بينما اعلن حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري امس من السعودية إن المصرف المركزي ينوي توفير منصة تداول جديدة من خلال بلومبرغ، أشار الأمين العام لجمعية المصارف فادي خلف في افتتاحية التقرير الشهري لجمعية مصارف لبنان، أنّ التعامل مع منصات عالمية يتطلب فترة طويلة من الزمن لوضعها موضع التنفيذ في لبنان. لكننا ننسى أو نتناسى بأنّ لبنان مجهّز بمنصة تعمل بنظام تداول عالمي اسمها "بورصة بيروت"، فهذه المنصة قادرة على تأمين التداول الطبيعي بالدولار عبر طرق شفافة وسهلة وفي فترة قصيرة جداً.
بورصة بيروت هي ثاني أقدم بورصة في المنطقة تمّ إنشاؤها في العام 1920 بمرسوم من المفوض السامي. والمُلفت في الأمر أنه في بداياتها، كان التداول عليها مُركّزا على الذهب والعملات وطالت لاحقًا أسهم تمّ التداول فيها في الوقت ذاته في بورصة بيروت وباريس وذلك في العام 1930. وزاد نمو البورصة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مع طرح أسهم مصارف وشركات صناعية وخدماتية للتداول، ووصل عدد السندات المطروحة للتداول الى خمسين.
الحرب التي عصفت بلبنان أجبرت البورصة عن الإنقطاع عن العمل إذ أقفلت أبوابها من العام 1983 وحتى العام 1996. وتم تحديث قوانينها لاحقًا كما وأنظمة التدوال فيها حيث تمّ إعتماد نظام يورونكست Euronext system، لكن التجاذبات السياسية وعدم الثبات الأمني وضعف الإصلاحات أبقى هذه البورصة في حالة ضعف على الرغم من عمرها الطويل.
وبحسب أستاذ الإقتصاد في الجامعة اللبنانية جاسم عجاقة، تهدف البورصات إلى تمويل الإقتصاد (Markets-Based Economy)، كما والتحوط من المخاطر(Hedging) التي قد تطال الوضعيات في البورصة كما وفي الإقتصاد عامة. ويُضيف أن البورصة تُعدّ خيارًا أخر للشركات وللدولة للتموّل. هذا الخيار يبقى من حصة الشركات التي تتأهل للعرض في البورصة، أما الشركات الأخرى فيتوجب عليها الإقتراض من المصارف أو ما يُعرف بالدائرة التقليدية.
ويُحدّد عجاقة في حديث لـ"لبنان24" خصائص جوهرية للبورصات يجب أن تتمتّع فيها لتصنيفها في خانة البورصات الحديثة وهي: كفاءة السوق ( market efficiency)، القدرة على خلق أدوات مالية إصطناعية(replication) ، وغياب فرص المراجحة (absence of arbitrage opportunity).
ويقول عجاقة أن بورصة بيروت فقدت عدة فرص لتطويرها وآخرها عدم قدرتها على لعب دور المنصة الإقليمية الذي تركته لبورصة دبي وذلك بحكم أنها كانت ولا تزال واقعة تحت سطوة القرار السياسي، ولكن أيضًا، ضعف الإقتصاد اللبناني بما يعني قلة الفرص الإستثمارية عامة، وضعف في عرض البورصة من ناحية أن الأدوات المالية المعروضة لا تسمح بتلبية حاجات المستثمرين، وعدم وجود الثوابت الأساسية للبورصات الحديثة. كل هذه العوامل تُؤثر على المستثمر المطلوب منه أن يدفع أموالاً لشيء زائف غير موجود (أي الأداة المالية) وهذا في حد ذاته يشكل خطراً كبيراً إذ لم يكن هناك من صدقية تطال البورصة.
عودة الحديث عن بورصة بيروت، أتى بعد الإفتتاحية لأمين عام جمعية المصارف فادي خلف الذي طرح استخدام بورصة بيروت لإدراج الليرة اللبنانية عليها بدل شراء منصة من بلومبرغ. وعدد خلف عددا من النقاط الإيجابية منها الكلفة الزهيدة التي ستتحمّلها الدولة، ونظام التداول، وسرية التداول، والتشابك مع المؤسسات المالية والمصارف وشركات الوساطة، وكلفة الإدراج على البورصة، وشفافية الأسعار التي يؤمّنها نظام التداول... وأضاف خلف أن هناك "إن خصوصيات في سوق الدولار في لبنان تتطلب تعديلات كبيرة على المنصات العالمية قد تأخذ وقتاً لا يستهان به كما تتطلب فترة تجربة وتدريب قد تطول، فيما بورصة بيروت مربوطة بعدد لا بأس به من المصارف التي تدرّب موظفوها على مدى عقود من الزمن على استعمال تقنياتها من دون أي شوائب، فلا حاجة إلى إضاعة الوقت بفترات من التدريب والاختبار".
وبناء على ما تقدم يرّحب عجاقة بإقتراح خلف ويُعطي أسبابا إضافية منها:
- تطوير بورصة بيروت من خلال تطوير سوق الأسهم (مثال خلق سوق للشركات الناشئة) وهو من يسمح بنقل الإقتصاد اللبناني من إقتصاد مموّل من المصارف (Banking-based Economy) إلى إقتصاد ممول من الأسواق (Markets-Based Economy)؛
- أهمية بقاء الليرة تحت سيطرة القوانين اللبنانية وهي عنصر سيادي جوهري. وبالتالي منع الإنزلاق الكبير في سعر الصرف بحكم إمكانية تعليق التداول في حال جدّ حدث سيء، في حين أن إدراجها على منصات غير خاضعة لقوانين الدولة اللبنانية يجعلها عرضة لهجومات من قبل بعض الصناديق وبالتالي يتوجّب الحذر فيما يخصّ أي إدراج خارج إطار القوانين اللبنانية؛
- الأخذ بعين الإعتبار خصوصية الوضع اللبناني من ناحية تداول الليرة في مُقابل الدولار الأميركي في السوق اللبناني والذي لا يُمكن تركه لمزاج السوق بالكامل نظرًا إلى المضاربة والتجاذب السياسي وغياب الإصلاحات؛
- إمكانية تحويل الإقتصاد اللبناني من إقتصاد نقدي إلى إقتصاد طبيعي يعتمد على التعاملات الإلكترونية وهو ما يُخفف من شبهات تبييض الأموال ويُحسّن من إيرادات الدولة؛
- إعادة إحياء دور المصارف والشركات المالية وشركات الوساطة كوسطاء في هذه العملية، وهو ما يعني زيادة إحتمال عودة الودائع؛
- وإستطرادًا تأمين سيولة للأدوات المالية (من بينها الليرة مُقابل الدولار) على بورصة بيروت.
لكن عجاقة يشترط عددًا من الإجراءات التي يجب إقرارها لنجاح عملية إعادة إحياء بورصة بيروت وإدراج الليرة مُقابل الدولار عليها:
- خصخصة بورصة بيروت على أن يتمّ إدراج أسهمها على البورصة نفسها؛
- التعاون مع هيئة الأسواق المالية لتطوير هذه البورصة بشكل ذكي يتماشى مع متطلبات وضع الإقتصاد اللبناني والإقليمي كما ومع التطلعات المستقبلية؛
- زيادة الأدوات المالية المعروضة عبر طرح أدوات تطال الأسهم، السندات، الأدوات النقدية (للشركات أيضاً)، المشتقات والتي تزيد بدون أي شك السيولة في السوق وتسمح بالتحوّط من المخاطر؛
- خلق سوق جديدة للشركات الصغيرة التي لا تستطيع الحصول على قروض من المصارف؛
- التوقيع مع بعض البورصات كـ Euronext على طرح عقود بأجل على الغاز (ICE) والنفط (WTI) مما يسمح لنا بكسب الخبرة الضرورية لطرح أدوات على الغاز والنفط اللبناني عند إستخراجهما؛
- التوقيع مع بعض الدول على إتفاقيات تسمح للدول التي تتمتّع بتصنيف إئتماني أعلى من (AA)؛ أن تقوم بطرح أسهم وسندات سيادية وتابعة للشركات إضافة إلى العكس؛
- العمل على زيادة الثقة بالسوق اللبناني من باب الشفافية وملاحقة المخالفات (دور هيئة الأسواق المالية) كما وإجرائ إصلاحات إقتصادية ومالية ونقدية مطلوبة بقسم كبير من قبل صندوق النقد الدولي؛
- تشجيع المستثمرين وخصوصاً اللبنانيين منهم على الإستثمار في السوق اللبناني بدل الإستثمار على منصات المراسلين الأجانب؛
- وضع قوانين تُلزم الشركات (خصوصًا النفطية) إستثمار ما يوازي 5% من أرباحها في لبنان، وذلك إحتراماً لمبدأ التطور المتوازي مع إعطاء تسهيلات ضريبية على الأرباح في البورصة.
إذًا ومما تقدّم نرى أن بورصة بيروت تُشكّل فرصة ليس فقط للّيرة اللبنانية لكن أيضًا للإقتصاد اللبناني، وهناك عمل كبير ينتظر هذه البورصة الذي يبقى قرار تطويريها بيد القرار السياسي حصريًا. فهل ستسمع السلطة السياسية لرأي الخبراء على هذا الصعيد؟
نسخ الرابط :