د. عصام نعمان*
شنّت «إسرائيل» على مخيم جنين عملية عسكرية، برية وجوية، باسم «منزل وحديقة» دامت نحو يومين، خرّبت خلالها منازل وحدائق كثيرة وصفّت 10 شهداء، بينهم ثلاثة مدنيين عزّل.
عسكرياً، العملية باءت بفشل ذريع. ففي صبيحة اندلاعها، دعا غيورا أيلند، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي، الى «وجوب إنهاء العملية قبل أن تتعقّد عملانياً» (صحيفة «يديعوت أحرونوت»، 2023/7/4). العملية سرعان ما تعقّدت عملانياً بالفعل بدليل أنّ القوات المهاجمة لم تتمكّن من تحقيق ما خططت له وهو «ضرب أكبر عدد ممكن من البنى التحتية ونشطاء الإرهاب» (ايّ المجاهدين).
معارضو حكومة نتنياهو تلذّذوا في نقدها والسخرية منها. المحلل السياسي آفي يسخروف وصف العملية بأنها «أشبه بإعطاء مريض ميؤوس من شفائه حبة اسبرين» (صحيفة «يديعوت احرونوت»، 2023/7/5). المحلل السياسي تسني برئيل نعتَها بأنها «ليست أكثر من حبة مهدّئ للمستوطنين» (صحيفة «هآرتس»، 2023/7/5). وحدها عميرة هاس، المراسلة اليسارية للصحيفة نفسها كشفت الحقيقة بقولها «إنّ اقتحام جنين هو مقدمة لتجديد الاستيطان في شمال الضفة».
تزامنت عملية جنين الفاشلة مع مناورةٍ صهيونية لافتة صمّمت لتكون بمثابة ردٍّ على المقاومة في فلسطين المحتلة، كما على المقاومة في لبنان التي كانت قامت بتركيز موقعين عسكريين في المنطقة اللبنانية المحتلة من مزارع شبعا. فقد أقدم العدو الصهيوني على ضمّ القسم الشمالي اللبناني من بلدة الغجر الحدودية، وذلك بتطويقها بسياج حديدي عَزَلها عن امتدادها الجغرافي الى الأراضي اللبنانية.
العدو أراد الإيحاء الى الفلسطينيين عموماً بأنّ حركته الاستيطانية متواصلة، لا سيما في شمال الضفة الغربية. كما تقصّد الإيحاء الى لبنان، حكومةً ومقاومةً، بأنّ أي خطوةٍ لتحرير منطقتي مزارع شبعا وكفرشوبا المحتلتين سيجابهها بشدّة.
المقاومةُ في فلسطين لم ترتدع إذ سرعان ما قام فدائي من مدينة الخليل جنوبي القدس بالتوجه الى عمق تل أبيب والقيام بدهس لا أقلّ من عشرة صهاينة، كما قام فدائي آخر ينتمي الى «حماس» بمهاجمة مستوطنة «كدوميم « وتصفية أحد الجنود الإسرائيليين. واللافت أنّ «حماس» ضمّنت بيان تبنّيها للعملية المذكورة تهديداً مباشراً وطريفاً لأحد أبرز دعاة الاستيطان وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش بقولها «قد يطرق القسّام باب بيتك»!
في لبنان، توخّت المقاومة الردّ على تهويلات «إسرائيل» العدوانية بشأن موقعي المقاومة في مزارع شبعا المحتلة باستخدام الوسائل السياسية. فقد طالَبت الحكومة والأحزاب السياسية والمؤسّسات الأهلية بأن تتحمّل مسؤولياتها داخلياً، والأمم المتحدة وقوات الطوارئ الدولية «يونيفيل» العاملة في الجنوب بأن تتصرّف في إطار اعترافها بأنّ القسم الشمالي من بلدة الغجر جزء من الأراضي اللبنانية ما يستتبع ضرورة الجهر برفض الأمر الواقع الإسرائيلي وإعادة الوضع الى ما كان عليه وفق منطوق قرار مجلس الأمن الدولي 1701 للعام 2006.
ماذا لو تجاهلت «إسرائيل» حتمية ردّ لبنان والمقاومة على اعتداءاتها وتهويلاتها، واحتمال تدخل الأمم المتحدة لإعادة الوضع إلى ما كان عليه إنفاذاً للقرار 1701؟
ثمة حقائق واعتبارات عدّة يتعيّن على جميع الأطراف أخذها في الحسبان. ففي أواخر الشهر الحالي يقتضي أن يجدّد مجلس الأمن الدولي مهمة قوات الطوارئ الدولية «يونيفيل» العاملة في الجنوب ما يستوجب معرفة موقف جميع الأطراف المعنيين. مع العلم انّ لبنان، ولا سيما المقاومة، يشدّدان على ضرورة انسحاب «إسرائيل» من جميع الأراضي اللبنانية التي تحتلها على طول الحدود مع فلسطين المحتلة. «إسرائيل» تتذرّع بأنّ منظمات فلسطينية تقوم، برعاية حزب الله، بقذف صواريخ من الأراضي اللبنانية على مستوطناتها في الجليل. الولايات المتحدة تقوم، من جهتها، بجسّ النبض لمعرفة ما اذا كان بإمكانها القيام بوساطة عبر الأمم المتحدة لترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين التي تحتلّ «إسرائيل» مناطقها الشمالية المتاخمة للبنان. أخيراً وليس آخراً، حزب الله يتوخى في اتخاذ الموقف والقرار اللازمين في هذا الخصوص التزامَ هدفين استراتيجيين: الأول، إصراره على تحرير جميع الأراضي المحتلة التي تعتبرها الحكومة لبنانيةً بموجب المعاهدات والمواثيق والقرارات الدولية ذات الصلة. الثاني، إصراره على مساندة المقاومة الفلسطينية في صراعها مع العدو الإسرائيلي، كما التزامه قرارات محور المقاومة.
في هذا السياق تقتضي الإشارة الى أمر بالغ الدلالة هو أنّ المقاومة في لبنان كما في فلسطين لن تتردّدا في استخدام القوة ضدّ العدو الإسرائيلي اذا اقتضت متطلبات الصراع المتصاعد ضده. ذلك أنّ كلتيهما باتتا تمتلكان ميّزتين بالغتي الأهمية هما إرادة القتال القاطعة لدى أفراد وجمهور ومنظمات المقاومة في البلدين، وامتلاكها فوق ذلك بعض الأسلحة المتطورة اللازمة للردّ على العدو وحمله على الانكفاء والارتداع.
ليس أدلّ على صحة هذه المقولة من نتائج الصراع بين حزب الله و«إسرائيل» من جهة و«حماس» و«الجهاد الإسلامي» وسائر فصائل المقاومة الناشطة في قطاع غزة والضفة الغربية من جهة أخرى منذ مطالع الألفية الثالثة.
حزب الله تمكّن بوحدات مقاومته الفاعلة من إلحاق الهزيمة بالكيان الصهيوني في حرب العام 2006 وحمله على الرضوخ لقواعد اشتباك جديدة حققت للمقاومة ميّزة توازن الردع مع العدو. المقاومة الفلسطينية، بكلّ فصائلها، لم تنجح فحسب في حماية قطاع غزة، بل أفلحت أيضاً في نقل الصراع ضدّ العدو الى الضفة الغربية وأحبطت كلّ عمليات العدو لصدّها واحتوائها.
صحيح أنّ «إسرائيل» أقوى بالمعيار الكمّي من فصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية مجتمعةً، لكنها أضعف منها بالمعيار النوعي الإرادي. وعليه، لا غلوّ في الاستنتاج على ضوء نتائج حرب 2006 وتداعياتها اضطرار «إسرائيل» السنة الماضية للرضوخ الى موجبات ترسيم حدود لبنان البحرية التي تحتوي مكامن النفط والغاز في مياهه الإقليمية المحاذية لفلسطين المحتلة. كما لا غلو في الاستنتاج أيضاً أنّ إخفاق «إسرائيل» في لجم المقاومة الفلسطينية في غزة أدّى بفعل توافر إرادة القتال ومواصلته الى نجاحها في نقل الصراع المسلح الى مناطق فلسطين التاريخية من النهر الى البحر.
في ضوء هذه الواقعات والأمثولات، وكان أخيرها، وليس آخرها، الانتصار في معركة جنين، يصحّ الاستنتاج بموضوعيةٍ ورصانة أنّ ميزان الإرادات لدى كلٍّ من المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية بات أفعل من ميزان القوى في الصراع مع العدو الصهيوني.
*نائب ووزير سابق.
نسخ الرابط :