تعرّف على أشد الأوبئة فتكاً على مدار التاريخ.. منها ما قضى على ثلث البشرية

تعرّف على أشد الأوبئة فتكاً على مدار التاريخ.. منها ما قضى على ثلث البشرية

 

Telegram

 

 

شهدنا جميعاً في الأعوام الماضية تفشي جائحة كورونا التي صدمت الكثيرين وأجبرتهم على تغيير أسلوب حياتهم بشكل جذري، لكن الأجيال الجديدة ربما لا تعلم أن تفشي الأوبئة كان أمراً شائعاً في الماضي، ليس هذا فقط، بل إنها كانت أشد فتكاً بالبشر نظراً لعدم تطور العلم وتحديداً القطاع الطبي بما فيه الكفاية آنذاك. فكان عامة الناس يُرجعون أسباب انتشار الأوبئة إلى الخرافات والأساطير أو إلى غضب الآلهة عليهم بسبب غياب المنهج العلمي والأدوات التي تساعد على فهم السبب الحقيقي لتفشي الوباء وسبل القضاء عليه أو الوقاية منه.
25
انتشار الأوبئة في الماضي
في موسوعته الطبية، تطرّق الطبيب والكاتب الطبي الألماني جوستوس هيكر (1795-1850) إلى تفشي الأنفلونزا في عام 1510. ويُعرف هيكر، عالم الأوبئة الذي عكف على دراسة الطاعون والجدري والأمراض المعدية الأخرى، بأنه مؤسس فرع دراسات تاريخ الأمراض المعدية. وقد سجل مؤرخو ذلك العصر أن الأنفلونزا ظهرت في شمال أفريقيا ثم انتشرت على طول طرق التجارة إلى الشرق الأوسط، وتفشّت بشكل كبير في القدس ومكة ومدن أخرى، ومنها إلى أوروبا.

أما في إيطاليا، فقد ظهرت الأنفلونزا بعد وقت قصير من وصول سفينة من مالطا إلى إحدى مدنها الساحلية. وانتشرت العدوى كالنار في الهشيم في جميع أنحاء البلاد، مما دفع البابا يوليوس الثاني إلى إعلان أن انتشار العدوى ما هو إلا ”غضب من الله“. بعد ذلك، انتقلت الأنفلونزا من الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى شمال أوروبا، واتجهت نحو لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، كما وصلت أيضاً إلى فرنسا وإنجلترا. وقيل إن الأنفلونزا في ذروة تفشيها كانت تقتل ما يصل إلى 1000 من سكان باريس يوميًا.

وفي عام 1557، انتقلت الأنفلونزا من الإمبراطورية العثمانية إلى أوروبا وأفريقيا على طول طرق التجارة قبل عبور المحيط الأطلسي لتصل إلى الأمريكتين. كانت هذه السلالة الخاصة من الأنفلونزا شديدة العدوى وتسببت في العديد من الوفيات. وكانت الأوبئة تحدث بشكل متقطع على مدى السنوات العديدة التالية، مما تسبب في ارتفاع حاد في الوفيات في أوروبا، ولم تسلم أي قارة من تلك الأوبئة. ولقد شهدت إيطاليا وإنجلترا وفرنسا وهولندا وإسبانيا ودول أخرى معدلات غير مسبوقة من الوفيات.

وفقًا لبيانات بحثية من أكثر من مائة أبرشية في إنجلترا، فقد بلغ معدل الوفيات أكثر من 60% في بعض الأبرشيات. وفي لندن وحدها مات أكثر من 8000 شخص. أما في اسكتلندا، فقد أصيبت الملكة ماري وجميع من في بلاطها بالأنفلونزا. علاوة على موت عدد ضخم من المزارعين حتى أصبح من المستحيل حصاد المحاصيل الزراعية، كما تسبب نقص الغذاء، إلى جانب تفشي موجة ثانية من الأنفلونزا، في إحداث اضطراب اجتماعي واقتصادي واسع النطاق. ويعتقد المؤرخون الطبيون أن هذا التفشي دفع الحكومة والبيروقراطيين إلى عقد أول اجتماع للخبراء على الإطلاق من أجل وضع تدابير للوقاية من العدوى.

