين العدو الإسرائيلي وحزب الله، ومن الطبيعي ان هذه الورقة لا تلزم لبنان، ولكن ماذا لو التزمت اميركا حرفياً بما وعدت به إسرائيل، كيف سيكون تنفيذ الاتفاق، ومن ناحية أخرى في حال ذهبت الإدارة الأميركية بعكس إرادة العدو الإسرائيلي، هل سيفي العدو بالتزاماته؟
3. ما زال هناك أراض لبنانية محتلة تفوق ال 20 قرية على الحافة الامامية من الحدود مع فلسطين المحتلة، وهناك قرى لا يمكن العودة اليها الا بعد موافقة العدو الإسرائيلي بعد ان ينسحب منها تدريجيا الى ما وراء الخط الأزرق خلال مهلة شهرين ولديه مطلق الحرية بالتحرك في هذه القرى.
4. كل ما يقوم به جيش العدو الإسرائيلي في قرى الحافة الامامية هي عمليات دفاعية واي رد يصدر عنه يكون دفاعيا ويدخل ضمن بنود الاتفاق، في حين أي رد لحزب الله يدخل ضمن العمليات الهجومية الذي يتعارض مع بنود الاتفاق.
5. أدى الاتفاق الى توقف العمليات العسكرية من جانب حزب الله وبالتالي توقفت عملية إطلاق الصواريخ الى داخل فلسطين المحتلة واستهداف تحركات وتجمعات الجيش الإسرائيلي في المناطق التي يحتلها، في حين أبقت إسرائيل على حريتها في التحرك ضد أي خطر وشيك يمكن ان يهدد امنها على الأقل ضمن منطقة تمتد من الحدود مع فلسطين المحتلة وتتسع لتصل الى مسافة 5 الى 8 كلم.
6. أدى الاتفاق الى وقف العمليات العسكرية لكنه لم يؤد الى وقف إطلاق النار، لأنه اوقف العمليات العدائية الهجومية اما الدفاعية من وجهة نظر العدو فهي شرعية حسب الاتفاق.
7. يقوم جيش العدو الإسرائيلي خلال فترة الشهرين بتدمير وتفكيك البنى التحتية الموجودة داخل المناطق المحددة، كما انه يقوم وعلى مرأى من الجميع بتدمير كل ما يجده من أملاك خاصة وعامة وهي بحد ذاتها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وبهذه الحالة هل يمكن للبنان الرجوع الى الأمم المتحدة.
8. اخرج الاتفاق حزب الله من الصراع العربي الإسرائيلي وبدأ التمهيد لدور جديد في السياسة، وحرب الاسناد لغزة تم إخراجه منها. وفي هذا السياق يمكن التذكير ان اتفاقية الهدنة 1949 كانت بين لبنان وإسرائيل برعاية الأمم المتحدة وتم فيها فصل لبنان عن الصراع العربي -الإسرائيلي، وهذا تأكيد على احترام القرار 1701.
9. اعطى الاتفاق حق الدفاع عن النفس للبنان والعدو الإسرائيلي بموجب احكام القانون الدولي فقط دون ذكر حزب الله حيث اعتبره مجموعة مسلحة.
10. كرس الاتفاق منطقة منزوعة السلاح تمتد على كامل الحدود مع فلسطين المحتلة وتدخل في العمق اللبناني من 5 الى 8 كلم، وهذا ما ورد في بنود القرار 1701 ان يكون هناك منطقة خالية من السلاح من الخط الأزرق الى نهر الليطاني، حيث ان ما عجزت إسرائيل ان تحققه في النار طيلة أيام الحرب حققته من خلال الاتفاق، اذ استطاعت ان تبق احتلالها للكثير من القرى اللبنانية على الحافة الامامية وتمنع القوى المسلحة اللبنانية والأهالي من الدخول الى تلك المناطق، وهي بذلك تسعى للقضاء على البنى التحتية لحزب الله في هذه المنطقة.
11. منع الاعتداء على المدنيين، ولكن هل يحق للجيش اللبناني الرد على الاعتداءات إذا تمت على اهداف عسكرية على كامل الأراضي اللبنانية بحجة انها اهداف لمجموعات مسلحة؟
12. على لسان نتنياهو وغالبية القادة الإسرائيليين ان للعدو الإسرائيلي الحق بضرب أي خطر وشيك يهدد سكان شمال إسرائيل وأمنها، ويخضع تحديد هذا الخطر الوشيك لتقدير الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي فقط.
13. حسب نص المادة الأولى من الاتفاق تم مساواة حزب الله بالمجموعات المسلحة في لبنان وكأن به يشير الى القرار 1559 دون ذكره في البند الخاص بسحب سلاح الميليشيات، لأنه من غير الممكن ان يكون القصد من المجموعات المسلحة هي تلك التابعة للدولة اللبنانية.
14. لم يحدد الاتفاق المدة الزمنية التي يسمح فيها للجيش اللبناني ان يدافع عن نفسه وعن الدولة اللبنانية وخاصة ان الاعتداءات ما زالت مستمرة من الجانب الإسرائيلي.
15. دعا الاتفاق الى احترام القرار 1701 وهو من الأمور المهمة ولكن هذا الامر يثير عدة مواضيع:
أ. القرار 1701 ذكر باتفاقية الهدنة 1949 وهي تضمنت، الحدود الطبيعية مع فلسطين، حل مسألة الاسرى لدى الطرفين، تشكيل لجنة لمراقبة تطبيق الاتفاقية وتنتشر على طرفي الحدود، ولما كان القرار 1701 قد ذكّر بكل هذه الأمور لماذا الالتفاف على اتفاقية الهدنة؟
16. من المؤسف ان جميع الاتفاقيات مع العدو الإسرائيلي برعاية اميركا يتم فيها تحديد العتاد والعديد في مناطق النزاع ، وهذا وجدناه سابقا في اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وعند سؤال الوسيط الأميركي عن نوع الأسلحة التي سيتم دعم الجيش اللبناني بها كان الرد:" سنرى ما هي احتياجات الجيش اللبناني "، هم من يحددون مع العدو الإسرائيلي العديد والعتاد المفروض وجوده في منطقة جنوب الليطاني، حيث نص الاتفاق:" تعتزم الولايات المتحدة وفرنسا العمل ضمن اللجنة الفنية العسكرية للبنان (L4MTC) لتمكين وتحقيق نشر إجمالي للقوات المسلحة اللبنانية يبلغ 10 آلاف جندي في جنوب لبنان في أقرب وقت ممكن".
17. اخرج الاتفاق (النزاع اللبناني -الإسرائيلي) من أروقة الأمم المتحدة الى خيم الناقورة حيث تُشرف اميركا وفرنسا عليه، ولكن كيف سيكون تدخل الأمم المتحدة وخاصة مجلس الامن والأمين العام للأمم المتحدة الذي أعطاه القرار 1701 والزمه بإبقاء مسألة لبنان قيد رقابته واشرافه الفعلي.
18. أنشأ الاتفاق لجنة أطلق عليها اسم "آلية" دون ان يكون هناك تحديد مفصل لدورها: هل هي لجنة مراقبة لتطبيق الاتفاق ام هي لجنة تبادل معلومات استخباراتية حساسة مع العدو الإسرائيلي عن أي من الأمور التي ترتبط بحزب الله للتدخل المباشر.
19. حدد البند خامسا ان الوحيدة التي لها الحق بالانتشار والتحرك في منطقة جنوب الليطاني هي القوى الأمنية والعسكرية اللبنانية وفق لخطة انتشار مرفقة مع الاتفاق، كما تنتشر القوات المسلحة اللبنانية في المواقع في منطقة جنوب الليطاني المبينة في خطة انتشارها المرفقة بالاتفاق، مما يثير التساؤل: ان تحديد المواقع التي سينتشر فيها الجيش اللبناني مبني على موقف ورأي من! وللأسف وعلى لسان أحد المسؤولين في لبنان على احدى الشاشات اللبنانية قال ان الجيش اللبناني لم يقدم أي خطة للانتشار مما يؤكد حجم الالتباس والارتباك لدى الجانب اللبناني.
20. لم يقدم الاتفاق أي حل بالنسبة لمسألة الاسرى الموجودين لدى العدو الإسرائيلي شأنه شأن القرار 1701، ولكن وبما ان اتفاقية الهدنة 1949 أعطت حلاً واقعياً لمسألة الاسرى لماذا لم يعمل بها طالما ان الاتفاق نفسه دعا الطرفين الى احترام القرار 1701 الذي من ضمنه اتفاقية الهدنة.
21. نص البند السابع الفقرة (ب) و (ج)على انه: ـ بدءا من منطقة جنوب الليطاني، تفكيك كل المنشآت غير المرخصة القائمة والتي تعمل في إنتاج الأسلحة والمواد ذات الصلة، ومنع إنشاء مثل هذه المنشآت في المستقبل، وبدءاً من منطقة جنوب الليطاني، تفكيك كافة البنى التحتية والمواقع العسكرية، ومصادرة كل الأسلحة غير المرخص بها والتي تتعارض مع هذه الالتزامات".
وهنا يثور التساؤل هل عملية تفكيك المنشآت والبنى التحتية يبدأ من منطقة جنوب الليطاني صعودا الى الحدود ام بدءا من جنوب الليطاني نزولاً الى بيروت وعلى الحدود مع سوريا بقاعا، وهذا الالتباس يدفع الى القول هل الالية تشمل منطقة جنوب الليطاني فقط ام لها صلاحيات على كامل الأراضي اللبنانية.
22. ويبقى السؤال الأهم كيف سيتم تفكيك البنى التحتية ونزع أسلحة حزب الله من قبل الجيش اللبناني في ظل مراقبة الأميركي لتنفيذ الاتفاق، وما هو مصير البيانات الحكومية التي تؤكد على حق لبنان بمقاومته.
23. لم يحدد الاتفاق الفترة التي يمكن لأهالي القرى الامامية العودة فيها الى قراهم بوجود العدو الإسرائيلي الذي منع كل تواجد لهم في مناطق عمله العسكرية.
24. بالنسبة للترسيم البري سيكون برعاية أميركية للمفاوضات وهناك خشية ان يخسر لبنان مزيدا من أراضيه كما حصل في عملية الترسيم البحري. لأنه لم يحدد الالية التي ستتبع بالرغم من ان اتفاقية الهدنة حددت وبشكل لا يقبل الشك الحدود التاريخية والطبيعية مع فلسطين المحتلة.
25. لم يحدد الاتفاق مسألة الحدود مع سوريا ومسألة المعابر غير الشرعية، وانما ذكر بنفس البنود التي حددها القرار 1701 ولكن هل يسمح للعدو الإسرائيلي ان يراقب تلك الحدود والمعابر ويقصفها في حالة الاشتباه بشيء يهدد امن إسرائيل.
في الختام، يمثل اتفاق وقف العمليات العسكرية بين لبنان وإسرائيل لعام 2024 خطوة هامة نحو خفض التوترات المزمنة في المنطقة. ورغم التحديات التي تواجه تنفيذ بنوده، يبرز الاتفاق كفرصة لإعادة بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة وخلق بيئة ملائمة للحوار السياسي.
الاتفاق يعكس تحولاً في الرؤية الإقليمية والدولية تجاه ضرورة كسر دوامة العنف، خاصة مع التركيز على قضايا مثل ترسيم الحدود، ضمان أمن المدنيين، وتعزيز الاستقرار في جنوب لبنان. ومع ذلك، فإن نجاحه يعتمد على التزام الأطراف المعنية بما تم الاتفاق عليه، ودور الوسطاء الدوليين في مراقبة التنفيذ ودعم الحلول المستدامة.
ولكن يبقى السؤال الأهم هو ما إذا كانت هذه الهدنة المؤقتة ستشكل بداية جديدة لعلاقات أكثر استقراراً بين لبنان وإسرائيل، أم أنها ستكون مجرد هدنة عابرة ضمن سياق صراعات طويلة الأمد. نجاح هذا الاتفاق يمكن أن يكون نموذجًا يحتذى به لحل النزاعات في مناطق أخرى من العالم التي تعاني من التوترات المزمنة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :