لم تكن ساعات قليلة قد مضت على عملية «طوفان الأقصى»، حتى دخل العالم كله في حالة صدمة. انقسم الناس سريعاً بين مبتهج ومحتفل بالعملية البطولية، وبين خائف ومستنكر لما حصل. وبمعزل عن لعبة الإعلام التي لم يتأخر الوقت قبل كشف زيفها، فإن التركيز كان على مركز القرار في كيان العدو. فحالة الجنون، قبل الغضب، التي انتابت الإسرائيليين، أثارت - قبل أي أمر آخر - نقزة صاحب القرار الفعلي، أي الغرب بقيادة الولايات المتحدة. ولأن الغرب يعرف ما صنعت يداه، كان واضحاً أنه سيوفّر الغطاء التام لأبشع عملية انتقام متواصلة منذ 48 يوماً من دون توقّف. التدخّل السريع للعدو الأميركي وحلفائه الغربيين لم يكن يهدف، ولو للحظة، إلى ضبط المجنون، بل إلى تأطير جنونه، وجعله يتّجه إلى ما يفيد في تحقيق الأهداف.وإلى جانب تبنّي السردية الإسرائيلية الهادفة إلى تبرير كل أنواع الجرائم لسحق حركة حماس والمقاومة في فلسطين، فإن العدو نفسه لم يكن يعرف ما الذي يفعله، وهو يرقص فوق الدماء خائفاً من كل ما يدور من حوله. وكان لزاماً على الأميركيين التدخل سريعاً لتنظيم حفلة الجنون الوحشي. وفي هذا الإطار، تصرّف الأميركيون على أن المسؤولية تقع على عاتقهم من الآن فصاعداً، فتولّوا زمام القيادة الميدانية والسياسية، كما أعلنوا استنفاراً هو الأول من نوعه منذ وقت طويل، وأرسلوا قواتهم وحاملات طائراتهم، وعزّزوا قواعدهم العسكرية في المنطقة.
في ما يتعلق بلبنان، سارع الغربيون بقيادة أميركا، منذ اليوم الأول، إلى التهديد بأن انضمام المقاومة في لبنان إلى المعركة سيجرّه إلى حرب مدمّرة. ونقل دبلوماسيون وسياسيون وأجانب رسائل كثيفة إلى القيادات الرسمية والمرجعيات الحزبية والعسكرية والأمنية والدينية، محرّضين إياها على مطالبة حزب الله بالوقوف على الحياد. واستمر التهويل حتى بعد مباشرة المقاومة الإسلامية لعملياتها في مواجهة المواقع الإسرائيلية على طول الحدود وليس فقط في مزارع شبعا المحتلة. وعندما قرّر الأميركيون نقل قواتهم إلى المنطقة، قيل صراحة إن الهدف هو ردع حزب الله وإيران عن أي انخراط في الحرب، ما استدعى ردوداً عملانية من جانب حلفاء إيران، من لبنان إلى سوريا والعراق وصولاً إلى اليمن، ما جعل الغربيين يبحثون في طرق أخرى لتوفير حماية أكبر لإسرائيل.
صحيح أن المقاومة في غزة كانت تطلب على الدوام رفع مستوى العمل العسكري ضد قوات الاحتلال، إلا أن سياق المواجهات أخذ بعداً عملانياً يراعي الكثير من العناصر، حتى صار العالم كله يتحدث عن قواعد اشتباك جديدة في لبنان وسوريا والعراق، إلى أن بادر اليمنيون بشنّ هحمات ضد الكيان المحتل ومن ثم عملهم في البحر الأحمر، وهو ما ترافق مع زيادة في العمليات ضد القواعد الأميركية في المنطقة. لكنّ تركيز الغرب بقي على جبهة لبنان نظراً إلى كونها ملاصقة لكيان الاحتلال، وكون حزب الله يمثّل رأس الحربة في محور المقاومة. وعندما شعر الأميركيون، ومعهم عواصم غربية، بأن المقاومة غير مردوعة، بدأوا يفكرون في إمكانية أن تكون مصالحهم وقواعدهم هدفاً لأعمالها، وهو ما استدعى تراجعاً في لغة التهديد، لكن مع إجراءات إضافية من جانبهم في لبنان والمنطقة على حدّ سواء.
مع الوقت، توقّف الجميع عن الحديث العسكري والتهويلي، وانتقلوا إلى البحث في سبل أخرى، ليس بهدف منع الحرب فحسب، بل لمنع تكريس وقائع ميدانية يستمر العمل بها بعد انتهاء الحرب. وفي هذا السياق، يبدو العدو الأميركي منشغلاً باليوم التالي للحرب في لبنان، أكثر من انشغاله باليوم التالي لها في غزة. ففي فلسطين، يقود الأميركيون تحالفاً غربياً وعربياً واسعاً، هدفه البحث عن صيغة حكم لقطاع غزة تقوم على فكرة إقصاء حماس. لكنّ هذا المشروع يبقى رهن ما تحقّقه العملية العسكرية الإسرائيلية. أما في لبنان، فإن الغربيين الذين تجاهلوا لبنان لفترة طويلة، وتركوه ضحية الحصار والضغط على أكثر من صعيد، يجدون أن اللحظة تتطلّب تعديلات في الخطة. وقد طرأت استحقاقات على الوقائع اللبنانية الداخلية، فرضت على الغربيين وحلفائهم من العرب العمل بوتيرة مختلفة عن السابق.
يريد العدو من الغرب بقيادة أميركا فرض تعديلات دولية ولبنانية توفّر له «الأمن الكامل» على الحدود الجنوبية للبنان
فقد تحوّل شغور موقع قيادة الجيش إلى استحقاق مركزي لدى هؤلاء. وقاد الأميركيون، ولا يزالون، معركة التمديد للعماد جوزيف عون، ويرون فيه عنصر نجاح لاستثماراتهم السياسية وغير السياسية في المؤسسة العسكرية، ولا يزالون يدعمون وصوله إلى رئاسة الجمهورية. وقد طلبوا من كلّ المرجعيات في لبنان العمل على التمديد له، واستجاب لهم عدد غير قليل من المرجعيات المؤثّرة، ليتبين أن تسوية كهذه تتطلب مناخاً غير متوفّر حتى اللحظة.
على أن الخشية الكبرى التي تتعلق بفتح النقاش حول «اليوم التالي»، يتشارك فيها الأميركيون مع الفرنسيين وعواصم أوروبية وعربية. وهؤلاء يقفون، من دون تردّد، على خاطر ما يريده العدو، الذي أعدّ ملفاً كبيراً يحمله إلى الأمم المتحدة تحت عنوان «الخروقات الواسعة للقرار 1701»، مع تصوّر لما يُفترض أن يكون يكون عليه جنوباً.
الكلام الأولي، حول ما يرغب به حلفاء إسرائيل، يهدف إلى الآتي:
أولاً: منع المقاومة من إعادة العمل في كل مراكز ونقاط انتشارها غير المعلنة التي كانت قائمة قبل 7 تشرين الأول الماضي، عبر دور أكبر لقوات الطوارئ الدولية وتوسيع دائرة انتشارها الميداني، وتمركزها في نقاط يعتبرها العدو حسّاسة أمنياً وعسكرياً.
ثانياً: تفعيل بند حرية الحركة للقوات الدولية بما يتيح لها دخول كل الأماكن الخاصة أو العامة، في القرى والأحراج، بغية إزالة أي معلم يخصّ المقاومة. وسيهدد الأميركيون بتعديلات يحتاج إليها القرار الدولي، من بينها وضع مبدأ التعامل مع الخروقات للقرار تحت الفصل السابع.
ثالثاً: إطلاق حملة سياسية داخلية في لبنان، يقودها حلفاء أميركا من القوى السياسية، تحت عنوان توسيع دور الجيش اللبناني على طول الحدود مع فلسطين المحتلة، ومنحه قدرات وصلاحيات للقيام بكل ما من شأنه ضمان عدم وجود مسلّح لأي طرف غيره على الأرض.
رابعاً: إعادة فتح النقاش حول الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان، بالتعاون مع قوى السلطة الفلسطينية وبعض حلفائها من قوى لبنانية، ولو تطلّب الأمر إشعال المخيمات الفلسطينية في الجنوب كله من جديد.
على أن هذا التصور يحتاج إلى وقائع من نوع مختلف عما يسود لبنان الآن. فهو يحتاج، أولاً، إلى انتصار إسرائيلي كبير في غزة، وإلى استثمار هذا الانتصار أميركياً من خلال فرض معادلات ردع ضد قوى المقاومة في لبنان والمنطقة. كما يحتاج، من جهة ثانية، إلى فتنة داخلية سياسية بين اللبنانيين، وهو أمر ليس متعذّراً بالمطلق، لكنه صعب إلى درجة كبيرة. كما يتطلّب الأمر منح الجيش اللبناني استقلالية إضافية عن السلطة السياسية، وهو أمر دونه عقبات كبيرة، ليس أبسطها انقسام الجيش نفسه وتعطّله كمؤسسة وطنية جامعة.
أضف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة ومعها أوروبا ودولٌ عربية تريد تمرير استحقاق الرئاسة الأولى وفق صيغ تحاكي متطلباتها السياسية وغير السياسية في لبنان، وهي تعتقد أن اللحظة مناسبة لتحريض القوى كافة على القبول بخيار قائد الجيش، أو البحث عن صيغة لا تكون مناسبة لفريق حلفاء المقاومة. ويشكّل هذا العنوان مركز الحراك الجديد، سواء الذي يقوم به موفد قطري موجود الآن في بيروت، أو الذي سيقوم به الموفد الفرنسي جان إيف لودريان المفترض وصوله قريباً إلى بيروت، إضافة إلى ما يقوم به المبعوث الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتين.
المهم في ما يجري، هو أن العدو الأميركي يستعجل القيام بخطوات، تهدف إلى تحقيق نتائج في المرحلة المقبلة، على خلفية أن ما تقوم به المقاومة الآن، لا يحظى بدعم الناس. وهي حقّقت مرادها فقط على لسان سمير جعجع العامل ليلَ نهارَ على تكرار هذه المعزوفة بطلب أميركي وسعودي وإماراتي. علماً أن السفارة الأميركية في بيروت لجأت إلى صرف موازنة خاصة لحملة إعلامية وإعلانية عبر وسائط مختلفة، تحت عنوان «لبنان لا يريد الحرب». وتبدو واشنطن مهتمة أكثر من أي وقت، بفرض وقائع محلية تستهدف الضغط على المقاومة في «اليوم التالي»، وهي تعتقد أن الوضع السياسي الحالي قد يكون مناسباً لها.
وإذا كان لبنان قد أظهر في الفترة الممتدّة منذ اندلاع العدوان الأميركي على غزة نوعاً من التماسك حيال رفض العدوان ورفض اتهام المقاومة بعمل غير مشروع، فإن المرحلة المقبلة تنذر بعواقب في حال لم يتم العمل على توحيد الموقف، في ظل التراخي الذي ساد الأوساط الرسمية إزاء كيفية التعامل مع القرارات الدولية ومع المطالب الغربية. أما الأجانب، فلا سبيل غير إشعارهم بأنهم من غير المرغوب بهم في لبنان، لا سياسياً ولا عسكرياً ولا مدنياً ولا بأي شكل من الأشكال. وربما حان الوقت، لإطلاق حملة مقاطعة لكل هؤلاء الأعداء.
نسخ الرابط :