إن ما يحصل اليوم على أرض قطاع غزة لبس بحادث عابر، إنما نحن في خضم حدث مفصلي لما ينطوي على نتائجه الميدانية من تحولات جذرية ستغيّر المعالم الجيوسياسية للمنطقة العربيَّة برمَّتها. عدا عن كونها فاجعة حقيقية يتعرض لها الشعب الفلسطيني على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
إن النزاع القائم في غزة ما هو إلّا صورة من صور المنازلات ما بين الحق والباطل. لقد تكالبت فيها قوى دوليَّة غربيَّة على مناصرة الشر في مقارعته للخير. لقد ولد الكيان الإسرائيلي نتاج علاقة سفاح القربى ما بين بعض النُّظم الاوروبيَّة، ويهود أوروبا، حيث وعد بلفور المشؤوم الذي قطعته قوى الاستعمار عام 1917 م بإقامة دولة لهم في فلسطين العربية، وطرد أهلها الأصليين من أرضهم وتشتيتهم في أصقاع الأرض، وذلك استرضاءً لهم عن نبذ الشعوب الأوروبية لليهود والتنكيل بهم على امتداد التاريخ، وهذا ينطوي على مفارقة غير مألوفة، إذ كيف لمن نكل باليهود وشرَّدهم، سعى ويبذل كل ما أوتي من إمكانيات لتمكينهم من التنكيل بشعب آخر وتشريده بدفعه إلى هجرة قسريَّة.
إن السلوكيات العنصرية الصهيونية البربرية ليست وليدة الساعة إنما لازمتهم عبر التاريخ وغدرهم للدول التي نشأوا في كنفها وتآمرهم على شعوبها، وإصرارهم على التقوقع والإنعزال، لاعتقادهم الديني الخاطئ بأنهم شعب الله المختار الذي مايزهم عز وجل عن شعوب الأرض قاطبة وسخرها لخدمتهم، ويبدو أنهم قد حرَّفوا التَّوراة وأوَّلوه على خلاف مقاصده على نحو يبرر لهم ارتكابهم الفظاعات والتنكيل والقتل بحق الشعوب الأخرى، وهذا ما يترجم دعوات بعض حاخاماتهم لإبادة الشَّعب الفلسطيني وقطع دابره بارتكاب المجازر بحق الكهلة والنساء وقتل أكبر قدر من الأطفال والرضع.
ربما اكتسب الصَّهاينة هذه السُّلوكيَات الوحشيَّة مما تعرَّض له أسلافهم من حملات قمع وتنكيل خلال إقامتهم في أوروبا وبخاصَّة ما بين القرن الحادي عشر وأوائل القرن العشرين وبالتحديد عام 1933م ويحكى أنهم تعرضوا لقرابة 40 عمليَّة تنكيل وطرد في معظم الدُّول الأوربيَّة منها: فرنسا، إيطاليا، إنجلترا، سويسرا، المجر، إسبانيا، التشيك، بولندا، صقلية، ليتوانيا وكييف، البرتغال، النمسا، وكانت آخرها في ألمانيا حيث تعرضوا لنوع من عمليَّات الإبادة الجماعية بواسطة محارق وغيرها من وسائل القتل وفق مزاعمهم، وتبَنوا في ما بعد شعار مناهضة السَّاميَّة لشيطنة كل من يكشف حقيقتهم العنصريَّة الدَّمويَّة.
هذا المسار الصهيوني العنصري يجعلنا غير متفاجئين بما ارتكبوه ويرتكبونه من فظاعات بحق الشعب الفلسطيني، الذي أواهم وأكرمهم وأحسن ضيافتهم عندما لجأوا إليه هرباً من أوروبا، التي أزاقتهم الأمرّين، ولم يكن المُضيفون العرب على علم بمكيدة وعد بلفور الذي قطعته المملكة المتحدة برسالة سلّمها وزير خارجيَّتها آرثر بلفور إلى اللورد ليونيل والتر دي روتشيلد أحد أبرز اليهود البارزين في بريطانيا لليهود بدعم المملكةِ لإقامةِ وطن قومى لهم في فلسطين، ولا بعنصريَّتهم ووحشيتهم، إلّا بعد تأليف الصهاينة الذين قدموا إلى فلسطين لعصابات وميليشيات إجراميَّة، احترفت القتل والترويع وارتكاب المجازر، وغيرها من أعمال العنف لترهيب أصحاب الأرض والتخلي عن ممتلكاتهم، والهجرة من ديارهم التي توارثوها أباً عن جد، تحت هول المجازر وبمساندة من دولة الاحتلال «بريطانيا» وغيرها من الدُّول الغربيَّة الاستعماريَّة.
المساندة الغربية لليهود لم تقتصر على إقامة دولة على أرض فلسطين، إنما أمنوا لها لبوساً من المشروعيَّة بقبولها عضواً في منظمة الأمم المتحدة وكان الاتحاد السوفياتي في طليعة المعترفين بالكيان الصهيوني كدولة مستقلة، وقد أخذت الولايات المتحدة الأميركيَّة على عاتقها حماية هذا الكيان الغاصب بتبنيها له وتوفير الدَّعم غير المحدود وضمان تفوقه العسكري على الدُّول المجاورة قاطبة، وتولت فرنسا، بإيعاز من الولايات المتحدة الأميركيَّة، تزويد هذا الكيان بالخبرات النووية وساعدته على بناء مفاعل نووي في ديمونا، وذلك على الرغم من توقيع فرنسا على الاتفاقية الدولية الخاصة بمنع انتشار الأسلحة النووية، وبقي هذا المشروع ولم يزل معروفًا عمليَّا ومجهَّلا رسميًّا، نتيجةَ امتناع إسرائيل على تأكيد امتلاكها للسلاح النووي، ولكن زلَّات لسان بعض مسؤوليها بتهديداتهم باللجوء اليها عند الضَّرورة تفضح أمرهم، وقد دعى مؤخرًا وزير التراث في الكيان إلى اللجوء للخيار النووي.
إذا كانت العنصرية والوحشيَّة من شيم الصهاينة، ثمة سؤال يطرح نفسه: ما سبب الانسياق الغربي الأعمى خلف همجيَّته، وتهافته على دعمه سياسيا وعسكريا، وتبرير شناعاته وارتكاباته الإجراميَّة، ليكون من خلال تلك الممارسات شريكا فعليًّا في كل ما يقوم به هذا الكيان من إجرام، وتخلي دوله عن القيم والمبادئ التَّحررية والأخلاقية التي تنادي بها أو تتلطى خلفها؟ أهو من قبيل التكفير عما اقترفه أسلافهم من ذنوب بحق يهود أوروبا؟ أم نتيجة سيطرة اللوبي الصهيوني العالمي على صنَّع القرار في الدول الغربيَّة؟
ليس بمفاجئ انسياق الغرب بمواقفه وسياساته خلف مصالح الكيان الإسرائيلي، إذ لطالما كان خادمًا له، مكرسًا انحيازه الدائم لجانبه، رغم كل الظلم الذي يلحقه بالشعب الفلسطيني، باعتماده معايير مزدوجة في مقاربته لمسألة النَّزاع العربي الإسرائيلي والمتمحور حول فلسطين المحتلة، ولا داعي للتذكير بالمواقف الغربية المخزية، حيث أن جعبة الامم المتحدة مليئة بحق النقض «الفيتو» وتصويت أميركا وبريطانيا وفرنسيا دائمً لصالحِ إسرائيل، وما نشهده اليوم من حشد للأساطيل الغربية والمدمرات وحاملات الطائرات والغواصات وما يرافقه من تهديدات مبطنة على أثر عمليَّة طوفان الأقصى، ما هو إلا صورة من ذلك النسق التآمري العدواني الذي يصب في خانة الكيان الغاصب، ويعيدنا بالذاكرة إلى الاعتداء الثلاثي (البريطاني الفرنسي الاسرائيلي) على مصر عام ١٩٥٦ على أثر إعلان جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس.
إن الإحتضان الغربي الذي تحظى به إسرائيل لم يعد مستغربًا رغم ما يوفره لها من دعم غير محدود (سياسي وعسكري ولوجستي ومالي) ولكن أخطر ما فيه يتمثَّلُ في تجاوز كل المواثيق الدَّوليَّة والقيم الانسانيَّة، وتوفير الغطاء والتبريرات والحجج الواهية لمشروعها التَّهجيري، وجرائم الحرب التي ترتكبها، والإبادة الجماعية والجرائم ضد الانسانيَّة التي ترتكبها بحق الشَّعب الفلسطيني الأعزل، خاصَّة وأنه لم يسبق أن عرفت المجتمعات البشريَّة جرائم بفظاعتها ووحشيَّتها.
المستهجنُ غربيًّا ذاك التَّضليل للرأي العام الذي تقوم به السلطات الغربيَّة بحجب المعلومات حينًا وبمنع تداولها أحيان أخرى، كما بالتشكيك بصدقيَّة أعداد الضحايا، وبمبررات قصف المشافي. وسكوتهم عن قتل آلاف الأبرياء الفلسطينيين بأفظع الأساليب وبدم بارد، ومسح عشرات الأحياء السكنية المأهولة بالأرض، وتدمير دور العبادة فوق رؤوس من أووا إليها، وهدم عشرات المستشفيات على أطقمها الطبية والمُعالَجين فيها، وقصف سيارت الإسعاف والمخابز ومخازن المواد الأوليَّة وأحراقها بمحتوياتها، وقطع مصادر الطاقة والمياه أو تعطيلها، وحجب المساعدات والتجهيزات الطبيَّة والأدوية عن مُحتاجيها، والأكثر استهجاناً اعتماد المراوغة في السماح لقوافل الإغاثة بالدخول إلى المناطق المنكوبة، والابتزاز بإخلاء سبيل المحتجزين بهدنات مؤقَّة مع رفض قاطع للبحث في وقف نهائي لإطلاق النار.
وإذا كانت المواقف الغربيَّة مثيرةً للإستغراب، فالسكوت العربي المُريع مدعاة للتَّساؤل والملامة، إذ لا مبرر له سوى الهوان والخنوع والتخاذل الذي يصل الى حد المشاركة بالمؤامرات التي حيكت وتحاك ضدَ الشعب الفلسطيني منذ وعد بلفور المشؤوم ولغاية اليوم، والذي يبدو أن فصولها لم تنته بعد، وقد حان أوان تنفيذ آخرها، والمتمثل بإخلاء الأراضي الفلسطينيَّة ممن تبقى من أهلها بدءاً بتهجير السُّكان وإخراجهم عنوة من ديارهم.
وعلى خلاف الكيان الصهيوني المحتضن غربيًّا كانت فلسطين مرميَّة في غياهب النِّسيان، لولا أن طوفان الأقصى وصمود أهلها وشجاعةُ وكفاءة مقاتليها قد صوّبت البوصلة الشَّعبيَّة رغم كل حملات التشويش والتحريف والتعمية، فأعادت تصويب الرأي العام العالمي تجاه أحقيَّة هذا الشعب المضطهد إسرائيليًّا وغربيًّا، وحرَّكت ضمائر الشعب العربي، واستنهضت روحه المعنويَّة، وأعادت القضيَّة الفلسطينيَّة إلى واجهة الاهتمامات الدوليَّة. ورغم ذلك بقي بعض الحكَّام العرب يتعاملون مع حماس وغزَّةَ عامًَّة كتعاملهم مع الولد الضَّال الذي أضاعته أمه العربيَّة فارتمى في أحضان مرضعة فارسيَّة؛ ويبدون إصرارًا على محاسبته على فعلته رغم اشتداد المحنة عليه، وهذا ما يترجمُ الاكتفاء ببيان ملتبس لمجلس وزراء الخارجية العرب، والدَّعوة لقمة اسلاميَّة - عربية طارئة، لم تجد متَّسعًا لها إلا بعد مرور خمسة أسابيع من بدئ المصاب الجلل، والتي جاءت استجابةً لضغوط شعبيَّة عارمة؛ ورغم ذلك، لا يعول الكثير عليها، لكون التوقعات لا تخرج عن سياق مقررات القمم السابقة. يا للعار إنها لمفارقة مشينةٌ ومخزية للمجتمع البشري، إذ ولد لقيط يحظى برعاية غربية عارِمة، وولد شرعي يلقى إهمالا عربيًّا فاضحاً.
إن ما يحصل في غزَّة ليس بحدث عابر ولا معزول، إنما بداية لمشرع صهيوني استيطاني بعيد الأجل، يستهدف الأمة العربية بأسرها؛ بدأت تتوضَّح ملامحه بالتَّسويق لتهجير سكَّان غزَّة، والقضاء على منظَّمة حماس، تمهيدا لنعي القضيَّة الفلسطينيَّة، وقيام إسرائيل الكبرى على أشلاء الكيانات العربيَّة الحاليَّة، بالتلاعب على التَّناقضات بين النُّظم العربيَّة القائمة، والمناكفات بين حكامها. وترسيم هذا الكيان الدَّخيل شرطيًّا ناظمًا للعلاقات بين دول المنطقة، وراعيًّا سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وأمنيًّا لها، تمهيدًا للسيطرة على مقدرات الأمة العربيَّة ونهب ثرواتها الطبيعيَّة، من خلال التحكم بمفاصل صناعة القرار في كياناتها، والتحكم بمسارات الملاحة البحريَّة والبريَّة والجويَّة في ما بينها، تمهيدا للإستئثار بعرى التواصل ما بين الشرق والغرب.
إن الحكام العرب مطالبون بالتنبُّه لمخاطر المضي قدمًا بالسياسات المنفردة، والاتفاقيَّات الثنائيَّة التَّطبيعيَّة مع هذا الكيان. وعليهم السَّعي مجتمعين للتَّصدي لهذا المخطط الجهنمي؛ وإن كانت مخاطر الإيديولوجية الفارسيَّة تستهدف نظم الحكم في الدُّول العربيَّة، فإن مخاطر الكيان الصَّهيوني تستهدف الأمَّة بإرثها الحضاري وثقافتها الدينيَّة وثرواتها.
وفي هذا الإطار نعول على وعي القيادتين في كل من جمهورية مصر العربيَّة والمملكة العربيَّة السعوديَّة في ظلِّ قيادتها الشَّابة الواعدة، والمهيئة للعب دور عربي جامع على قدر التَّحديات التي تواجهها أمتنا العربيَّة. فهل يُستجاب لدعوتنا هذه؟ اللهم اشهد أني قد بلّغت.
نسخ الرابط :