جرود بشري تحدّها جرود بعلبك – الهرمل والضنيّة والكورة، إضافة إلى حدود القضاء ساحلياً مع إهدن الزغرتاويّة. رغم ذلك، فإن القضاء الماروني «القح» أشبه ما يكون بـ«قوقعة» مغلقة على نفسها. يتغنّى «البشرّانية» بـ«فينيقيّتهم» وإصرار أجدادهم على استخدام اللغة الآراميّة حتّى القرن التاسع عشر، ما جعل لهم لكنة خاصّة تخالطها خشونة تشبه التضاريس التي تحيط بهم.
الالتزام الديني هنا خط أحمر كما يتضح من وجود عشرات الأديرة والمزارات الدينية، ومن اختناق الكنائس بالمصلين أيام الآحاد، ومن المفردات التي تجري على ألسنة الناس، كـ «أهلا بربّك» أو «العدرا معنا».
على عكس الصورة المتخيّلة، يندر وجود صور أو شعارات لحزب القوات اللبنانيّة. إذ إن معظم «البشرّانية» مرتبطون عضوياً وعاطفياً برئيس الحزب سمير جعجع، لكن قلّة منهم من الملتزمين حزبياً. قرار «الناسك» قطع حبل السرّة مع مسقط رأسه والسّكن على تلّة معراب تبرّره «الاعتبارات الأمنيّة» بالنسبة إلى البعض، وإن على مضض، لأنه يخلق صعوبة في التواصل المباشر على عكس حال بقية الزعماء. أمّا المسيّسون منهم فيهمسون بلائحة طويلة من الهزائم السياسيّة منذ رفضه مخايل الضاهر نهاية الثمانينيات إلى قبوله بميشال عون رئيساً للجمهوريّة عام 2016.
«فوقية ستريدا»
خيبة أمل هؤلاء بدأت مع امتناع جعجع «الموزون» عن مراجعة أداء ستريدا خلال فترة سجنه. بالنسبة إليهم، فإنّ «سيّدة بشري» مارست «التقيّة السياسيّة» و«تخاذلت» في كثير من الأحيان خلال «الاحتلال» السوري للبنان لحماية زوجها في السجن، و«حوّلت جوهر الحزب من دفاعٍ عن القضيّة إلى دفاع عن الشخص». لكن، بدل أن يُعيد جعجع العاتبين إلى تحت عباءة «القوات»، أطلق يد ستريدا في متابعة أمور بشري «التي لا يتدخّل فيها أبداً». ومع أن من الطبيعي أن تُتابع شؤون المنطقة التي تمثّلها والتي ولدت وترعرعت فيها، إلا أنّ عدداً لا يُستهان به من المقربين من «القوات» لا يستسيغون الأمر؛ البعض يمتعض بخجل كُرمى لـ«تضحيات» جعجع، فيما البعض الآخر «هشل».
طوق يستعيد مقعد أبيه
الملاحظات التي يسردها هؤلاء بصوتٍ منخفض حول «سيّدة بشري»، غالبيّتها حول تعاطيها الفوقي وشحّ الخدمات وقلّة المتابعة لشؤون المنطقة، ما أدى إلى تراجع «قواتي». ويلفتون إلى أنّ نتائج الانتخابات النيابيّة الأخيرة في القضاء تؤكد ما يقولونه، بعدما نجح وليام طوق في اختراق «قلعة القوات» ودخلها نائباً على حساب نائب «حزب جعجع»، مسترجعاً مقعد والده الذي خسره بعد عودة القوات إلى الحياة السياسيّة إثر خروج جعجع من سجنه، رغم أن أنصار القوات يعودون إلى الأرقام لتأكيد تقدّم حزبهم، ويتهمون «لعبة الحواصل» بتقديم طوق النجاة لطوق.
ولكن، أياً يكن الأمر، نجح «الشيخ» في إثبات حيثيّة شعبيّة «لا بأس بها» على أرض خصومه، وتحديداً ابنة عمّه ستريدا. يؤكد «بشرّانيون» أنّ «الرجل يُتابع الشاردة والواردة» في «مدينة جبران خليل جبران»: إعادة تشغيل الطاقة الكهرومائية من معملٍ على نهر قاديشا أمّن لبشري أكثر من 18 ساعة كهرباء يومياً، وكان ضربة معلّم لطوق على حساب ستريدا.
كذلك يُحسب لطوق، بحسب أهالي المنطقة، أنّه قريب منهم. لا يفوّت فرصة لمشاركتهم أفراحهم وأتراحهم وصلاتهم، و«التواصل معه سهل لأنّ أبواب منزله مفتوحة»، على عكس طول المسافة من بشري إلى معراب. فيما يلفت خصومه إلى أنه «ابن منزل جبران طوق المفتوح»، لكن ذلك لن يُترجم حيثيّة شعبيّة يُركن إليها، ويأخذون عليه «رماديّته والتباس مواقفه ورمي نفسه في أحضان الممانعة»، ما يحدّ من شعبيّته في «القلعة القواتيّة».
غياب الإنماء
التنافس على الخدمات بين «القوات» وطوق لم يحل دون بقاء بشري خارج المدن التي تعيش ازدهاراً إنمائياً. سمعتها في الخارج، لا تُشبه واقعها. أبناؤها يرفضون تحميل هذه المسؤولية إلى «حزب جعجع»، باعتبار أنّ «القوات» قامت بما عليها على مرّ السنوات السابقة، فيما الوجود السوري ضيّق عليها لاعتبارها امتداداً سياسياً لـ«الشرقيّة» فأكلت نصيبها باستبعادها عن الخدمات الإنمائيّة.
يُشير أحد أبناء المنطقة إلى الأوتوستراد الذي يربط المدينة بقرى القضاء نزولاً إلى الكورة، ليؤكّد أنّه أحد إنجازات «القوات»، إضافة إلى إنجازات كثيرة لتحسين البنى التحتيّة. لكن، على يسار الأوتوستراد، طُرقات قديمة بعضها يربط بشري بالأرز، لا تزال على حالها منذ فُتحت في عهد الانتداب الفرنسي. القادم إلى بشري من زغرتا تضيق به الطرقات الواسعة تدريجاً حتّى يُصبح ممرّ السيارات بين الجبال على «القدّ» الفاصل مع وادي قاديشا.
غياب التحسينات في البُنى التحتيّة ليس وحده ما يحزّ في نفوس «البشرانيّة»، وإنّما انعدام الازدهار الاقتصادي لواحدة من أجمل البلدات اللبنانيّة، بجبالها وجرودها وأوديتها. بعض أبنائها قرّر في الآونة الأخيرة المُخاطرة وافتتاح مشاريع اقتصاديّة صُغرى، كالمطاعم والمقاهي، حرّكت اقتصادها بعض الشيء، وإن كانت هذه المشاريع معرضة لإقفال أبوابها أشهراً طويلة في الشتاء.
سوى ذلك، لا يزال معظم أهالي بشري يعتاشون من زراعة التفّاح في الأراضي الجرديّة، وبعض أنواع الخضر والفواكه. من الزراعة، علّم هؤلاء أبناءهم ما رفع نسبة الحائزين على شهادات جامعيّة عُليا في البلدة مقارنةً مع قرى المنطقة. لكن، بدل أن تنتعش بشري بمتعلّميها، تحوّل هؤلاء بمعظمهم إلى «نازحين» في بيروت أو مهاجرين إلى أستراليا وكندا والولايات المتحدة خلال الحرب وبعدها. أما من رفضوا الانسلاخ عن مسقط رأسهم فباتوا قلّة، إذ لا يتعدّى عدد القاطنين في البلدة أكثر من 6 آلاف شخص، فيما يرتفع العدد إلى أكثر من 15 ألفاً خلال فصل الصيف والعطل.
نسخ الرابط :