في عام 1580، تفشّت جائحة من نوع مختلف في آسيا وانتشرت عبر طريق الحرير والشرق الأوسط إلى أوروبا وإفريقيا. وبعد ستة أسابيع، ظهرت أيضاً في أمريكا الشمالية.

من حسن الحظ أنه لا تزال لدينا العديد من السجلات المتعلقة بهذا الوباء، والتي تشير إلى أن العديد من الوفيات حدثت مع انتشار الأنفلونزا في جميع أنحاء أوروبا. خلال عصر الاستكشاف في أوروبا، أدت طرق التجارة البحرية الجديدة وتحركات القوات إلى انتشار الفيروس في جميع أنحاء العالم، وفقدت العديد من المدن الإسبانية نسبًا كبيرة من سكانها بسببه.

في عام 1588، تفشّت الأنفلونزا مرة أخرى في إنجلترا وأيرلندا، وتشير السجلات في ذلك الوقت إلى أن الناس في كل المناطق أصيبوا بالفيروس. أما في عام 1593، فقد تفشّت موجة أخرى من الوباء في أوروبا وأمريكا الشمالية على الأرجح بسبب نوع مختلف من الفيروس مما تسبب في حدوث جائحة. وتحديداً في المستوطنات القريبة مما يعرف الآن ببوسطن، تأثرت جميع الأسر تقريبًا، ولم يسلم أحد.

مراكز تفشي الأوبئة قديماً
ظهرت موجة أخرى من الأنفلونزا في عام 1729، حيث انتشر الفيروس من روسيا غربًا إلى بلدان أخرى. وفي غضون ستة أشهر، كان قد تفشى في كل مكان في أوروبا، وانتشرت موجات جديدة في جميع أنحاء العالم على مدى السنوات الثلاث التالية. وجدير بالذكر أن معدل الوفيات من الموجة الثالثة كان أعلى من معدل الوفيات من الموجة الثانية، إذ تشير التقديرات إلى أن ثلث البشرية بأكملها أصيبوا بالفيروس.

ثم ضرب الوباء التالي بعد 50 عامًا، بين 1781-1782. لكنه بدأ هذه المرة في الصين ووصل إلى أوروبا بعد 10 أشهر عبر روسيا. في ذروة ذلك الوباء، كانت الأنفلونزا تصيب ما يقرب من 30 ألف شخص يوميًا في سانت بطرسبرغ، وأصابت أكثر من 60% من سكان روما و70% من سكان إنجلترا.

حدثت أربع موجات أخرى من الأنفلونزا بين عامي 1830 و1848. ومن المرجح جدًا أن تكون الموجة التي بدأت في الفترة من 1830 إلى 1831 قد بدأت في الصين أيضًا. وبحلول عام 1833، كانت قد انتقلت غربًا من روسيا إلى أوروبا. وفي الفترة ما بين عامي 1836 و1837، انتشرت الأنفلونزا هذه المرة من الشمال إلى الجنوب. أما في الفترة ما بين عامي 1847 و1848، فقد انتشرت جائحة عبر البحر الأبيض المتوسط ​​إلى جنوب فرنسا، ومن هناك انتشرت إلى أجزاء أخرى من أوروبا الغربية، وأصيب بها الناس في كل أنحاء القارة. في خضم هذه الأوبئة المنتشرة على نطاق واسع، أصيب عازف البيانو والملحن البولندي فريدريك شوبان (1810-1849) بالأنفلونزا مرتين، في عامي 1832 و1837. ويعتقد البعض أن حالات الارتفاع والانخفاض العاطفي في دراسته المرجعية Etude in A minor ”رياح الشتاء“، وتحديداً المقطوعات 25-11، التي ألفها في ذلك الوقت تقريبًا، عبرت عن المعاناة التي تسببت فيها الأنفلونزا.

شوبان يعزف على البيانو في صالون الأمير أنتوني رادزيويل (1775–1833). ملكية متحف فريدريك شوبان. (دياغوستيني/غيتي إميجيز)
شوبان يعزف على البيانو في صالون الأمير أنتوني رادزيويل (1775–1833). ملكية متحف فريدريك شوبان. (دياغوستيني/غيتي إميجيز)

في لندن، على وجه الخصوص، تقول المصادر إن موجة الأنفلونزا في الفترة من 1847 إلى 1848 تسببت في عدد من الوفيات يفوق الوفيات الناجمة عن تفشي الكوليرا في الفترة من 1832 إلى 1833 في المدينة، مما أودى بحياة ما بين 4000 إلى 7000 شخص. لقد تفشّت أوبئة الأنفلونزا 25 مرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومن المرجح أن 12 منها كانت أوبئة.

وبخلاف تلك الأوبئة، بدأت موجة جديدة من المرض تسمى ”الأنفلونزا الروسية“ في الانتشار من الجزء الجنوبي من روسيا في 1889-1890، وانتشرت في جميع أنحاء العالم حاصدةً أرواح ما يقدر بمليون شخص أو أكثر. حتى ظهور الأنفلونزا الإسبانية، كانت الأنفلونزا الروسية هي الوباء الأكثر انتشارًا وفتكاً على الإطلاق. لكن الأبحاث الحديثة أظهرت أن الأنفلونزا الروسية كانت ناجمة، على ما يبدو، عن فيروس تاجي ولم تكن في الواقع أنفلونزا.

وباء الأنفلونزا يجتاح اليابان
في اليابان، هناك وثائق تظهر أن أوبئة الأنفلونزا قد انتشرت منذ فترة موروماتشي (1333-1568) على أقل تقدير. حيث ورد في أحد أقدم النصوص التاريخية الباقية في اليابان، سانداي جيتسوروكو (التاريخ الحقيقي لثلاث حقب في اليابان، الذي اكتمل في عام 901)، والذي يغطي الفترة من 858 إلى 887، أن الأنفلونزا كانت منتشرة في هيانكيو (كيوتو حاليًا) والمحافظات المجاورة لها، فضلاً عن أماكن أخرى من البلاد.

في عام 872، أشارت سانداي جيتسوروكو إلى أن غايغياكو كان منتشرًا على نطاق واسع منذ الشتاء السابق داخل وخارج محافظات كيناي الخمس وهي كيوتو، وياماشيرو، وياماتو، وكاواتشي، وسيتسو، مما تسبب في العديد من الوفيات.

فما الذي يشير إليه مصطلح غايغياكو؟ وفقًا لـ Ishinpō، الذي يعد أقدم نص طبي موجود في اليابان، ويعود تاريخه إلى عام 984، فإن غايغياكو هو مرض يشبه الأنفلونزا مصحوب بالسعال، تمت الإشارة إليه أيضاً باسم شيوابوكي، وهي قراءة مختلفة لنفس الكانجي (咳逆). وقد لاحظ تسونودا تاكافومي، أخصائي الأمراض المعدية والمؤرخ الطبي، مقطعًا في حكاية جينجي يصف معاناة يوغاو من الصداع ومرض شيوابوكي، وهي أعراض مشابهة لأعراض الأنفلونزا.

تذكر الحكاية التاريخية Ōkagami (المرآة العظيمة)، التي اكتملت في أواخر القرن الحادي عشر أو أوائل القرن الثاني عشر، وفاة الإمبراطور إيتشيجو في عام 1011 عن عمر يناهز 32 عامًا، بعد إصابته بمرض شيوابوكي، وهو مرض مثل الأنفلونزا. كما تحكي قصة Masukagami (المرآة الواضحة)، وهي قصة تاريخية أخرى كُتبت في أوائل القرن الرابع عشر، أن وباء شيوابوكي تسبب في العديد من الوفيات.

في فترة إيدو (1603-1868)، اجتاحت أوبئة الأنفلونزا البلاد عدة مرات. كما أن المرض الذي انتشر في إيدو (طوكيو) عام 1716، والذي يُفترض أنه الأنفلونزا، حصد أرواح أكثر من 80 ألف شخص في شهر واحد. وأشار أحد التقارير عن ذلك الوقت إلى أن «محارق الجثث أصبحت عاجزة عن التعامل مع الأعداد الهائلة من الموتى، لذا أصبحت جثث الفقراء تُلف في حصير من القش وتُدفن في ماء خليج إيدو قبالة شيناغاوا.

