بعد مذكرة التوقيف الفرنسية، أصدر القضاء الألماني أمس مذكرة توقيف بحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للاشتباه في ارتكابه جرائم فساد تتضمن غسل أموال وتزويراً واختلاساً. المذكرة الأوروبية الثانية تزيد من قتامة الصورة السوداوية للحاكم وربما ترخي ظلالاً غير إيجابية على الواقع المصرفي والنقدي. ففي وقت تدفن حكومة نجيب ميقاتي رأسها في الرمال، بدأت مصارف أوروبية عدة قطع علاقتها مع المصارف اللبنانية، ولو بشكل فردي ومن دون تنسيق على مستوى أعلى بعد. غير أن التوقعات تُرجّح أن تكرّ السبحة عاجلاً أم آجلاً لتشمل مصارف المراسلة في أوروبا، في ظل ما يتردد عن قرب إدراج مجموعة العمل المالي FATF لبنان في القائمة الرمادية، ما يضرب سمعة الدولة ويحول دون تعامل أي مؤسسة خارجية مع المصارف اللبنانية مع تصنيف لبنان ضمن البلدان الخطرة المتهمة بتبييض الأموال. علماً أن مجموعة العمل المالي تنسق مع هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، والتي يرأسها سلامة نفسه المتهم بتبييض الأموال واختلاسها.
وبحسب مصادر مصرفية مطلعة، تلقّى المصرف المركزي إشعاراً من مصرف أوروبي كبير بقراره وقف التعامل مع ثلاثة مصارف لبنانية لعدم جني أي أرباح جراء هذه العلاقة، غير أن «هذه قد تكون مجرد ذريعة، وقد يكون الدافع وراء القرار الأحداث القضائية المتسارعة وملاحقة الإنتربول لسلامة».
وأوضح المستشار المالي والنقدي غسان شماس لـ«الأخبار» أن مصارف أوروبية في هولندا وبلجيكا والسويد وبقية الدول الاسكندينافية اعتمدت، بشكل فردي، سياسة De-risking لإنهاء أو تقليص تعاملها مع المصارف التجارية اللبنانية. وتُعتمد سياسة الـ De- risking كإجراء احترازي في حالات عدة، من بينها التخوف من عدم تحقيق أرباح أو السمعة السيئة جراء التورط في عمليات تبييض أموال. لذلك، تفضل هذه المصارف تفادي «وجع الرأس». إلا أن الخشية تكمن في أن تتحول هذه القرارات الفردية إلى كرة ثلج تشمل كل المصارف كما يحدث عادة.
ولفت شماس إلى أنه اختبر الأمر شخصياً قبل أسبوعين عندما حاول تسديد فاتورة في هولندا، فرفض المصرف الهولندي تسلّم الحوالة وأعادها إليه لأن مصارف لبنان باتت على القائمة الرمادية، ما يجعل من قرار بنوك المراسلة وقف تعاملها مع المصارف المحلية قاب قوسين، رغم أن مصارف المراسلة لا تتحمل أي مخاطر طالما أن احتياطات المصارف المحلية مودعة لديها.
وخلافاً لما يُشاع، فإن مصارف المراسلة الأوروبية مهمة بالنسبة للبنان ولو أنها ليست بحجم تلك الأميركية. إذ إن كل تعامل باليورو يمرّ عبر أوروبا، ما سيلقي بثقله على المصارف التجارية وعلى الأفراد الذين سيجدون صعوبة، إن لم يكن استحالة، في إجراء تحويلات مالية إلى كل البلدان الأوروبية أو تلقي تحويلات منها. وفي حال لم تعمد الدولة، بمصرفها المركزي ومصارفها التجارية، إلى تطبيق إصلاحات لإعادة النهوض بالقطاع المنهار والسيئ الصيت، فإن تصنيفها سينتقل من اللائحة الرمادية إلى اللائحة السوداء.
مذكرة توقيف ألمانية
وبعد أسبوع على إصدار القاضية الفرنسية أود بوروزي مذكرة اعتقال بحق الحاكم، أصدر القضاء الألماني مذكرة مماثلة بالتهم نفسها، بناء على ملف أعدّه المدعي العام في دائرة ميونيخ الأولى، والذي كان حضر كل الاستجوابات التي أجراها الوفد القضائي الأوروبي في لبنان.
وعلمت «الأخبار» أن ألمانيا بدّلت صفة سلامة و5 شركاء له من مشتبه فيهم إلى متهمين منذ تشرين الثاني الماضي بعدما تثبّتت من الجرائم المرتكبة على أراضيها. والشركاء الخمسة هم: رجا سلامة، ندي رياض سلامة، مروان عيسى الخوري (ابن شقيقة سلامة)، ماريان الحويك وغبريال إميل جان (يتولى إدارة شركات مملوكة من آل سلامة). علماً أنه، بخلاف باريس، لا وجود لقاضي تحقيق في ألمانيا، وقد يعمد المدعي العام إلى تحويل المتهمين إلى المحكمة مباشرة. واستند القضاء الألماني إلى المادة 261 من قانون العقوبات لطلب التعاون من لبنان بداية، ثم إجراء التحقيقات مع سلامة. كما استند إلى المادة نفسها لإصدار مذكرة التوقيف. وتبلغ عقوبة المتهم بهذه المادة من 6 أشهر إلى 10 سنوات سجناً في الحالات الشديدة الخطورة، وهي عندما يتصرف الجاني بشكل احترافي أو كعضو في عصابة تكرر جريمة غسيل الأموال. ووفق المعلومات، فقد ثبت استخدام سلامة الاقتصاد الألماني لتبييض أمواله المختلسة، مع الشركاء الخمسة، في ثلاثة أماكن مختلفة من ألمانيا.
خشية من أن تتحول القرارات الفردية إلى كرة ثلج تشمل كل المصارف كما يحدث عادة
إلى ذلك، فإن التحقيقات لم تنته بعد، وينتظر القضاء الألماني استجابة لبنان لطلب كشف حسابات رجا سلامة بشكل مفصل، أي كل حركة الحسابات بما فيها لمن ذهبت الأموال المدفوعة وأسماء أصحاب الحسابات أو الشركات المحوّل إليها. كما طالب الألمان، بمفعول رجعي يعود إلى 1/1/2001، بكل التحويلات التي تتعدى مبلغ 10 آلاف دولار. واستندوا إلى القانون رقم 306 الصادر في 3/11/2022، أي قانون السرية المصرفية المعدّل في عهد رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، والذي استخدمته القاضية غادة عون في تحقيقاتها مع المصارف فأحيلت إلى المجلس التأديبي لذلك. وبحسب المعلومات الواردة من ألمانيا، يشمل الطلب حسابات لرجا سلامة في مصرف الاعتماد اللبناني وبنك الاعتماد المصرفي وبنك الموارد وبنك بيبلوس وBLC وBBAC وبنك ميد وبنك عودة. عدد هذه الحسابات والـI-Ban في كل المصارف يبلغ نحو 200 حساب منها 82 في مصرف الاعتماد اللبناني. علماً أن رئيس مجلس إدارة الاعتماد اللبناني صرّح في التحقيق معه أمام القاضي جان طنوس أنه لم يعرف رجا سلامة ولم يسمع به ولا بشركة «فوري»!
وعلم أن التحقيق الألماني لا يزال مستمراً، وينتظر الرد اللبناني ليشمل آخرين. إذ إن الوفد القضائي الألماني الذي حضر في وقت سابق إلى لبنان طلب الاستماع إلى شهود كثر، وموظفين سابقين وحاليين في المصرف، من بينهم: محمد بعاصيري، ناصر السعيدي، أحمد جشي، بطرس كنعان، نعمان ندور، رولا خوري، رجا أبو عسلي، خليل غلاييني، رائد شرف الدين، محمد الحسن. كما طلب الاستماع إلى رؤساء مجالس إدارات مصارف كمروان خير الدين وريا الحسن وسمير حنا؛ وشركاء للحاكم كشقيقه رجا ومساعدته الحويك. وبحسب المصادر القضائية، فإن مدعي عام دائرة ميونيخ الأولى كانت أقسى من بوروزي خلال التحقيق مع رجا ورفعت نبرة صوتها في وجهه خلال الاستجواب.
جدل حول موقف واشنطن من الحاكم
تفسيرات متناقضة أُعطيت أمس لتصريح الناطق باسم الخارجية الأميركية بأن «من المهم أن تحترم الحكومة اللبنانية العملية القائمة لتعيين حاكم جديد لمصرف لبنان»، بين من رأى فيها دعوة لحكومة تصريف الأعمال إلى تعيين بديل لرياض سلامة بعد انتهاء ولايته، وآخرين اعتبروا أن واشمطن رفعت حمايتها عن الحاكم. وقال الناطق باسم الخارجية إنه «مع احترامنا للتقرير الصادر عن شركائنا الألمان، ونترك لهم الشأن بالتعليق عليه كما فعلنا عند صدور التقرير الفرنسي خلال الأسبوع الماضي، نرى أنه يعود للحكومة اللبنانية اتخاذ قرار من يتسلم منصب حاكم مصرف لبنان، وسنتعامل مع الحاكم المعيّن بصفة رسمية. وعلى نطاق أوسع أقول إنه من الضروري جداً أن تحترم الحكومة اللبنانية الخطوات المتبعة لتعيين حاكم جديد، وتركز على مهمة إرساء الاستقرار في النظام الاقتصادي والقيام بإصلاحات مؤثرة».
نسخ الرابط :