كرمى لرغبة أميركية، قرّر وزير الاتصالات جوني القرم الحياد عن أصول التلزيم وتجاوز قانون الشراء العام بهدف منح «إريكسون» عقد «تجديد البنية الأساسية» لشبكة «ألفا»بلا مناقصة. الخضوع للضغوط الأميركية في إقصاء «هواوي» عن المنافسة على الصفقة، بدا واضحاً في مختلف مراحل التفاوض من فوق الطاولة وتحتها. فقد انفرد القرم بالتفاوض مع «إريكسون» من دون صفة وتحوّل إلى وسيط يبلغ «ألفا» بالعرض المقبول فقط. واللافت أن الإستراتيجية الأميركية تعمل لإبقاء «إريكسون» في لبنان بينما تنسحب هذه الأخيرة من السوق الدولية وباتت مكاتبها في لبنان قيد الإقفال، إذ اتُّهمت بتمويل «داعش» في العراق. وقد أفضت مفاوضات القرم «السرية» إلى خفض قيمة العرض النهائي بتقليص مستتر للأعمال والمواصفات... هكذا يهرب القرم من قانون الشراء العام ويفرض صفقة بالتراضي
قبل فترة، زار وفد من الملحقية التجارية في السفارة الأميركية (جوليا غرولينباخر يرافقها نعمان الطيار) جورج الدويهي مستشار وزير الاتصالات جوني القرم. وفي الفترة نفسها زارت غرولينباخر شركتَي «ألفا» و«تاتش». لكنّ هذه اللقاءات، وإن جاءت بعناوين متنوّعة منها خطّة الطوارئ، إلا أنها ناقشت بشكل أساسي موضوعاً ساخناً يتعلق بأعمال تنوي «ألفا» تلزيمها لتجديد «البنية الأساسية» للشبكة. وهذه الأعمال تتم بشكل شبه سرّي بعيداً من أصول التلزيم والإعلان والشفافية والمنافسة. فالسفارة الأميركية تضغط لإقصاء «هواوي» عن عقد كهذا، ولا يخدم هدفها سوى إلغاء مناقصة علنية يُرجّح فيها فوز الشركة الصينية التي تشتهر بأسعار أدنى بما لا تقلّ عن 50% من إريكسون أو أي شركة أوروبية أخرى، فضلاً عن أنها ستتركّب معدات وبرامج وخدمات تقنية متطوّرة. وهذه الرغبة مكشوفة للجميع، وخصوصاً بعدما أقصيت «هواوي» عن مناقصة توريد وتركيب شبكة الـ 5G في الأردن بضغوط أميركية مباشرة. لكن في لبنان يتم الأمر بشراسة أكبر من خلال مفاوضات سريّة يقودها وزير الاتصالات لمصلحة «إريكسون» (شركة سويدية) بحجّة «القوّة القاهرة» التي امتدّت من النصف الثاني من أيلول 2023 ولم تنته حتى الآن.
«إريكسون» تتحدّى »ألفا»
لهذه الصفقة تاريخ يعود إلى عام 2017 حين قرّر وزير الاتصالات آنذاك، جمال الجراح، شراء معدات وبرامج البنية الأساسية للشبكة لدى «ألفا»، من شركة «إريكسون» بمدّة انتهاء للتراخيص تمتدّ لنحو 7 سنوات. لكن في مطلع 2023، أي بعد خمس سنوات، اكتشفت «ألفا»، أنه لن يكون ممكناً تشغيل النظام في نهاية السنة، إلا بعد تعديل في بنية النظام (Upgrade)، وهو ما دفع المسؤول الفني في «ألفا» عماد حامد، إلى تخصيص أولوية قصوى لما يمكن أن يترتّب على ذلك من مخاطر متصلة باستقرار الشبكة.
ورغم غشّ «إريكسون»، إلا أن المسؤولين في «ألفا» أطلقوا مفاوضات مع مديرَي «إريكسون» فادي فرعون وكيفن مورفي، لاستدراج عرض أسعار. قدّمت الشركة السويدية عرضاً يتضمّن الآتي: تقدم الشركة التجهيزات الفنية والبرامج والخدمات في كل المواقع المطلوبة، بالإضافة إلى تركيب نظام الفوترة، وكل ذلك بمبلغ 16.99 مليون دولار موزّعة: 3.7 ملايين دولار للمعدات، و2.1 مليون دولار للبرامج، و11.1 مليون دولار للخدمات. وانتهت المفاوضات في تموز إلى العرض الثاني بقيمة 12.9 مليون دولار بعد تعديل مواصفات الأعمال وتقليصها، وبشرط تسديد الفواتير المتأخرة المستحقّة للشركة على «ألفا» والبالغة 12 مليون دولار لتُدفع بنسبة 70% فريش و30% بالدولار المحلّي وفق سعر صيرفة.
بالتوازي مع التفاوض، قرّرت إدارة «ألفا» استطلاع هيئة الشراء العام لتحديد قانونية توقيع عقد بلا مناقصة. وبالفعل، تبلّغت «ألفا» من المدير العام لهيئة الشراء العام جان العلية، شفهياً، أن توفير المنافسة هو أساس العمل، وأن هناك موادَّ في قانون الشراء العام تحدّد قواعد تضييق المنافسة في الحالات الاضطرارية. إدارة «ألفا» تذرّعت بأن الوقت ضيّق أمامها، وأن الشبكة في خطر، لكنّ العلية أبلغهم بأنه لا يرى في ذلك مبرراً لتخطّي إجراء المناقصة (من أيار حتى نهاية 2023 مهلة كافية لإطلاق مناقصة وترسيتها). عندها كشّرت «إريكسون» عن أنيابها، وبحسب مصادر معنية، فإنها أبلغت المدير الفني في «ألفا»، بأنها تتحدّاه بإطلاق مناقصة. وفي الاجتماع التالي (عُقد عن بُعد) بين رئيس «ألفا» التنفيذي جاد ناصيف ومسؤولين في «إريكسون» بمشاركة مورفي، رفضت الشركة «التعاون» وأعرب ناصيف أمام فريق «ألفا»، عن سخطه، إذ تبلّغ من الشركة موعداً متأخراً للتسليم مدّته 15 شهراً، وشرطاً إضافياً يتعلق بتسديد مسبق لدين بذمّة «ألفا» تجاه الشركة قيمته 12 مليون دولار، وأن خدمة الصيانة والدعم لن تكون حضورية بل «عن بُعد»، وأن شراء المعدات يكون عبر طرف ثالث وليس من «إريكسون». كما قيل له بوضوح إن «إريكسون» لن تشارك في أي مناقصة!
اتّفق القرم مع «إريكسون» على تجزئة الصفقة مقابل خفض الأسعار والمواصفات
مفاوضات «تحت الطاولة»
في هذا الوقت، كان وزير الاتصالات مطّلعاً على تفاصيل التهديدات. وهو تبلّغ من مجلس إدارة «ألفا» قرار إطلاق مناقصة، وقيل له أيضاً إن المناقصة تعني فوز «هواوي» المعروفة بأسعارها الأدنى في السوق العالمية. في البدء، تجاوب الوزير مع إطلاق المناقصة، إلا أنه سلك طريقاً مختلفاً ومستغرباً عندما أبلغ «ألفا» بأنه سيسأل القوى الأمنية والقوى السياسية عن مخاطر فوز «هواوي»! في الواقع، لا دواعيَ قانونية أو تجارية أو أمنية لسؤال كهذا، لأن الصلاحية تعود لشركة ألفا ومرجعها قانون الشراء العام، ولأن «هواوي» موجودة أصلاً في البنية التحتية الأساسية لشركة «تاتش» ولا توجد عليها شكاوى من القوى الأمنية والسياسية.
لم يكتفِ القرم بذلك، بل طلب من مسؤولي «ألفا» ترتيب اجتماع له مع ممثّلي «إريكسون». ففي النصف الثاني من أيلول، استقبل القرم فرعون ومورفي والمسؤول عن الملف في الشركة، بيتر عطالله بحضور مسؤولين من «ألفا». فريق «إريكسون» الثلاثي، اشتكى من أزمة لبنان التي اندلعت في عام 2019، مشيراً إلى أن «إريكسون» ستتوقف عن دعم لبنان لأن لديها مشاكل «حول العالم»، وأن عرضها الأخير (الثاني) نهائي. بحسب مصادر المجتمعين، طلب منهم الوزير المزيد من الدعم، فأجيب بالرفض. عندها ردّ بأن «ألفا» ستُطلق مناقصة، ثم أتاه الجواب: لن نشارك. وانتهى الاجتماع بسلبية فائقة.
بعد ذلك، قال القرم لفريق «ألفا» أمراً غريباً جداً: أخلاقياً، سأبلغ السفارة السويدية بما قامت به «إريكسون»! لماذا يجد الوزير داعياً لإبلاغ سفارة السويد بما حصل؟ أليس من واجبه إطلاق المناقصة وإجبار الشركة السويدية على الخضوع للقانون اللبناني بدلاً من التفاوض معها والتزلّف إلى السفارة السويدية؟ لكنّ المفاجأة، أن الوزير لم يكتف، بل قرّر أن يطلق مفاوضات جانبية وحصرية بينه وبين ممثّلي الشركة السويدية من دون علم أحد في «ألفا». وتقول مصادر مطّلعة، إن مسؤولي «ألفا» علموا بالصدفة بما يحصل «تحت الطاولة» حيث تكرّر الكلام عن فوز «هواوي» إذا أُطلقت المناقصة. وبحسب المصادر، فإن «الوزير أجرى جولات من المفاوضات مع بيتر عطالله. وفي منتصف تشرين الأول، ومن دون سابق إنذار، تبلّغ مسؤولو «ألفا» من الوزير القرم استئناف المفاوضات مع «إريكسون» وتجميد دفتر شروط المناقصة.
تقول المصادر، إن الوزير قدّم ضمانته حتى «تتعاون إريكسون»، طالباً من مسؤولي «ألفا» الاطّلاع على «السيناريو المتّفق عليه بين فريق الوزير وفريق إريكسون». عندها ظهر العرض الثالث، والذي يتضمّن تجزئة الصفقة: تؤمّن إريكسون برامج البنية الأساسية للشبكة بلا معدات، وذلك لموقعين فقط بقيمة 4.3 ملايين دولار (يعني أن تركيب البرامج في مواقع إضافية سيكون له ثمن مختلف وكبير لأنه لا يمكن الدمج بين برامج مختلفة في الشبكة الواحدة)، ويتم إطلاق مناقصة لشراء المعدات أو الحصول عليها مباشرة من شركة «HP» (قُدرت قيمتها بنحو 1.3 مليون دولار)، ويتم إطلاق مناقصة لشراء نظام الفوترة «لأن هناك اعتقاداً بأنه لا يمكن منافسة إريكسون في هذا المجال وخفض السعر عن 2 مليون دولار» تقول المصادر. ما كان لافتاً، هو أن ممثّلي «إريكسون» لم يناقشوا العرض، بل طلبوا الاجتماع بفريق «ألفا» في 8/11/2023 وعرضوا عليه ضمانتهم بأن يوافق الوزير على العرض الثالث المشروط بأن تتم جدولة المستحقات للشركة السويدية على فترة تراوح بين سنتين وثلاث سنوات.
خبث المماطلة
إذاً، يمكن الاستنتاج بأن تخطّي إطلاق مناقصة بحسب قانون الشراء العام، وبالتالي تخطّي هيئة الشراء العام، كانا أحد الأهداف التي رسمها الوزير القرم في سياق المشاركة في إقصاء «هواوي» التي تحاربها الولايات المتحدة الأميركية في العديد من البلدان، كان آخرها الأردن، ثم الآن في لبنان. واللافت أن الصفقة التي اتفق عليها الوزير والشركة السويدية، تضمّنت مخاطر واسعة وحقيقية وجدية على شركة الاتصالات التي ستصبح رهينة شراء المعدات من شركة مختلفة عن الشركة التي تشتري منها البرامج والخدمات، بل ستصبح الصيانة «عن بُعد» وكأنها «موضة» يمكن تجربتها وتعديلها لاحقاً. أي عطل سيطرأ على الشبكة ستتقاذفه الشركات المختلفة وستدفع «ألفا» أثماناً كبيرة لهذا الأمر. «إريكسون» لن تكون مسؤولة عن هذا النظام بكامله، بل عن جزء منه. وسيتم تقديم مناقصة شراء المعدات ومناقصة شراء نظام الفوترة باعتبارها نسخة شفّافة من عمل الوزارة و«ألفا» بينما هما جزء من مناقصة تتم تجزئتها وتخصيصها «حتّة» «حتّة» لشركة واحدة. وهذه الشركة التي صرفت نحو 40% من موظفيها في لبنان، وهي قيد الإغلاق النهائي هنا، ستخصّص رقم هاتف لإجراء الصيانة بدلاً من أن تضع طاقماً من الموظفين تحت تصرّف «ألفا» عند الضرورة.
هذه المسائل تفسّر خفض الأسعار، لكنها تعني أيضاً أن المخاطر على «ألفا» صارت كبيرة. وهي مخاطر تحاول «إريكسون» ومن يدعمها، فرضها بخبث من خلال إستراتيجية المماطلة التي تعني أن انتهاء صلاحية المعدات والبرامج سيفرض على «ألفا»، بالقوّة، الموافقة على عرض «إريكسون».
كل ذلك يثير الشكوك لجهة تفصيل هذه الصفقة خارج نطاق «هيئة الشراء العام»، كما أنه بحسب القانون النافذ حكماً الرقم 9 الصادر في 15/01/2022، فإنه يتوجب على وزير الاتصالات أن يعرض الأمر على مجلس الوزراء، إذ ينصّ القانون على أنه «تخضع المصاريف الرأسمالية لموافقة مجلس الوزراء ويُستثنى من ذلك ما يتعلق بتشغيل الشبكة القائمة وصيانتها ورخص استعمالها (License)»، وبالتالي فإن عرض الصفقة على مجلس الوزراء أمر متلازم مع تطبيق قانون الشراء العام، لا بل إن دور وزير الاتصالات ليس دوراً تنفيذياً في شركتَي الخلوي، بل هو ينحو أكثر نحو السلطة الرقابية بدلاً من أن يتفاوض مع «إريكسون».
الطعن في العقد المخالف
لا يحقّ لوزير الاتصالات فرض تجاوز القانون على شركة «ألفا»، فإن مهمة مجلس إدارة الشركة هي الحرص على تطبيق قواعد الشراء العام التي تحظّر تجزئة الصفقات بما يجعلها مفصّلة على قياس شركة ويحصر توقيع صرفها بيد جهة واحدة. ويوضح أستاذ القانون الإداري في الجامعة اللبنانية عصام إسماعيل، أن من حقّ أي شركة أخرى الاعتراض على أي عقد يُبرم خلافاً لقانون الشراء العام، فضلاً عن أن مهام هيئة الشراء العام هي الاعتراض وتقديم طعن في الأمر. وأشار إلى أنه بعد عام 2021، تاريخ صدور قانون الشراء العام، أصبحت أموال «ألفا» عامة ولا يحق لمجلس إدارتها التصرّف بها، إذ إن أول قاعدة في قانون الشراء العام هي المنافسة والعلنية وإبعاد شبهة الفساد عن أعمالها والرقابة التامة لهيئة الشراء على عقودها.
شراكات «ألفا»
شركة «ألفا» المعروفة أيضاً باسم «MIC1» (شركة الاتصالات المتنقّلة المؤقتة 1)، هي واحدة من شبكتين متنقّلتين. تعمل في لبنان منذ عام 1994 وهي مملوكة بنسبة 100% من الدولة اللبنانية، ويديرها مجلس إدارة وفريق إداري تعيّنه الحكومة اللبنانية بوصاية وزير الاتصالات (حالياً جوني القرم هو وزير الاتصالات في حكومة تصريف الأعمال منذ أيلول 2021). وقد اعتمدت «ألفا»، منذ إنشائها على مورّديْن غربييْن، هما «إريكسون» السويدية و«نوكيا» الفنلندية، وتم شراء نظام البنية التحتية ونظام الفوترة و 70% من أنظمة الراديو واللاسلكي من «إريكسون»، وتم شراء 30% المتبقّية من أنظمة الراديو واللاسلكي من «نوكيا».
نسخ الرابط :