ولعل أحد الجوانب المثيرة للاهتمام التي يجب ملاحظتها هو أن أوبئة الأنفلونزا أُطلق عليها أسماء مثل أوشيتشي كازي (أنفلونزا أوشيتشي)، أو أوكوما كازي (أنفلونزا أوكوما) أو تانيكازي، مما يعكس الاهتمامات الشعبية في ذلك الوقت. حيث أن أوشيتشي كانت ابنة بائع خضار، خاب أملها في حبها، فكانت تشعل الحرائق على أمل رؤية عشيقها مرة أخرى، إلا أن الشرطة ألقت القبض عليها وأُعدمت حرقاً بسبب جريمتها. أما أوكوما فيشير إلى أوكوما سيئ الحظ من شيروكيا، وهي شخصية في إحدى مسرحيات عرائس بونراكو الشهيرة. وكان تانيكازي هو اسم مصارع السومو الشهير الذي قال ذات مرة مازحاً: ”إذا كنت تريد رؤيتي أخسر مباراة، تعال إلى البطولة عندما تكون مصابًا بنزلة برد“. ومن المفارقات العجيبة أن تانيكازي مات عن عمر يناهز 44 عامًا بعد إصابته بوباء الأنفلونزا الذي تفشى في إيدو عام 1795، وسط سلسلة متواصلة من 35 انتصارًا.

يمكن العثور على وصف تفصيلي للأوبئة في فترة إيدو في Nansō Satomi hakkenden (سجلات الكلاب الثمانية) للروائي الشهير تاكيزاوا (كيوكوتي) باكين (1767–1848). وفقًا لمجموعة مقالات باكين، فإنه بدءًا من سبتمبر/ أيلول 1825 تقريبًا، اجتاح البلاد مرض يشبه نزلة البرد، وانتشر من إيدو إلى كيوتو وأوساكا وناجازاكي. كان هذا الوباء معديًا جدًا لدرجة أنه ”في عائلة مكونة من 10 أشخاص، لم ينجُ أحد من الإصابة بالعدوى“، وتلته موجة ثانية في العام التالي.

في تلك الأيام، كان الكثير من الناس مهتمين بمصدر البلاء، فنجد أحد الأبيات الشعرية الساخرة تصف الوضع كالتالي ”سعاة البريد سيجلبون معهم بالتأكيد نزلات البرد“، في إشارة إلى سعاة هيكياكو الذين يسافرون على طريق توكايدو بين إيدو وكيوتو وينشرون نزلات البرد.

بعد انتهاء فترة العزلة الطويلة التي عاشتها اليابان في منتصف القرن التاسع عشر، أدى السفر بين اليابان والغرب إلى جلب الأمراض المعدية إلى البلاد. فانتشرت خلال تلك الفترة أوبئة مثل الكوليرا والجدري والحصبة وغيرها. على الرغم من عدم وجود سجلات دقيقة، إلا أن التقديرات تشير إلى أن ما يصل إلى 100 ألف ياباني كانوا يموتون سنويًا بسبب الأمراض المعدية القادمة من الخارج. ولقد أصبح وباء الأنفلونزا الذي تفشّى عام 1854 يسمى ”الأنفلونزا الأمريكية“، ربما لأن الشعب اعتقد أن المرض دخل إلى اليابان مع أسطول ماثيو بيري من ”السفن السوداء“ الذي وصل إلى شواطئ اليابان في العام السابق.

لا شك أن الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر قد حفزت الحركة حول العالم بشكل كبير. وبينما بدأ الناس يسافرون أكثر إلى جميع أنحاء المعمورة، انتشر معهم فيروس الأنفلونزا، فكانت هناك موجات متكررة من الأنفلونزا في كل مكان، مما أدى في النهاية إلى ظهور الأنفلونزا الإسبانية في عام 1918، وهو أكبر انتشار للعدوى شهده العالم حتى ذلك الحين.

 

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram