الحقيقة أجمل ما تكون عارية
(سعيد تقي الدين)
المهندس جوزف الأسمر
بعد سبعين سنة على استشهاد المؤسس، لم نشهد خلالها أي تقييم جدي لإداء الحزب ونهجه. فما هو متداول طيلة هذه السنين يمكن وضعه في إطار الرأي الشخصي أو وجهة نظر الكاتب. وما نحن بحاجة إليه هو تقييم علمي يقوم به رفقاء مع متخصصين في كتابة التاريخ بشفافية ومصداقية وحرفية. فالتاريخ الصحيح يضيء طريق المستقبل، وتستخلص من خلاله العبر حتى لا تتكرر الأخطاء نفسها عند وضع الخطط الحزبية.
وإذا نظرنا إلى مسيرة الحزب، وتوقفنا عند المحطات الرئيسية التي تركت أثراً مؤلماً على مسيرته، نرى أن انغماس الحزب في السياسة أبعده عن لعب دوره الأساسي في بناء المجتمع. فكلما تعاطى الحزب السياسة ضعف وتراجع، وكلما ابتعد عنها قوي وتمدد. والمثال الواضح على ذلك هي فترة السجن بعد الانقلاب الارتجالي سنة 1961 والتي أبعدت الحزب قصراً عن السياسة. لقد كان الحزب في تلك الفترة محور الحياة الفكرية، والدراسات والكتب التي صدرت آنذاك كانت مميزة، وقد أغنت الثقافة القومية. هذا على صعيد الفكر، أما على صعيد التمدد الشعبي فقد شهد الحزب فورة لا يماثلها نسبياً سوى أيام وجود سعاده. هذه الفورة سرّعت في إصدار العفو العام لأن ثقل الحزب الانتخابي أصبح وازناً لأصحاب الشأن .
هذا في سياسة الحزب. أما في نهج الحزب وطريقة عمله، فالسياسة منعته من أن يطور عمله في المجتمع... بل أصبح يجاري في نهجه الأحزاب التقليدية و"الوطنية". فكل المفاسد التي نذرنا أنفسنا لمحاربتها صرنا نمارسها نحن، فلم يعد كلامنا مقنعاً للمواطن. وهذا النهج سلب من الحزب أهم صفة له وهي تميزه عن بقية التكتلات السياسية والاجتماعية، وبأنه يحمل رسالة قومية اجتماعية و"ديناً" يصعد من الأرض إلى السماء. لقد سلبت السياسة الروح المتمردة للحزب ودجنته. وقد يعترض قائل إن الظروف والتطورات فرضت عليه هذه المواقف التي أنهكته. ربما يصح هذا القول، لكن علينا أن نعترف بأن الحزب لم يكن محصناً في نهجه وطريقة عمله. فدخلت عليه السياسة بسهولة وجذبته إلى ملعبها، وأصبح لاعباً فاشلاً على أرضها، تراقبه العين الماكرة والساهرة على فشله. فهذه العين تريده طائعاً مطيعاً. وهذه التبعية أفقدته استقلاليته الحزبية وجعلته يغرق أكثر فأكثر في أتون التقاليد الاجتماعية والسياسية حيث عقيدته تقف على نقيض منها وتدعو إلى تغييرها، فحلت هذه الأمراض الاجتماعية بديلاً عن نظامه القومي الاجتماعي.
لقد أقسمنا على عقيدة تساوي وجودنا، وهي نظرية واضحة لبناء مجتمع جديد. ولكنها تبقى في إطار النظرية. فكل نظرية مهما كان نوعها، اجتماعية أو سياسية أو علمية، تأخذ مصداقيتها وشرعيتها عند تطبيقها وعند الوصول إلى النتائج المرجوة منها. والنظرية هي كائن متحرك تتحسس وتتطور عند التنفيذ وباستمرار. والنظرية الجامدة هي نظرية ميتة. ونحن ما زال نشاطنا محصوراً في كتابات سعاده ومسيرته الفكرية. إن البحث والتعمق في العقيدة لأمر هام وضروري، ولكن أما آن الأوان للانتقال إلى التطبيق؟
لقد حصرنا اهتمامنا بالإطار ونسينا الصورة، أي المجتمع الذي من أجله وضع سعاده كل هذا الإرث، أليس كذلك؟
ونحن ما زلنا حتى الآن نقف في الإطار النظري من واجبنا الحزبي. نردد أقوال سعاده ونبحث في سيرته ونمشي في صفوف متراصة، ونذهب بطمأنينة، مرتاحي البال فقد أدينا واجبنا الحزبي…
إن اتقاننا لصناعة الكلام وإكثارنا بإصرار على استعمال كلمات مثل النصر والثورة والتحرير وغيرها... هذا الإسلوب يبعدنا عن الحقيقة. فالخطاب الحزبي "الخيالي" يصوّر غاية الحزب وكأنها موجودة على أطراف أصابع يديه… فكيف يحق لنا الدعوة إلى الثورة ونحن نسترخي في الدفء، ننتظر خبر استشهاد أحدهم لنمطره بالتبريكات أو ارتكاب العدو هفوة لنعلن الانتصار…
لقد حقق بعض الرفقاء، من الذين يقفون على رصيف الانتظار، أعمالاً مدهشة تعتبر قدوة ودليلاً لنا في كيفية الانتقال من النظرية إلى التطبيق. فمنهم من تبرع بكليته لرفيقه، ومنهم من أنشأ صرحاً ثقافياً تعجز الدولة عن بنائه. وعند اشتداد الأزمة الاقتصادية تحركت بعض الوحدات الحزبية لمساعدة الطلاب المحتاجين من الحزب ومن خارجه بالمال والكتب... وغيرها من المبادرات التي تفيد المجتمع والتي يجب أن تكون جزءاً أساسياً من شخصية القومي الاجتماعي. فإلى جانب واجبه بأن يكون متمكناً من عقيدته وعاملاً على انتشارها، عليه أن يترجم هذه العقيدة إلى أعمال منتجة في المجتمع، فهذه حقيقة رسالتنا. أن نقف الى جانب الفلاح وراء محراثه، والطالب في مدرسته، والصناعي في مصنعه، والطبيب في عيادته… يجب أن يتحول الجزء الأكبر من الاجتماعات الحزبية للبحث في المبادرات والمشاريع التي تفيد المجتمع، ونعمل على تنفيذها. فإذا لم يصبح القومي الاجتماعي قدوة في مجتمعه من خلال الأعمال التي يقوم بها، فعبثاً نحاول بناء رأي عام يساندنا في عملية التغيير التي نطمح إليها.
