بهية ببيوتها القديمة العريقة المصبوغة بالابيض والازرق تحاكي بزرقتها بحرها وببياضها صخورها العنيدة. تلمع أنفة ناصعة بنقاوة مياهها وطهارة شاطئها بمشهد بديع يجذب العابرين لخطي الاتوستراد الساحلي. فبعد جبيل والبترون، وشكا، تستقبلنا هذه القرية البحرية اللبنانية بهدوئها الداخلي وبشاطئها الهادر بصخب الموج لتذكرنا بشواطئنا القديمة قبل الحداثة الملوثة وقبل أن تمتد الاستثمارات العشوائية اليها لتعبث بها وتخرّبها كأنها صورة قديمة من القرن الماضي لشاطئ في بيروت أو صيدا أو طرابلس.
تقع أنفة على بعد 65 كيلومترا إلى الشمال من بيروت، و15 كيلومترا إلى الجنوب من طرابلس، ويبلغ عدد سكانها نحو 6500 نسمة. وقد تكون أنفة من البلدات اللبنانية البحرية القليلة الهادئة، حيث باستطاعة الزائر السائح أن يمضي فيها أيام العطل ممارساً هوايات متعددة كالسباحة والسير على الأقدام وتناول أطباق ثمار البحر على أنواعها في مطاعمها وأن يقيم في بيوت الضيافة لقضاء ليلة هادئة، فينام على هدير الموج ويستفيق على أشعة الشمس التي لا تغيب عن سمائها.
معالم مميّزة
تمتاز أنفة بأهمية تاريخية، لأنها كانت محطّة لمختلف الشعوب التي مرّت على الساحل اللبناني. ولقد اشتُهرت بصناعة الملح وصيد السمك. وذُكرت أنفة في رسائل تل العمارنة التي تعود الى القرن الرابع عشر ق.م. باسم "أنبي". ولقد أدّت دوراً بارزاً في الفترة الصليبية حين أُطلق عليها تسمية "نفين".
وغيّر الصليبيون طبيعة البلدة من خلال قطع اللسان الصخري الذي تتميز به أنفة، وشق أخدودين عظيمين. وكان الهدف من ذلك عزل القلعة العظيمة التي كانت تقوم على الرأس، عن البرّ.
وعُثر في الموقع على بعض المعالم الأثرية الشاهدة على أهميّتها. وأبرزها جدران تعود الى الفترة الفينيقية والرومانية، ومعاصر لصنع النبيذ، وأقنية، وأدراج، وآبار، ومدافن محفورة في الصخور، وقطع فخارية من مختلف العصور وفسيفساء ملوّنة.
عُرفت أنفة بإنتاج الملح منذ التاريخ، فانتشرت على شاطئها آلاف البرك التي كانت تُستخدم لجمع مياه البحر. وكانت المياه تُجرّ الى البرك بواسطة المراوح الهوائية التقليدية، التي كانت تعمل على ضخّ المياه. وكان يُعدّ إنتاج ملح البحر من ركائز الاقتصاد المحلي في المنطقة، لذلك كان يُطلق عليه لقب "الذهب الأبيض". ولكن تراجعت هذه الصناعة مع الوقت إلى حدّ الانقراض، بسبب منافسة الأسواق الخارجية، فتحوّلت معظم الملّاحات اليوم إلى معالم تراثية.
كما تُعدّ قلعة أنفة من القلاع الفريدة في لبنان. فهي تتميّز بالخندق المحفور في الصخر، الذي يبلغ طوله نحو خمسين متراً، ويصل عرضه الى عشرين متراً تقريباً. وصُمّم هذا الخندق الذي نقش يدوياً لجعل المكان صالحاً لبناء السفن من جهة، ولعزل القلعة تماماً عن البرّ، لتصبح شبيهة بجزيرة بحرية.
قرية عادية أو واجهة سياحية؟
عند كل موسم سياحي أو عيد في لبنان، يُكرِّر أرباب المؤسسات السياحية والخدماتية، واقع انحسار القطاع السياحي الى ما قبل استفحال الأزمة الاقتصادية في العام 2019. ويتناقلون من موسم لآخر، أرقاماً تؤشِّر إلى تقدّم ملموس أو الى تراجع تحت سقف الانهيار العام. وفي مراجعة لواقع القطاع على مدى 10 سنوات، أي بين العامين 2014 و2024، لا يخفى الانحدار الكبير لأرقام القطاع ولتوقّعات أربابه. ويمكن تقسيم الفترة العشرية إلى مرحلتين، الأولى من العام 2014 حتى 2019، والثانية تمتدّ حتى العام 2024 وتحمل تصوّرات غير مشجّعة.
ان العنصر الرئيسي الذي يعيق التطور السياحي في بلادنا وحتى ما قبل الازمة الاقتصادية وتزعزع الاوضاع الامنية هو أن اهتماماتنا بالمشاريع السياحية لا تلحظ أهمية المناطق النائية بل تهتم بالمدن الكبرى وما يحيطها من ضواحي. على سبيل المثال، كان بامكان رجال الاعمال أن يستثمروا سياحيا بمشاريع صغيرة بقرية أنفة مع التقيّد بشروط بيئية مشددة تراعي نظافة المكان.
لكن الواقع جامد ولا يتحرك اذ لا تزال الجهود غير كافية وتفتقد الى الكثير من الأعمال لتحويل هذه المنطقة بأكملها الى منتجعات للسياحة البيئية البحرية ما يعود بالكسب المادي على أهل المنطقة فينعش اقتصادها ويدعم إرثها الثقافي والحضاري الذي يحويه هذا الشاطئ الجميل.
ما يميز شاطئ أنفة أن لا مكان يشبهه حاليا في لبنان، فالمنتجعات السياحية الضخمة غير متوفرة في البلدة، إنما الراحة الهادئة الخالية من الضجيج والتلوث هي المتوفرة. لانفة شاطئ لا يمكن المرور من أمامه دون التوقف عنده ودون ان تجذبك بيوت الضيافة البيضاء المقامة لاستقبال السياح ودون التمتع بزرقة السماء الناصعة والمياه وبالنسيم البحري النقي الحامل الى البرّ رائحة البحر..
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :