لا يمكن أن نستوعب حجم أعباء قرارات جمال عبد الناصر قبل هزيمة عام 1967. ليس سهلاً علينا إدراك صعوبة أن تعلّق الجماهير الآمال العريضة على شخص واحد. عندما يكون الزعيم أكبر من بلده تكبر المسؤوليّة وتكبر عواقب أي قرار يتخذه. لم تعد زعامة حسن نصرالله اليوم بحجم زعامته قبل الحرب السوريّة، لكنه لا يزال زعيماً تتخطّى زعامته حدود لبنان، كما أن دوره في محور المقاومة يتعاظم، وقد يكون المسؤول الأوّل عن القرار المباشر للمحور كلّه. الحرب تستمرّ وكل يوم تزداد الضغوطات على الحزب في كل الاتجاهات. كتب نسيم طالب قبل أيّام إنّ سلوك «أنصار الله» في اليمن يثبتُ أنهم ليسوا أدواتٍ إيرانيّة، بالرغم من التحالف الاضطراري الذي نسجوه بسبب الحصار والحرب الوحشيّة التي تعرّضوا لها (والتقارير الأميركيّة الواردة في تسريبات «ويكيليكس» تقول نفس الشيء عن «أنصار الله»). إنّ فتح الحرب من قبل «أنصار الله» على العالم الغربي والعربي المتحالف مع إسرائيل يتناقض مع الحسابات الدقيقة التي تتبعها السياسة الإيرانيّة. وعلاقة الحزب بإيران تختلف كليّاً، عن علاقة «حماس» أو «أنصار الله» بإيران. الحزب بات العمود الفقري في التحالف الإقليمي، وفهم نصرالله للسياسات الإقليميّة والدوليّة أعمق من فهم باقي الأطراف والشخصيّات. كما أن دراسته الدقيقة لإسرائيل ومكامن الضعف فيها لا يجاريها الآخرون من أطراف المحور. بناءً عليه، ولأسباب أخرى، يبدو أنه هو الذي يُقرّر مسار الصراع مع إسرائيل.لكن ماذا يمكن أن يفعل الحزب الآن، ماذا يمكن أن يفعل الحزب في ضوء استمرار العدوان؟
إسرائيل تزيد من غيّها ووحشيّتها، وبنيامين نتنياهو يؤجّل وقف الحرب لأسباب عديدة، بما فيها الأسباب الخاصة بمستقبله السياسيّ لعلمه أن ما ينتظره بعد وقف الحرب، هو التحقيقات والمحاكمة والعزل. والعقيدة العسكريّة الإسرائيليّة في ضرورة سحق العرب وتخويفهم لا تحتمل وقف الحرب الآن، كون النتيجة ستكون انتصاراً لـ«حماس». وأطراف المحور تحتاج إلى بعضها البعض أكثر من أي وقت مضى. وهذا الحساب كان وراء تدخّل الحزب في سوريا، بصرف النظر عن التقييم السياسي العرضي، إذ تمثل سوريا أهم طرق الإمداد الأساسيّة لحركة المقاومة. وقد اجترح المقاومون طرقاً مبتكرة لإمداد غزة عبر السنوات، إلى أن أتى عهد عبد الفتاح السيسي وتعاون مع إسرائيل في إحكام إغلاق كل منافذ القطاع، فيما تُحكم عصابة السلطة منافذ الضفة، أو هي تتعاون مع الاحتلال في وصد أبواب السجن الكبير.
لا يستطيع الحزب أن يحسب قراراته بناء على تصريحات أو مطالب أعدائه، في لبنان أو الخارج. عندما يكتب عبد الرحمن الراشد في «الشرق الأوسط» أن الحزب «يتهرّب من المشاركة» تعلم أن النيّة خبيثة وأن العدّة جاهزة للتعامل مع تدخّل الحزب أو إحجامه. لو أن الحزب امتنع عن التدخّل، لكانت هذه الأبواق قد أخرجته من العروبة كلياً. ولو هو فتح الحرب الواسعة، لكان تحمّل وحده مسؤوليّة الدمار، وكان هؤلاء تبرّعوا بتبرئة إسرائيل، كما فعلوا بالنسبة إلى حرب تمّوز. يومها، سوغت جريدة «الشرق الأوسط» القصف الإسرائيلي اليومي على جنوب لبنان وزعمت، نقلاً عن العميد اللبناني المتقاعد، ناجي ملاعب، أن المنازل التي تقصفها إسرائيل هي لعناصر حزب الله (كيف عرف ملاعب ذلك. هل هو قصاص أثر أو دلّال؟). لكنّ الحزب فاجأهم بمساندته أهل غزة عبر الاستهداف اليومي لمواقع عسكريّة إسرائيليّة وتهجير سكان مستعمرات الشمال، لكن هذا لم يصل إلى المستوى المطلوب عند أعداء الحزب (نفس الذين رفعوا شعارات «لا للحرب في لبنان» يلومون الحزب اليوم لأنه لم يفتح الحرب الواسعة ولم يحرّر فلسطين لهم، وهم مرابطون في المحور الإسرائيلي).
لا يزال نصرالله زعيماً أكبر من بلده، ولديه المعرفة الكبيرة بإسرائيل وهو صاحب قرار ولا يتأثر بالانفعالات والمزايدات
الحزب يدرس الوضع من دون أن يتوقّف عن قصف أهداف إسرائيليّة. والحزب أُثبتَ أنه، خلافاً للعدوّ، يتجنّب استهداف المدنيّين إذا امكن. القصف الإسرائيلي كعادته طالَ الجميع. لكن استمرار الحرب يفرض جملة من الأسئلة على الحزب.
هل إن وتيرة القصف المتبادل في جنوب لبنان تغيّر من مسار الحرب الإباديّة على غزة؟ هل يمكن للحزب أن يفعل أكثر من دون التأثير على قرار إسرائيلي بجرّ لبنان إلى حرب مدمِّرة؟
وماذا لو انهارت المقاومة في غزة بعد مزيد من التدمير؟ هل يتحمّل المحور سقوط عنصره الفلسطيني الفاعل الذي يضفي بحضوره شرعيّة سياسيّة، إضافة إلى شرعيّة دينيّة في زمن الاحتراب الطائفي؟ كيف يتصرّف الحزب في هذه الحالة، وهو بعيد عن غزة ولا يستطيع أن يفكّ أسرها عن بُعد؟
إنّ هدف القصف هو سياسي بكلفة عالية (يستخفّ البعض من حجم الاشتباك المستمرّ بين لبنان وإسرائيل في الوقت الذي وصل فيه عدد شهداء المقاومة في مواجهة إسرائيل إلى أكثر من 120). والتضامن السياسي هو واجب أخلاقي على الحليف الأوثق لـ«حماس» في الوقت الذي تنصّلت فيه كل الحكومات العربيّة، من دون استثناء، من «حماس» (والإعلام السعودي ناشط يوميّاً في ذم «حماس» وتبرئة إسرائيل). والقصف يضغط على العدو عبر تهجير سكان الجليل الذين تتكفّل الحكومة بإيوائهم في فنادق. وتحوير جهود الجيش من جبهة الضفة وغزة وإشغاله في اشتباكات يوميّة يقلّص من قدرات الجيش مهما زعم العكس من باب مكابرته. هل يستطيع الحزب أن يمنع انهيار المقاومة في غزة من دون فتح الحرب الكبرى؟ من المستبعد لكن هل إن فتح الحرب الكبرى يمنع انهيار المقاومة في غزة لو كان ذلك بمتناول العدوّ؟
وانتصار «حماس» في غزة (وهو متوقّع)، وعلى أهميته بالنسبة إلى حزب الله كقوة مقاومة، إلا أن خصومه، سوف يعملون على تحويله إلى معضلة سياسيّة للحزب أيضاً. سيُقال إن «حماس» حقّقت النصر بقواها الذاتيّة. وسوف تستخلص قوى التحريض الطائفي والمذهبي العبر المفيدة لتأجيج الفتنة. وسيُقال إن الحزب وقف متفرّجاً فيما كانت غزة تتعرّض لأكبر عمليّة تدمير ممنهج في تاريخها المعاصر. وسيُقال إن الحزب رفض أن يهبَّ لنجدة غزة في هذه الحرب المدمِّرة.
لكن الحزب يعي التجارب التاريخيّة ويستفيد منها ويتعلّم من أخطاء من سبقه في مواجهة ومحاربة إسرائيل. من غير الحكمة أن تدع خصمك أو عدوّك يحدّد لك برنامجك أو روزنامتك في الصراع. هذا كان خطأ جمال عبد الناصر، عندما تأثّر بمزايدات تعرّض لها من قبل الأنظمة في سوريا والأردن ودول الخليج، وهي مزايدات ضجّ بها الإعلام المؤثر لهذه الأنظمة في لبنان. الحزب يحدّد أجندته وفقاً لبرنامجه هو، وبرنامج المحور الذي يقوده بالتشارك مع إيران. لم يعد النظام السوري مؤثّراً، بحكم الإنهاك الذي تعرّض له عبر الحرب المدمّرة هناك. انتصار «حماس» هو انتصار للمحور (وانتصار للعرب أجمعين)، وستستطيع «حماس» أن تتعامل مع النصر بطريقة تفيد المحور ككلّ. لكنها تبدو، حتى الساعة، عرضةً لتوجّهات الإعلام الخليجي الذي يضعها دوماً في موقع دفاعي. عليها أن تثبت دوماً أنها ليست أداة إيرانيّة فيما تجاوز الحزب تلك العقدة.
وكيف يتخذ الحزب قراره في لبنان؟ وكيف يتأثّر بمعرفته أن هناك نحو نصف الشعب اللبناني من الذين يتمنّون نصر إسرائيل على العرب (هذا كان مساراً لبنانيّاً منذ النكبة. كان هناك دوماً أحزاب وفئات وشخصيّات وكنائس أقرب إلى إسرائيل منها للعرب). إلى أيّ درجة يكبّل هذا الفريق المنضوي في المحور الخليجي (الذي يضمّ إسرائيل) أيدي الحزب في حركته في مواجهة إسرائيل؟ كان هناك حملة مبرمجة عند بدء الحرب من أجل إعادة تشكيل 14 آذار، أي تحالف متعددّ الطوائف من دون الشيعة (طبعاً، كان هناك أفراد شيعة من الذين نالوا 62 صوتاً في الانتخابات). وهذا التحالف كان يقف ضد المقاومة في حرب تمّوز وبعضه، أو أكثره، ناصرَ إسرائيل ضد لبنان (لم يعد هذا الأمر مخفياً بعد نشر وثائق «ويكيليكس» وفيها أمثال بطرس حرب وهو يعطي إرشادات ميدانيّة لجيش العدوّ كي يتقدّم في أرض الجنوب، وكان وزير الدفاع إلياس المرّ يقدّم النصح لإسرائيل من باب الحرص... ترى ماذا حلّ بصندوق الأخير للأنتربول؟)
لكن بعض المطالبات للحزب برفع وتيرة الحرب صادقة النيّة (وإن كان بعضها الآخر خبيث). والعرب لديهم شعور بالضيق مما يحدث في غزة ورغبة جامحة في مدّ العون لأهلها وإن عن بُعد. لكن كيف ذلك ولبنان لا يجاور القطاع؟ والحزب يرفع وتيرة قصفه وإيذائه للعدوّ بصورة مدروسة ودقيقة من ضمن سقف الاشتباك المضبوط. وأن تفرض شروط اشتباك على العدوّ هو إنجاز آخر للمقاومة (من دون الاستهانة بتدخّل الفوج المجوقل للجيش اللبناني في عمليّة نوعيّة قبل يومين لإنقاذ مواطنين عالقين في التليفريك). لم يسبق أن استطاع طرف عربي فرض ضوابط على حرب إسرائيليّة ضد العرب. هذا مستوى عالٍ جداً من الردع والتخويف. وأيّ زيادة في منسوب القصف في الجنوب ستفتح المعركة الكبرى. وشعار «نحن نختار زمان ومكان المعركة» بات عرضة للتندّر، وعن حق، من قبل العرب لكثرة ما استعمله النظام السوري في تسويغ عدم ردّه على عدوان إسرائيل. لكن للحزب وحده حق رفع هذا الشعار بسبب المصداقيّة التي اكتسبها من سياساته الردعيّة المؤثّرة.
هل صحيح أن إسرائيل تريد أن تفتح الحرب الكبرى؟ أشكّك في ذلك كثيراً وأرى أنّ التسريبات عن همّة أميركيّة في ضبط إسرائيل يدخل في بروباغاندا صهيونيّة تهدف إلى إضفاء لمسة حنونة على الحكومة الأميركيّة العدوانيّة، وتجميل صورتها في الرأي العام العربي (مروان حمادة أفتى أن الغرب والخليج هم الذين يردعون إسرائيل نحو لبنان، لكن لم يفسّر لماذا هذه السياسة الردعيّة لم تتزامن إلا مع نشوء هذه المقاومة... لماذا لم يردعوا إسرائيل بين عامَي 1948و 2000) إسرائيل تعلم ما الذي ينتظرها في لبنان، وهي تستخدم وحشيّتها في غزة كي تقيّد يد الحزب لعلمها أن العامل الإنساني مؤثّر في موقف الحزب من الحرب الجارية. لا يريد الحزب أن يُلحق دماراً شاملاً بلبنان مع علمه أنه يستطيع أن يجعل إسرائيل تدفع الثمن غالياً. والحزب يتدخّل يومياً في الحرب بصورة مباشرة (أمور لا نعلمها عن المساندة والعون السرّي في كل الجبهات. أليس سامي شهاب، المقاوم الذي اعتقله النظام المصري وهو يهرّب السلاح إلى غزة، هو الجندي المجهول في حرب غزة؟)
تمارس إسرائيل وأميركا حرباً نفسيّة ضد الحزب، لكن للحزب مهارة لا يُستهان بها في الحرب النفسيّة وهو يعرف كيف يتلاعب بأعصاب العدوّ. لكنه محكوم بضوابط الداخل اللبناني الطائفي. قد لا ترغب أميركا في إشعال الحرب الكبرى مع الحزب، لكن ليس رأفةً بلبنان. بل هي تخشى على مصالحها، وتعلم أن وجودها المنتشر في المنطقة يعرّضها لأذى كبير لو هي شاركت في الحرب ضد الحزب. صحيح أن لا حدود لدعم إدارة جو بايدن لإسرائيل لكن ذلك محصور اليوم بالعدوان على غزة. ولو انتصرت «حماس» سيكون بايدن أكثر استعداداً لإتاحة المجال لإسرائيل لاستعادة بعض من كرامتها. المعضلة لإسرائيل: أن لبنان بات آخر ساحة يمكن لها أن تستعيد كرامتها العسكريّة فيها. هذا إن قدرت على تحقيق ذلك!
نسخ الرابط :