أدى فوز هوغو تشافيز في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية عام 1999 إلى إعادة بناء فنزويلا وفقاً لمنظور الثورة البوليفارية ومبادئها.
خضع المجتمع الفنزويلي لتحوّل اجتماعي كبير بدأ بإعادة تعريف الدولة نفسها، ودستور جديد شمل حقوق الفنزويليين بتنوّعهم، وضَمن الحق في السكن والتعليم والصحة وشدّد على حماية البيئة، ونفَّذت فنزويلا إصلاحاً زراعياً أدّى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي وتصدير الفائض الزراعي لأول مرة منذ أكثر من قرن. يكمن تفرّد تشافيز في صوغه نموذجاً اشتراكياً متجذراً في التاريخ الثقافي والسياسي الفنزويلي ومختلفاً عن النموذج السوفياتيّ والصينيّ وحتى الكوبيّ.
استطاعت الاشتراكية البوليفارية التغلَّب على الماضي الاستعماري لفنزويلا، وحققت السيادة والاستقلال السياسيين، وبدأت منذ يومها الأول استبدال هيكل الدولة القائم آنذاك بالكوميونات التي ما زالت تُشيَّد حتى اليوم. تهدف الاشتراكية في فنزويلا إلى تحقيق الاحتياجات الأساسية للشعب وممارسة تقرير المصير من دون وصاية أو ضغط خارجي، ومن خلال ممارسة الديمقراطية التشاركية يمكن للشعب الفنزويلي أن يعزل البرجوازية الكبيرة والكمبرادورية عن السلطة السياسية.
في الواقع، لا يعتقد الفنزويليون أنهم حققوا الاشتراكية، لكنهم يعدّون تحقيقها بمنزلة عملية مستمرة. ووسط وابل العقوبات الاقتصادية التي تتعرض لها فنزويلا اليوم، يؤكد الفنزويليون أن الدفاع عن الثورة يحدث يومياً من خلال بناء الكوميونات وتعزيزها؛ بالنسبة إلى الفنزويليين، هذه مسألة مفصليَّة في مقاومة الرأسمالية والإمبريالية محلياً وإقليمياً ودولياً.
هوغو تشافيز والكوميونات
يتلخَّص الإرث السياسي لتشافيز في الدفاع عن الاستقلال الوطني والأصول الثمينة التي استُعيدَت بعد 200 عام من التبعية السافرة، والاستمرار في بناء الاشتراكية البوليفارية في فنزويلا كبديل للرأسمالية يضمن توفير أكبر قدر من الضمان الاجتماعي والاستقرار السياسي والسعادة للشعب، وتحويل فنزويلا إلى دولة قوية اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ضِمن القوى الكبرى الصاعدة في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي ما يضمن تشكيل منطقة سلام في الإقليم، والمساهمة في تطوير جغرافيا سياسية دولية جديدة يتشكل فيها عالم متعدد الأقطاب يسمح بتحقيق توازن عالمي، وبالتالي ضمان السلام في أنحاء العالم، وأخيراً جهود لضمان سلامة غابات الأمازون والحفاظ على الحياة في كوكب الأرض وإنقاذ الجنس البشري.
يرى تشافيز إمكانية تحديد الانتقال الفنزويلي إلى الاشتراكية من خلال خمسة جوانب: أولاً، تحويل القاعدة الإنتاجية للبلد سعياً إلى مستوى أعلى من دمقرطة القوة الاقتصادية؛ ثانياً، تغيير دور الدولة لضمان الدفاع عن سيادتها، وبدء عملية التراكم في تحقيق الاحتياجات الأساسية لغالبية السكان؛ ثالثاً، توسيع الآليات الإنتاجية الذاتية التحكُّم (الكوميونات) ودمجها على مستوى جماعي؛ رابعاً، استخدام التخطيط الديمقراطي كآلية لتنظيم علاقات الإنتاج؛ خامساً، التشديد على استقلالية البلد في مواجهة تدويل النظام الرأسمالي.
وعلى عكس الاتحاد السوفياتي الذي لم يكن اشتراكياً ولا ديمقراطياً مثلما رأى تشافيز، انطوت الثورة الصينية على ممارسة ديمقراطية أصيلة، إذ حاول الماويون خلال الثورة الثقافية استئصال الممارسات البرجوازية التي استمرت داخل البيروقراطية والحزب والإدارة في الصين، وبرغم أن الصين آنذاك لم تكن مجتمعاً رأسمالياً، فإن منطق رأس المال كان يتحكم به.
يتعين على الناس في مثل هذا الوضع أن يُشيِّدوا ديمقراطية جذريَّة من شأنها أن تقضي على المنطق التراتبي لرأس المال وتقسيم العمل المصاحب له. هذا بالضبط هو مشروع الثورة الثقافية، وهو ما حاول تشافيز القيام به في فنزويلا اعتماداً على الكوميونات.
الكوميونات، بالنسبة إلى تشافيز، شكل متقدِّم للغاية للتنظيم السياسي قادر على تحويل المجتمع الفنزويلي الرأسمالي إلى مجتمع اشتراكي، وهي شكل للحكم والإدارة الذاتيّين تشكّله المجتمعات المحليَّة نفسها، وركيزة أساسية للديمقراطية في الإنتاج والملكية الاجتماعية. وبكلمات أخرى، الكوميونات شكْل حكم شعبي يضمن توسُّع المجتمعات المحليَّة في مشاريع أكبر وإنتاج وتوزيع السلع والخدمات، وتحقيق اكتفائها الذاتي بالشركات التي يملكها ويديرها كامل أعضاء المجتمع المحلي، عبر الديمقراطية التشاركية.
"الكوميونات أو لا شيء" – هكذا لخَّص تشافيز في آخر لقاء متلفز له مشروع الكوميونات نظرياً وعملياً. بالنسبة له، من الضروري إعادة بناء النظام بما يسمح للتنظيمات الشعبيَّة (الكوميونات) التي تشكَّلت خلال الثورة أن تُشكِّل شبكة تدير البلد بأكمله كشرط أساسي للانتقال إلى الاشتراكية؛ عليها أن تتجاوز طابعها المحلي لتُشكِّل مجتمعة نظاماً وطنياً واحداً، وبصفتها تنظيمات شعبيَّة تعيد بناء النسيج الاجتماعي، وتغير العلاقات الاجتماعية وشكل ملكية أدوات الإنتاج، لتحقيق الإدارة الذاتية لاحتياجات مجتمعاتها المحليَّة من دون خضوع لهيمنة خارجية.
الحياة في كوميونات فنزويلا
بحلول نهاية عام 2022، كان في فنزويلا أكثر من 3,800 كوميونة تضم أكثر من 49,000 مجلس كوميونيّ يتمركز أغلبها في الريف والمناطق الحضرية. في الكوميونة، تكون وسائل الإنتاج – الأرض أو المصانع ...إلخ – ملكاً لسكّانها الذين يتحكمون في كل شيء تقريباً؛ لدى جميع الكوميونيين الحق في تخطيط السياسات والمشاريع داخل أراضيهم وتحديدها وتنفيذها، ولديهم فُرص متكافئة للمشاركة السياسية والاقتصادية، إذ يسمح هيكل الكوميونة بأقصى قدر من المشاركة المجتمعية.
تكوِّن الكوميونة مجموعة وحدات مجتمعية تسمى "المجالس الكوميونية" (يتشكَّل كل منها عادة من نحو 200-400 عائلة في المناطق الحضرية لديهم هوية مشتركة ويسكنون المساحة الجغرافية نفسها، ونحو 20 عائلة في المناطق الريفية، ونحو 10 عائلات في المناطق التي يقطنها السكان الأصليون) التي يتكوّن كل منها من مجموعة لجانٍ متنوعة وفق ما يراه المجتمع المحليّ؛ اللجان التي تحدد قيود ملكية الأراضي وحقوقها، لجان تنظيم الوصول إلى المياه واللجان النسائية ...إلخ.
ويضم كل من تلك المجالس مصرفاً كوميونيّاً واقتصاداً كوميونيّاً ولجنتيّ تخطيط وظيفتهما تطوير السياسات والمشاريع بناءً على احتياجات المجتمع المحليّ، وتُمرَّر هذه السياسات والمشاريع في النهاية من خلال "مجلس المواطنين" الذي يضمن لجميع السكان الحق في التصويت.
وبمجرَّد إقرار السياسة، تبدأ اللجان بالتنظيم والتنفيذ. ولدى الكوميونة هيكل مماثل للمجالس التي تكوِّنها، إذ يتشكّل أيضاً من لجانٍ تضم متحدثين باسم المجالس الكوميونية، وتُتَّخّذ القرارات النهائية في "البرلمان الكوميونيّ" الذي يضم ممثلين عن جميع المجالس الكوميونية.
ولأن الكوميونيين ينظِّمون كامل العمليات التي تجري داخل الكوميونة، فإن الأفراد يلعبون أدواراً متعددة على عكس تقسيم العمل في الرأسمالية، وذلك يجعل لدى الفرد معرفة متواضعة بكامل عمليات الإنتاج داخل الكوميونة.
وعلى عكس العمل المأجور المُغتَرِب في الرأسمالية، ينظِّم الكوميونيون بأنفسهم عمليات العمل – الزراعي أو الصناعي أو الخدمي – ما يجعل تقسيم العمل داخل الكوميونة يخلق بيئة لا تؤدي إلى الاغتراب، فالعمل داخلها دائماً لديه معنىً هام للغاية لأن الأفراد ينتجون لأنفسهم ومجتمعهم المحليّ لا لسوقٍ خارجية، ويستهلك المجتمع المحلّي معظم الإنتاج فيما يُباع ما تبقى خارج الكوميونة من أجل تحقيق عائد مالي يوجَّه جزء منه لتعزيز الإنتاج والجزء الآخر للمشاريع والمبادرات الاجتماعية مثل المدارس والمستشفيات والإسكان وتوفير الأدوية والأغذية ...إلخ.
وتساهم العلاقة الإيجابية بين المجتمعات المحليَّة والشرطة في حل العديد من المشكلات، إذ تقدِّم الشرطة دائماً نصائح أمنية، وفي المقابل يمكن لأعضاء المجتمع المحليّ تقديم اقتراحات حول كيفية تحسين القانون والنظام، وتأخذ الشرطة تلك المقترحات على محمل الجد حتى إن بعضها يتم تنفيذه.
وفضلاً عن أن الشرطة الفنزويلية تُدرَّب في مراكز تضم مدنيين وناشطي حقوق الإنسان بفضل جهود الإصلاح التدريجي المستمرة منذ عام 2009، لا تدخل الشرطة العديد من الكوميونات، بل تحافظ منظمات المجتمع المحليّ المسلّحة أو ما يعرف بالشرطة الكوميونية على السلام المجتمعي والأمان وتسعى إلى خفض الجريمة واحتوائها.
قد يبدو مما سبق أنه يمكن للكوميونة أحياناً أن تدخل في تناقضات مع الدولة، وهذا صحيح نسبياً إذ يوجد بين الكوميونات وسلطة الدولة في فنزويلا حالة دائمة من الدفع والجذب، فالكوميونات لا تسعى إلى الحصول على الشرعية والحماية القانونية من الدولة وحسب، إنما أيضاً الموارد والتمويل.
وبالمقابل نادراً ما تقدم الدولة موارد من دون أي مقاومة، ما يعني في النهاية أن الكوميونات تتودد إلى الدولة وتطلب منها تسليم جزء من ريعها النفطي والمداخيل الأخرى إلى مشروع التراكم الاشتراكي. إنه لمن المتوقع أن تخلق الكوميونات بيئة مختلفة للإدارة المحليَّة والسياسية بعيدة كل البعد عن نماذج التنظيم السياسي البرجوازي؛ وإذا واكب ذلك إدماج للنفط واستخدام عائداته في العمليات اليومية، فيمكن للكوميونات آنذاك أن توجِّه تبادل السلع والخدمات بما يضمن تنشيط اقتصادات مجتمعاتها المحليَّة وازدهارها.
كوميونات فنزويلا في مواجهة الإمبريالية والحصار
تفرض الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على فنزويلا منذ أكثر من 15 عاماً؛ بدأت العقوبات منذ عام 2006 في استهداف أفراد وكيانات محددة، وفي عهد إدارة أوباما اتخذت العقوبات منحى أكثر شمولاً وراحت تستهدف الحكومة الفنزويلية والأشخاص المرتبطين بها، وقامت إدارتا ترامب وبايدن بتوسيع نطاق العقوبات مع التركيز على قطاع النفط، خاصة شركة النفط الوطنية الفنزويلية المملوكة للدولة والشركات التابعة لها، ما ترك تأثيراً عميقاً في إنتاج النفط وعائداته والاقتصاد الفنزويلي ككل.
تختلف مجالات العقوبات المفروضة على فنزويلا وأنواعها، وتدور الأسباب المعلنة حول مواجهة تجارة المخدرات، والأعمال المناهضة للديمقراطية، وانتهاكات حقوق الإنسان، والفساد، والدعم الفنزويلي لجماعات أبرزها حزب الله.
ويواكب هذه العقوبات دعم قوي للمعارضة الفنزويلية وتنظيماتها المختلفة وخوان غوايدو زعيمها الذي اعترفت به الولايات المتحدة وحلفاؤها رئيساً مؤقتاً لفنزويلا منذ سنوات. وبصرف النظر عن رطانة الأسباب المعلنة وراء العقوبات، يتمحور الهدف الحقيقي للحصار حول ممارسة جميع أشكال الضغط على الحكومة الفنزويلية لدفعها إلى التخلّي عن طريق الثورة البوليفارية والانصياع لمتطلبات الإمبريالية داخلياً وخارجياً، وجاءت العواقب بعيدة المدى وطالت جميع الفنزويليين؛ هذه العقوبات ليست إلا شكلاً من أشكال العقاب الجماعي الذي يتعرض له الشعب الفنزويلي.
يشمل إرث تشافيز أيضاً تشكيل قيادة جماعية ثورية تحافظ على استمرارية الثورة البوليفارية في فنزويلا؛ لقد تحمَّلت البلاد عقدين وأكثر من التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وتثبت اليوم قدرتها الفعالة على مواجهة حصارٍ عمره أكثر من 15 عاماً بفضل قيادة الرئيس نيكولاس مادورو ودعم الجيش والقوى الفنزويلية الثورية للحكومة.
وفي معرض الحديث عن التحول في القيادة من تشافيز إلى مادورو، لا يمكن تجاهل الدور المؤثر للغاية والواسع للقوى الاجتماعية ذاتها القائمة على هذا المشروع الثوري، فعلى الرغم من الصعوبات الاقتصادية مثل انخفاض أسعار النفط والتضخم الناتج من الحصار، ازدهرت العديد من الكوميونات وعزَّزَت تنظيماتها، وحاربت الفساد داخلها، وواجهت التحديات بفاعلية، فضلاً عن تمسُّكها بمبدأ الحكم الذاتي لمجتمعاتها المحليَّة وحفاظها عليه.
تقع كوميونة El Sur Existe ("الجنوب موجود" إذا ترجمت حرفياً)، في النطاق الحضري لفالنسيا، ثالث أكبر مدينة في فنزويلا. أظهر سكان هذه الكوميونة قدرة مذهلة على التكيف والابتكار في مواجهة الحصار الإمبريالي والعقوبات. كانت هذه الكوميونة في الأصل مصنع نسيج يقوم على الملكية الاجتماعية (ملك لعمّاله)، وبدلاً من تشكيل الكوميونة على الفور، جرت إعادة استثمار الفائض في المجتمع بالتوسُّع في إقامة مؤسسات قائمة على الملكية الاجتماعية، وهذا بدوره مكَّن أفراد المجتمع المحليّ من المشاركة بنشاط في عمليات صنع القرار وفهم السياق السياسي والاقتصادي الأوسع.
كانوا يدركون مدى خطورة الاعتماد على نشاط اقتصادي واحد، ولذلك وسّعوا أنشطتهم الاقتصادية التي شملت النسيج والمواد الغذائية وصناعة أعلاف الحيوانات ونشاطات أخرى، ما سمح لهم بتوليد مداخيل متعددة المصادر تساعد على تقليل مخاطر الحصار.
هناك أيضاً كوميونة Alí Primera الزراعية التي تقع في جبال ياراكوي شمال غربي فنزويلا. تشكَّلت هذه الكوميونة عام 2009 عندما بدأ تشافيز الترويج للكوميونات، وتضم اليوم أكثر من 4000 عائلة تعتمد بشكل أساسي على الأنشطة الزراعية التي تشمل القهوة والأفوكادو والموز والأناناس والفاصولياء ومحاصيل أخرى، فضلاً عن الحفاظ على اكتفائها الذاتي من المحاصيل الزراعية الضرورية للسكان.
للحصار والعقوبات عواقب وخيمة على الكوميونة تتلخَّص في إعاقة الوصول إلى الأسمدة والمبيدات ووسائل النقل، ومع ذلك تكيَّف سكان الكوميونة من خلال التحول إلى الزراعة العضوية، وتعلموا كيفية صنع الأسمدة العضوية وغيرها من المدخلات الزراعية الطبيعية، الأمر الذي قلل من اعتمادهم على الاستيراد. وتشارك الكوميونة بنشاط في تبادل تعاوني مع الكوميونات والمجالس الكوميونية الأخرى ما يتيح لها مشاركة المعرفة والموارد، وبذلك تضمن مرونة فعّالة في مواجهة الحصار.
وفي كوميونة El Panal التي أسستها قوات أليكسيس ڤيڤ الوطنية عام 2009 بكاراكاس، واجهت المنظمات المجتمعية تحديات كبيرة بسبب العقوبات الاقتصادية والحصار المفروض على البلاد. عانى سكان الكوميونة نتيجة الحصار من نقص الغذاء، ولمواجهة هذا التحدّي ركزت الكوميونة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء من خلال تحويل الأراضي الشاغرة والمساحات الترفيهية إلى حدائق نباتية ومزارع سمكية.
وعلاوة على ذلك، وسَّعَت الكوميونة نشاط تربية الحيوانات بما يضمن إنتاج الطعام محلياً، واتخذت خطوات لتحقيق الاستخدام الفعال للموارد المتاحة من خلال جمع المواد القابلة لإعادة التدوير ومعالجتها. بهذه الاستراتيجية استطاع أعضاء الكوميونة إلى حد كبير التغلُّب بشكل جماعي تعاوني على التحديات المترتبة على الحصار.
من المهم ملاحظة أن مقاومة الحصار أفضَت بالكوميونيين إلى حلول ابتكارية وفعّالة، ومع ذلك فإنها لا تقضي تماماً على التحديات التي تواجه الكوميونات، فبالرغم من أن الكوميونات تتمتع بالمرونة والقدرة على التكيُّف والتغلُّب على تحديات الحصار، فإن هناك تحديات أخرى تواجهها لا بد أن نتطرق إليها.
التحديات التي تواجه الكوميونات في فنزويلا
تواجه الكوميونات، وفقاً لتشافيز، خمس جبهات رئيسية: أخلاقياً، يجب أن يكون لدى الأفراد ضمير تجاه الواجب الاجتماعي في محاربة الأنانية والفردانية المتأصلة في الرأسمالية؛ اجتماعياً، يجب تنظيم المجتمع وفقاً لمبدأ "من كلٍ حسب قدرته إلى كلٍ حسب حاجته"، المساواة كأساس للمجتمع الاشتراكي؛ سياسياً، على السلطات الشعبيَّة أن تحقق مستويات أعلى من الحكم الذاتي المباشر والديمقراطي؛ اقتصادياً، على وسائل الإنتاج والأرض أن تكونا ملكاً للكوميونة، وأن يصاحب ذلك تبادل تجاري اشتراكي فيما بين الكوميونات؛ إقليمياً، على الاشتراكية أن تُبنى من الأسفل، من القواعد الشعبيَّة وصولاً إلى الأقاليم.
هناك العديد من التحديات التي يتضمنها هذا المسار الثوري الذي وضعه تشافيز بناءً على معطيات التكوين الخاص للمجتمع الفنزويلي والخبرة التاريخية الطويلة للشعب الفنزويلي، وعلى التنظيمات الشعبية والمجتمعات المحليَّة التي تُشكِّل الكوميونات أن تتغلَّب على هذه التحديات في المستقبل؛ لضمان استمرار السير في الطريق الصحيح واستكمال المهمات التاريخية للثورة البوليفارية في فنزويلا وخارجها.
أولاً، على صعيد التعليم السياسي والروحاني، يمكن للتعليم في النظرية الثورية أن يحافظ على الطبيعة التعاونية للمشروع، وأن يساعد في التغلب على العديد من المشكلات المتعلقة بالاشتراكية.
جميع الكوميونات تضم منظمات تعليمية تهدف في المقام الأول إلى تطوير ثقافة المقاومة وتعزيزها وتحصينها، بدءاً بتعلّم الكوميونيين لتاريخ فنزويلا ومحيطها الإقليمي العاصف بالتجارب التاريخية الحاسمة لفَهم ما هو الضروري اليوم، مروراً بالتعرُّف على الماركسية وقضايا الاقتصاد السياسي، وصولاً إلى التعاليم الدينية المرتبطة بمشروع التحرر والمستمدة من لاهوت التحرير. لطالما شدد تشافيز على هذه المسألة معتبراً أن الثقافة الكوميونية هي حجر الأساس، ولها أهمية في استمرار الثورة أكبر حتى من الكوميونات نفسها.
ثانياً، ليس على الكوميونيين أن يُعمِّموا نظام الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج في كل مكان وحسب، وإنما عليهم بالأساس أن يعززوا ويحافظوا على نظام الحكم الذاتيّ الديمقراطي الفريد من نوعه. هذا هو الضمان الوحيد الذي يوفِّر للكوميونيين قدرات فعالة في مواجهة المعارضة وقواعدها (التي تعارض الكوميونات وتستمر في وضع السياسات وتنفيذ المشاريع من دون مشاركة مجتمعية)، وحتى من هم في صف الثورة يعيقون تقدمها بعدم التعاون مع الكوميونات، ويؤكِّد في الوقت نفسه صواب بوصلة الطريق الذي يسير فيه المجتمع الفنزويلي.
ثالثاً، على صعيد التعاون بين الكوميونات، يجب أن يلازم التوسُّع في إقامة الكوميونات تعميق للتنسيق والوحدة بينها بحيث تتحوّل جميعها في النهاية إلى نظام وطني واحد شديد الترابط. وبالرغم من أن الكوميونات منتشرة في جميع أنحاء البلد، فإنها تظهر منعزلة إلى حد كبير عن بعضها البعض ما يجعلها ضعيفة في مواجهة الدولة والاقتصاد الرأسمالي، الأمر الذي يجعلها تقدِّم في أحيان كثيرة تنازلات عديدة للإنتاج السلعيّ، ومن ثم تصبح أكثر عرضة للإصابة بالتراتب الرأسمالي. يجب بَذل محاولات جادة لربط الكوميونات ببعضها من أجل إقامة تبادل تجاري فيما بينها، وتعزيز سلطاتها السياسية بما يضمن أن تشكل في المستقبل هذا النظام الوطني الموحَّد.
رابعاً، على صعيد العلاقة بين الكوميونات والدولة، سبق وذكرنا أن الكوميونة دائماً ما تكون في حالة من الدفع والجذب مع الدولة الفنزويلية، ومع ذلك فالكوميونة ليست مناهضة للدولة بشكل جذري، وإنما تفترض أن الدولة الفنزويلية تتعايش في الأساس بناء على علاقة جدلية مع عدد كبير من المجتمعات المحليَّة المنظَّمة والمحكومة ذاتياً. وبالرغم من مصداقية الحكومة وعزمها على استكمال مسار الثورة، فإن مؤسسات الدولة عارضت أحياناً تأسيس الكوميونات؛ هذا يؤكد الطبيعة الجدلية لعملية التغيُّر الاجتماعي الاقتصادي، ويعني أن على الدولة تقديم تنازلات للكوميونات مع تقدُّم العملية الانتقالية بحيث يمكن للمجتمع الفنزويلي أن يتجاوز الدولة في المستقبل بفضل القوى التي تشكِّل التنظيم الكوميونيّ.
خامساً، تلعب وزارة الكوميونات والحماية الاجتماعية، التي تأسست ضمن المشروع الثوري في عام 2009، دوراً بالغ الأهمية في تعزيز العلاقة بين الكوميونات من جهة، وبين الكوميونات والدولة من جهة أخرى، ومع ذلك يسمح وجود وزارة تضع سياسات موجهة نحو الكوميونات أن ترى مؤسسات الدولة الكوميونات وكأنها كيانات هامشية، ما يؤثر مباشرة بالسلب على الحكم الذاتي داخلها، غير أنه من السهل على المعارضة إذا ما وصلت إلى السلطة أن تُعطِّل جميع القوانين التي وضعت لتعزيز الكوميونات. كل هذا يفرض على الوزارة والدولة ككل أن تستمر في لعب هذا الدور الداعم من دون أن تعطي أي توجيهات سياسية للكوميونات، الأمر الذي سيحافظ على الحكم الذاتيّ الديمقراطي داخل الكوميونات ويعزز من استقلاليتها عن الدولة وأجهزتها.
تنطوي مواجهة الفنزويليين للحصار والعقوبات ومحاولات الانقلاب والشيطنة الإعلامية وحتى العمليات شبه العسكرية والاغتيالات على أمثلة مقاومة ابتكارية متجذرة في التراث الثقافي الفنزويلي؛ المحوريّ هنا – على الأقل بالنسبة إلي – أن مقاومة الطبقات الشعبية الفنزويلية للرأسمالية والحصار الإمبريالي تترك بلا شك آثاراً إيجابية وعميقة في جميع المقاومين للرأسمالية والإمبريالية في العالم.
والكوميونة، تحديداً، ليست شكلاً تنظيمياً ابتكره الفنزويليون، بل لديها جذور تمتد ليس فقط في تاريخ الثورة الاشتراكية (من كوميونة باريس حتى كوميونات الصين الشعبية)، وإنما تمتد جذورها أيضاً في تاريخ المجتمعات التعاونية التي وجدت قديماً في القارة اللاتينية وخاصة في مناطق السكان الأصليين. إنها شكل تنظيمي فريد من نوعه، ولأنها الحلقة الأساسية في مقاومة الفنزويليين للرأسمالية والإمبريالية، فعلى جميع مقاومي الرأسمالية والإمبريالية أن يلتفتوا إليها ويتعلموا منها.
إذاً، يعتمد مستقبل فنزويلا الاشتراكي على شبكة مجتمعات محليَّة تنتج بشكل تعاوني لتلبية احتياجاتها الذاتية، وتتقاسم فوائضها مع المجتمعات المحليَّة الأخرى عبر شبكة واسعة من العلاقات التضامنية غير السوقية.
كل ما سبق، وأكثر، يجعل الكوميونة نظاماً ذا تحكُّمٍ ذاتي موجّه نحو تحقيق رفاهية سكانه، وبرغم صغر حجم الكوميونة مقارنة بالأقاليم والدول، فإنها قابلة للتوسّع في حيِّز أوسع جغرافياً إذا جرى ربط مختلف الكوميونات ببعضها بما يشكِّل نظاماً وطنياً واحداً كما يؤكِّد تشافيز، لكنها تقترح أيضاً قابلية أكبر إلى التوسُّع إذا ما نظرنا إليها بصفتها واحدة من البدائل الحقيقية والفعالة للرأسمالية بصفتها نظاماً عالمياً يشمل المعمورة بأسرها.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :