عاد بتّ مصير قيادة الجيش قبل تقاعد العماد جوزف عون إلى النقطة الصفر. كان مقدّراً إنجازه الأسبوع المنصرم، فطار هذا الأسبوع أيضاً. يستعجله الأقل تأثيراً، ويبطئه الأكثر تقريراً فيه. بدأت المشكلة في تفادي وقوع الشغور وآلت إلى تحوّل القائد الحالي إلى مشكلة في ذاته
لا جلسة مقرّرة لمجلس الوزراء هذا الأسبوع حتى الآن على الأقل. في الجلسة الأخيرة أسرّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى الوزراء أن أي جلسة مقبلة تنظر في تمديد ولاية قائد الجيش العماد جوزف عون أو تعيين خلف له سيحدّد موعدها عشيتها، آملاً أن لا تؤخذ في الاعتبار الساعات الثماني والأربعون أو الساعات الاثنتان والسبعون السابقة لموعدها على جاري العادة للاطّلاع على جدول الأعمال. خلص إلى أن انعقاد الجلسة رهن بسرعة الاتفاق على أحد هذين المخرجيْن أو تباطئه.
مؤشر عبارة ميقاتي، فضلاً عن اتصالات الأيام الأخيرة، كلّ ذلك أفضى إلى بضعة معطيات منها:
1 - لم تعد العجلة سيدة الموقف في بتّ مصير قيادة الجيش بعد إحالة قائدها على التقاعد في 10 كانون الثاني المقبل. لا يزال الوقت كافياً في غضون الشهر المتبقّي حتى ذلك النهار والخيارات مفتوحة. تعلو وتهبط بلا جزم نهائي لأي من احتمالَي التمديد والتعيين. ذلك ما يقود إلى الاعتقاد بأن الحل ربما يظهر في دقيقة أخيرة ما، لا أحد يعرف متى تجيء. وحدها تكون اللحظة الأخيرة في توقيتها.
2 - لأن ليست ثمة عجلة بل أفرقاء مستعجلون، ارتُئِي التمهل. فحوى الاشتباك الدائر حالياً من حول عون، وليس حيال مَن سيخلفه. بكركي وحزب القوات اللبنانية وكتل مسيحية مستقلة إلى حزب الكتائب يقولون بتأخير تسريحه إلى ما بعد انتخاب رئيس للجمهورية، والتيار الوطني الحر يرفض استمراره في منصبه. قبالة الانقسام المسيحي، الماروني خصوصاً، يتصرّف الفريق السنّي كأنه غير معنيّ بالاشتباك وغير مبالٍ به، لكنه يريد حصة للطائفة موازية في حال الإقدام على تمديد سن تقاعد عون بقانون في مجلس النواب، مع أن المعني بالحصة وهو المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان لا تزال أمامه ستة أشهر لإحالته هو الآخر على التقاعد. الفريق الدرزي لا يسأل إلا عن تسوية ترضي المسيحيين أولاً تمديداً أو تعييناً لحل المشكلة يكون تعيين رئيس جديد للأركان أحد بنودها، لا في معزل عنها.
توزّع هذا الاصطفاف يجعل المعضلة في القائد الحالي لا في المنصب ما دام تعيين خلف له يملأ الشغور للتوّ. لأنه أصل المشكلة وعلّتها على نحو لم يعد يُعرف هل الخلاف عليه ومن حوله حقيقة أو كذبة، ليس ثمة أي تصويب على القائد الذي يخلفه أو التشكيك فيه.
3 - سرّ مستقبل قيادة الجيش، شأن سرّ الاستحقاق الرئاسي، يقيم في الثنائي الشيعي. الرئيس نبيه برّي كشف عن نصف موقفه، وهو أنه ليس في وارد الذهاب إلى تعديل سن تقاعد قائد الجيش المنصوص عليه في قانون الدفاع الوطني بقانون في مجلس النواب، ويقول إن القرار عند حكومة تصريف الأعمال. ما لم يقله برّي بعد هو تأييده التمديد لعون أو معارضته.
حزب الله في المقلب المكمّل لم يقل كلمته بعد. بالتأكيد لا يضيره أو يزعجه تأخير التقاعد ستة أشهر أو سنة. لا ضرر له فيه ولا حتماً مكسب ذو مغزى أو مفيد. ما يعنيه في المسألة أمران ملتصقان بالخيار المطلوب منه:
أولهما أنه لا يريد أعداءً جدداً في مواجهته ولا فقدانه حلفاء. لا يريد خلافاً مستجداً مع البطريرك الماروني ولا خسارته مرة أخرى تحالفه مع التيار الوطني الحر ورئيسه النائب جبران باسيل الذي سينظر إلى تأييد الحزب بقاء عون على أنه عمل عدائي له. في حسابات حزب الله أن باسيل، لا البطريرك، هو الحليف الذي يحتاج إليه.
أما ثانيهما فاهتمامه بالمسار الذي أضحت عليه حرب غزة وموقعه في المرحلة المقبلة وخصوصاً في الإقليم، بعد الانتقال من إطلاق النار إلى الجلوس إلى الطاولة. هو الآن جزء لا يتجزأ من حرب غزة دونما توريط لبنان فيها، بيد أنه سيكون معنياً في ما بعد بالتسوية التي ستفضي إليها كشريك في النزاع المسلح، وبصفته القوة الأفعل في المحور الداعم لحماس.
للمرة الثانية، بعد الاستحقاق الرئاسي ومن دون أن يكون في المعضلة الحالية طرفاً مباشراً ومؤثّراً فيها كذاك، يجد الحزب نفسه عند تقاطع تناحر مسيحي - مسيحي لا يتوقف، مشكلة بعد أخرى واستحقاقاً يلي آخر. مع ذلك، لا يملك أن يقف على الحياد ولا أن ينأى بنفسه عنه وهو يُقاسِم الجيش، سراً وعلناً وأحياناً إن لم يكن في الغالب يستقل عنه، ممارسة دور شرطي الاستقرار.
حزب الله معنيّ بقائد للجيش كرئيس الجمهورية يحمي المقاومة
4 - كثرت في الأيام الأخيرة آراء لدى أكثر من فريق تنبّه من خطأ جسيم هو تعيين قائد جديد للجيش قبل انتخاب رئيس للجمهورية، أو من دون أن يكون هو مَن اختاره. للآراء هذه حجج سياسية أكثر منها قانونية. منذ اتفاق الطائف، في الحقبة السورية وبعدها، لم يخترْ أيّ من الرؤساء المتعاقبين قائداً للجيش يرافقه في ولايته: لا الرئيس الياس هراوي سمّى العميد إميل لحود، لا الرئيس إميل لحود سمّى العميد ميشال سليمان، ولا الرئيس ميشال سليمان سمّى العميد جان قهوجي. الأخير وحده، في سابقة في تاريخ الجيش، صار إلى تعيينه في مجلس الوزراء بالتصويت وليس بالإجماع على غرار أسلافه منذ عام 1945. في جلسة 28 آب 2008 عيّنه مجلس الوزراء بالأكثرية بعد معارضة ثلاثة وزراء هم غازي العريضي ووائل بو فاعور وإبراهيم شمس الدين، وامتناع وزيرين عن اتخاذ موقف هما وزيرا القوات اللبنانية إبراهيم نجار وأنطوان كرم، وغياب ثلاثة وزراء. وحده الرئيس ميشال عون من بين أسلافه عيّن بمفرده القائد الحالي في منصبه وسط معارضة ابن البيت صهره باسيل والحليف الرئيسي المدين له آنذاك بانتخابه حزب الله.
ما أضحى مألوفاً في حقبة ما بعد اتفاق الطائف، الوقوف على خاطر الرئيس ليس إلا. قائد الجيش يُعيّن في القانون باقتراح وزير الدفاع، شأن تعيين حاكم مصرف لبنان باقتراح وزير المال شأن تعيين المدير العام لرئاسة الجمهورية وهو أول الموظفين وأول المستشارين إلى جانب الرئيس وأعلاهم منزلة في قصر بعبدا باقتراح رئيس مجلس الوزراء بالذات. أما الواقع فهو أن الخيار المعنوي للرئيس. ذلك ما سيحمل أكثر من فريق لبناني على مقاربة منصب قيادة الجيش، المحسوب أنه لا يقل أهمية عن منصب رئيس الدولة، على أنه معنيّ به.
لأنه الفريق الأقوى تأثيراً والأكثر إحكام سيطرة على موازين القوى في الشارع وداخل السلطة، لا يسع الثنائي الشيعي وخصوصاً حزب الله النظر إلى موقع قائد الجيش على أنه منصب ماروني فحسب، بل جزء لا يتجزأ من تقييمه لمقدرته على حماية المقاومة، على نحو مطابق لموقفه نفسه من مرشحه لانتخاب رئيس للجمهورية. وهو ما يُفسّر في المقابل التقييم السلبي - إن لم يكن العدائي - للحزب من المدير العام الحالي لقوى الأمن الداخلي، ومن اعتقاده أن رئيس الحكومة، أي رئيس للحكومة تعاقب منذ اتفاق الطائف إلى الآن، ليس سوى أحد وجوه الحضور الغربي في المعادلة الداخلية يقف على طرف نقيض منه.
سوى هذا وذاك، ما لا يُعتدّ به هو ذاته الوارد في المادة 49 في الدستور أن رئيس الدولة هو «القائد الأعلى للقوات المسلحة». الواقع أن المادة نفسها تستدرك الصفة المعنوية هذه بإبراز الواقع الفعلي ومرجعية إمرة الجيش بالقول إنه «يخضع لسلطة مجلس الوزراء».
نسخ الرابط :