جاء على لسان أحد الرسل: "إذهب وبشّر برسالة المسيح. وإذا اضطررت وفقط إذا اضطررت استعمل الكلمات". فسلوك الفرد في المجتمع هو التبشير الصحيح الذي يغني عن الكلمات، وهو ما رسمه لنا سعاده عندما قال إنما النيات بالأعمال…
أما من يحق له تولي المسؤولية في الحزب، فهو الذي عمل وأنتج في مجتمعه وأعطى من ماله وتعبه أولاً، وليس كل من حفظ واتقن وردد أقوال سعاده فقط.
وهذا ما يجب أن يطبق أولاً على رتبة الأمانة - علة العلل. فهذه الرتبة هي في أساس تكوين السلطة التنفيذية، لذلك يجب التشدد في منحها ووضع شروط إضافية لكيفية الاحتفاظ بها. أما أن تعطى مدى الحياة فهذا يؤدي إلى ترهل المؤسسة تدريجياً. فالأستاذ الجامعي لا يحتفظ بمركزه إذا لم يتابع تحصيله العلمي من خلال الأبحاث والدراسات الجديدة التي يقوم بها. وفي حالة تقاعصه عن ذلك تجمد ترقيته أو يستغنى عن خدماته. وهذا أحد أسباب تفوق بعض الجامعات وازدهارها.
لقد أثبتت الأحداث العالمية صحة نظرية سعاده. فالدول التي اخترعت العولمة وروجت لها وجدت بعد فترة أنها تضر بمصالحها القومية، فعادت وانكفأت إلى الداخل. وأوضح مثال على ذلك الولايات المتحدة التي تعتبر "رأس العولمة"، حيث أصبح عنوان حملة رئيسها: أمريكا أولاً. وكيف نفسّر خروج بريطانيا من السوق الأوروبية بعد خمسين سنة على انضمامها إليها؟ فمع كل التقدم والانفتاح وأساليب التواصل الحديثة بين شعوب العالم تبقى المصلحة القومية لكل دولة فوق كل مصلحة، مهما عظمت المغريات التجارية والمالية والعلمية. وحرب روسيا - أوكرانيا خير شاهد على ذلك .
أما في عالمنا العربي، فالمزج الفكري والثقافي بين الأمة والدين أخذ الأوطان في الاتجاه الخطأ، وخرجت "قضية العرب الأولى" من بيئتها الطبيعية إلى بيئة عربية "صوتية" توظفها الأنظمة خدمة لمصالحها. وعندما واجهت مجتمعات النفط الاختيار بين حماية الرخاء الذي يتنعمون به مقابل تخليهم عنها، اختاروا الرخاء دون تردد وبسرعة، وعادت فلسطين إلى بيئتها الطبيعية. ولكنها بيئة منهكة مشلعة بفضل الأموال العربية التي صرفت فيها بحثاً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان!!
ونحن، أين نقف اليوم؟
هنالك حقيقة علمية تقول: إن كنت تعمل بنفس الطريقة، فأنت لن تحصل إلا على نفس النتيجة. وتنطبق هذه الحقيقة تماماً علينا كحزب. فأمام هذه الثورة العلمية، نحن ما زلنا نعتمد نهج "تبلغوا وبلغوا"... فعلى حكماء الحزب أن يجتمعوا ويضعوا تصوراً جديداً لنهج الحزب في المستقبل. لقد قال سعاده إنه يخاطب أجيالاً لم تولد بعد. ولذلك علينا ان نهيئ هذه الأجيال ليتماشى عملها الحزبي مع لغة العصر وإلا سنتحول إلى تجمعات صوفية (إذا لم نكن قد تحولنا فعلاً) نردد أقوال سعاده ونهتف باسمه ونتصارع لسنوات في ما بيننا حول ما هو قانوني ودستوري، متناسين تماماً أن المبادىء وضعت من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل المبادىء.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :