صدر عن "بنك عوده" تقريره الاقتصادي الفصلي الجديد في وقت كان لبنان بدأ يشهد اندلاع حرب إسرائيلية موسّعة على مختلف أراضيه. وفي حين أنّ هذه الاعتداءات خلّفت أضراراً جسيمة داخل الاقتصاد المحلي، إلا أنّه من المبكر تقييم بشكل حاسم تداعياتها المباشرة وغير المباشرة، القصيرة الأجل منها والطويلة الأجل. غير أن التقرير يقوم بتقييم أوّلي للواقع الاقتصادي الحالي والآفاق المستقبلية في ظل سيناريوهات الحرب.
فيبدأ التقرير بالقول إنّ لبنان تكبّد جرّاء الأعمال العدوانية خسائر هائلة، بشرية ومادية واقتصادية، إضافةً الى موجة نزوح كثيف لم يعرفها منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990. وباتت معظم قطاعات الاقتصاد اللبناني راكدة. ومع أن قطاعَيْ السياحة والزراعة كانا الأكثر تضرّراً من العدوان، إلاّ أن قطاعات الصناعة والتجارة والعقارات وجميع الخدمات تأثّرت سلباً هي الأخرى بالأوضاع السياسية والأمنية غير المؤاتية.
على صعيد القطاع الحقيقي، جاءت الأضرار ضخمة بكافة المعايير وهي تقدَّر بما لا يقلّ عن 40% من الناتج المحلّي الإجمالي للبلاد حسب التقديرات الأكثر تحفّظاً. وتشمل الأضرار المباشرة الناجمة عن الإعتداءات الإسرائيلية على لبنان تكاليف البنى التحتيّة والأبنية والمنازل المدمرة وتدهور قطاع الزراعة الخ. أما التكاليف غير المباشرة على الاقتصاد، فهي تتعلّق بالنشاط الاقتصادي الضائع الذي يقدَّر أن حجمه يفوق بشكل ملحوظ حجم الخسائر المباشرة.
في هذا السياق، من المرجّح أن يشهد الاقتصاد اللبناني مرحلة من الانكماش بسبب الاعتداءات. فمن المقدَّر أن تقفل السنة الحالية على انكماش قدره -8% في حال استمرار الحرب على لبنان ثلاثة أشهر وأن يصل هذا المعدل الى -20% في العام المقبل إذا طالت الحرب سنةً كاملة. ويضيف التقرير أنّه بخلاف المناخ الذي كان سائداً في العام 2006، فإنّ البلاد تعاني أصلاً اليوم من اختلالات اقتصادية هائلة ومن خسائر في القطاع المالي.
على صعيد الوضع النقدي، أقفلت أوضاع البلاد النقدية الأشهر التسعة الأولى من العام 2024 على تقلّبات هامشيّة ضيقة في معدل سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي في السوق السوداء؛ بينما تعرّضت احتياطيّات القطع الأجنبي لدى مصرف لبنان لضغوط تراجعية في بداية شهر تشرين الأول بعدما أعلن مصرف لبنان عن تدابير استثنائية لتلبية طلب السوق على الدولار الأميركي. فاحتياطيّات القطع السائلة لدى مصرف لبنان، التي كانت قد ارتفعت بزهاء 2.1 مليار دولار بين تموز 2023 وأيلول 2024، تقلّصت بقيمة 343 مليون دولار خلال النصف الأول من تشرين الأول 2024 لتبلغ 10322 مليون دولار في منتصف الشهر المذكور. وهذا التقلّص، الأول من نوعه منذ استلام حاكم البنك المركزي الجديد منصبه بالإنابة، عائد بخاصة الى السماح بسحوبات نقدية عن ثلاثة أشهر دفعةً واحدة بموجب التعميمين رقم 158 و166 في بداية تشرين الأول، ودفع رواتب القطاع العام بالدولار الأميركي، وتدخّل مصرف لبنان في سوق الصرف الموازي لتلبية الطلب على الورقة الخضراء.
أما في ما يخص سندات اليوروبوند اللبنانية، فتجدر الإشارة الى أن حمَلة هذه الأوراق اللبنانية المتداولة دولياً بدأوا يراهنون على حدوث خرق سياسي ما. فأسعار سندات اليوروبوند اللبنانية ارتفعت في الأسواق الدولية بنسبة 35% في غضون شهر، وتحديداً من 6.5 سنت للدولار الواحد في الأسبوع الأخير من أيلول 2024 الى 8.75 سنت للدولار الواحد حالياً. ويستشفّ المستثمرون الدوليون امكانية تغيّر المشهد السياسي-الاقتصادي الوطني في الأمد المتوسط، بصرف النظر عن التحديّات الوشيكة على الأمد القصير.
ويذكر التقرير أنّ هنالك بعض النقاط المؤاتية تبرز اليوم في خضم المناخ الضبابي العام القائم. فقد انخفض الدين العام السوقي من 95 مليار دولار قبيل الأزمة المالية إلى نحو 7 مليار دولار اليوم. كذلك، انخفض التسليف للقطاع الخاص (شركات وأفراد) من 55 مليار دولار قبل الأزمة إلى أقل من 1 مليار دولار كقيمة سوقية، أو أقل من 5% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل متوسط عالمي نسبته 110%. وعلى أساس مجمّع، انخفضت المديونية الاجمالية في لبنان من 150 مليار دولار إلى أقل من 10 مليار دولار، ما يشير إلى احتمال حصول نمو لافت في الاقتصاد الحقيقي عندما تنحسر العوامل الظرفية، وذلك في ظل تدني حجم الاستدانة السائدة.
إلى ذلك، يظهر القطاع الخاص في لبنان كوجه صامد رغم الانتكاسة الملحوظة المسجلة، ذاك أنه نجح في التأقلم مع محيط صارت الأحداث غير المتوقعة فيه قاعدة وليس استثناء. إن هذا القطاع يحتاج اليوم إلى الدعم والتمويل لمواجهة الاقتصاد الموازي وغير الشرعي الآخذ في النمو عقب الأزمة المالية بشكل عام.
أخيراً، يقول التقرير أنّه في حال استعادة عامل الثقة مع انتهاء الحرب، وإقرار تسوية سياسية مقرونة بالإصلاحات المنشودة، من الممكن أن يستعيد إجمالي الناتج المحلّي اللبناني المستوى الذي بلغه قبل الأزمة المالية وذلك في خلال نصف عقد من الزمن، بحيث يسجَّل نمو إيجابي حقيقي لعدد من السنوات مع انعكاس على مستوى دخل الفرد والوضع الاجتماعي- الاقتصادي بالمعنى الواسع. إنّ توافر شروط مثل هذا النهوض المأمول يتوقّف قبل كل شيء على الإرادة السياسية الداخلية لما بعد الحرب، وعلى السلوك التوافقي للسلطات المحليّة، وعلى إعطاء الأولوية للمصلحة العامة، وعلى الالتزام بأجندة إصلاحية، وعلى الصحوة المنشودة من قبل كافة العملاء الاقتصاديين بشكل عام.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :