يواجه حاكم مصرف لبنان بالوكالة، النائب الأول للحاكم، وسيم منصوري تحدّياً غير مسبوق منذ 1 آب، تاريخ استلامه للمهمّة الجديدة بعد انتهاء ولاية رياض سلامة الذي أورث خَلَفه كما اللبنانيين تركة ثقيلة جداً تنوء بها الجبال.
يعرف منصوري انّه وُضع تحت المجهر وانّ هناك من يريد أن يضعه تحت المقصلة، ولذلك فهو كان يسعى، قبل استلامه الحاكمية، إلى تأمين شبكة حماية سياسية وقانونية له وللمصرف، تقيهما من مخاطر الأعيب الطبقة السياسية التي تحترف التحايل على الحقائق والوقائع، ويمكن ان «تضحّي» به بكل بساطة لشراء مزيد من الوقت على قاعدة تقطيع المرحلة كيفما كان وبأي كلفة، ومن بعدنا الطوفان.
يدرك منصوري انّ المجازفة كبيرة وانّه بمن وما يمثل في بلد التصنيفات المذهبية والطائفية، يخوض تحدّي إثبات القدرة على إدارة أهم مركز نقدي - مالي في الدولة اللبنانية ومنع حصول مزيد من الانهيار في سعر الصرف، وسط بيئة عامة غير صالحة وغير آمنة، يملؤها الكيد والنكد، وهو بالتأكيد لا يريد أن تحرقه هذه التجربة ولا أن يترحّم الناس على حقبة سلامة المنتهية بالمقارنة مع ايامه.
ويوحي منصوري بأنه لم يستلم موقع الحاكم للاستمرار في إدارة الأزمة، بل هو تصرّف والنواب الآخرون على قاعدة تحويل التهديد الى فرصة، وبالتالي عدم الاكتفاء بتصريف الأعمال في البنك المركزي وإنما البناء على خروج سلامة لتغيير السياسات النقدية الملتوية التي كان يعتمدها، والتأسيس لمرحلة جديدة تحكمها الضوابط القانونية وتحمي ما «نجا» حتى الآن من أموال المودعين.
وانطلاقاً من هذه المقاربة، طرح منصوري والنواب الآخرون خطة اصلاحية ترمي إلى الخروج المتدرج من دهاليز سلامة وسياسات الحكومات المتعاقبة، بدءاً من تأمين التغطية القانونية لإنفاق مصرف لبنان على الاحتياجات الضرورية للدولة، ضمن فترة محدّدة وانتقالية، على أن تعمد الحكومة الى سداد القرض بعد حين، وصولاً الى إقرار موازنة وقوانين إصلاحية تنهي عصر الفوضى المالية والنقدية.
دلّ منصوري الحكومة على الوسائل الممكنة والعملية لتتكّل على نفسها وتزيد إيراداتها، من دون أن يقطع عنها التنفّس الاصطناعي عبر «أوكسيجين» الاقتراض بين ليلة وضحاها، فوافق على الاستمرار في تمويل نفقاتها الالزامية لأشهر قليلة، انما على أساس تأمين التشريع القانوني لهذا التمويل وتعهّد الحكومة بأن تعيد الدين خلال مهلة محدّدة.
حصل منصوري ورفاقه بعد التلويح الشهير بالاستقالة على تطمينات وضمانات بأنّ ما يطلبونه سيتحقّق، ولكن سرعان ما بدأ التنصّل من الاتفاقات والتعهّدات عندما حان أوان تسييلها.
ولعلّ اكثر ما يخشاه منصوري ان يكون قد حصل على شيكات من دون رصيد، وان يظهر انّ الإيجابيات التي أوحى بها بعض مَن في السلطة عشية رحيل سلامة تفتقر إلى «السيولة» السياسية، وسط محاولات لتضييع المسؤوليات ورميها من مكان إلى آخر.
بهذا المعنى يشعر منصوري بأنّه تُرك وحيداً في لحظة الحقيقة، بعدما فعل ما يتوجب عليه من تحمّل للمسؤولية وعدم الاستقالة ووضع سياسة نقدية متوازنة ومتزنة وضبط سعر الدولار الذي كان يتخوّف البعض من انفلاته، فيما تنكّر الآخرون لواجباتهم وأنكروا التزاماتهم حتى قبل صياح الديك.
ويؤكّد العارفون انّ منصوري لوّح أمس بالتوقف عن تمويل الدولة كلياً من مصرف لبنان إذا لم يتوافر التشريع اللازم، في ما يبدو أنّه نوع من الضغط على القوى السياسية لإقرار قانون تغطية الإنفاق، وهو أبلغ القريبين منه بأنّه لن يهتز ولن يتأثر بأي تهويل لثنيه عن خياراته ودفعه الى مواصلة سياسة الخضوع لطلبات السياسيين، مرّة بالمونة ومرة أخرى بالضغط، كما كان يجري في حقبة سلامة.
ويوضح المطلعون انّ منصوري يعتمد حالياً استراتيجية تستند إلى الركائز الآتية:
- الانسحاب التدريجي من ميدان الإنفاق على متطلبات الدولة لحماية ما تبقّى من ودائع وتثبيت الاستقرار النقدي، وبالتالي لا مجاملات في الصرف وكذلك لا صرف من دون تدقيق.
- محاولة ضبط سعر الليرة من دون المساس بالاحتياطي الالزامي. وقد نجح خلال الأيام الأولى لتولّيه الحاكمية في إبقاء الدولار مستقراً خلافاً لكل التوقعات، على الرغم من التوتر الأمني في مخيم عين الحلوة والمراوحة السياسية.
- تسديد رواتب موظفي القطاع العام على أساس منصّة صيرفة لئلا يكونوا ضحية التصحيح المالي كما كانوا ضحية الإخفاقات.
- مراعاة مطالبات القوى العسكرية والأمنية لحماية الاستقرار الداخلي.
- اعتماد الشفافية في إدارة البنك المركزي وعرض الأرقام المتعلقة به على الملأ. وعُلم في هذا الإطار انّ منصوري في صدد الكشف عن موجودات العملة الصعبة واحتياط الذهب، لتبيان ما له وما عليه عندما يسلّم موقعه الى حاكم أصيل.
ويأمل منصوري في أن تتخلّى بعض القوى السياسية عن الشعبوية والمزايدة في سلوكها، وان تقتنع بأنّه لم يعد ممكناً لها الاستمرار في «طعجة» الصرف غير المقونن، وانّ لا بدّ من إقرار الإصلاحات التي توقف الاعتماد على مصرف لبنان.
وإذا كانت سوق النقد قد تجاوزت بسلام حتى الآن صدمة عدم تعيين حاكم أصيل، واذا كان منصوري قد وُفّق في «ترويض» الدولار لغاية اليوم، فلا يجب الاطمئنان الى انّ الخطر انتهى، ولا تجوز المجازفة بالثبات النقدي الظرفي المتحقق، لأنّ هذا الستاتيكو سينهار ما لم تتمّ مواكبته بمعالجات جذرية تطوره نحو حلول مستدامة.
نسخ الرابط :