بدا رئيس مجلس النواب نبيه بري وهو يقدِّم أمام الإعلام المكتوب أول من أمس مرافعته الدفاعية عن "الضرورات الوطنية" التي أملت ترشيح زعيم "تيار المردة" سليمان فرنجيه للرئاسة الاولى، وهي مرافعة تعتمد على الحاضر وعلى وقائع تاريخية سنداً، مصمماً على المضيّ في ما شرع به أخيراً، وتحديداً عندما خرج قبل أيام عن صمته وأعلن باسم مَن يمثل (الثنائي الشيعي والمحور) ترشيح فرنجيه خياراً رسمياً ونهائياً.
وأكثر من ذلك، تبدّى بري وهو يمضي قدماً في معركة إسناد ترشيح فرنجيه كأنه عازم على تحدي مناخات روَّج لها الخصوم الى درجة "إغراق" المشهد الإعلامي، وتقوم على فرضية ان اتفاق بكين الثلاثي (الصين، #السعودية، وايران) سيلقي بظلاله على الواقع اللبناني المحاصَر ما يجعل فرنجيه الضحية الاولى لهذا الاتفاق، انطلاقا من قاعدة وفرضية في عِلم السياسة فحواها ان أيّ اتفاق يُبرم بين قوتين متصارعتين بمستوى الصراعات المزمنة بين الرياض وطهران، لا بد من أن يفتح الطريق تلقائيا امام "ترتيبات" و"تفاهمات" توصل الى تسويات بشروط مختلفة عما سبق الاتفاق تأخذ مصالح الطرفين معا في الاعتبار، وهو ما يعني انها تنطوي على تنازلات من الطرفين.
ومن باب أَوْلى ان هذا التشخيص ينطبق بالضرورة على الساحة اللبنانية التي هي واحدة من خمس ساحات تعيش منذ زمن تحت وطأة اشتباكات ضارية بين هذين الطرفين.
وعليه فان السؤال المطروح: إذا كان بري وهو الخبير العليم بأدقّ التفاصيل يدرك سلفاً حجم الاعتراض السعودي على ترشيح فرنجيه، ويعي استتباعا ان هذا الاعتراض يمثل بالنسبة الى الرياض نهجا مكشوفا يمارسه بشكل شبه يومي السفير السعودي في بيروت وليد البخاري على نحو جازم وحازم، واستطرادا اذا كان سيد عين التينة يعي في الوقت عينه صعوبة توفير مستلزمات انتقال فرنجيه من بنشعي الى قصر بعبدا، وان دون ذلك عقبات، فكيف يمكن تفسير هذا الإصرار وتعليله من جانب بري وهو الذي بدا أخيرا بفعله الدفاعي كأنه يمضي في حملة مستدامة لتعزيز هذا الترشيح ونفي ما اشيع استهلالا من انه نوع من رفع العتب أو إبراء الذمة؟
ثمة بطبيعة الحال مَن يقارب هذه "الإشكالية" من زاوية مختلفة عندما يتحدث عن ان بري في اندفاعته تلك وفي دفاعه عن ترشيح فرنجيه، فإن ذلك منشأه واحد من 3 احتمالات:
- إما انه يملك منظومة اثباتات وقاعدة بيانات متكاملة تجعله واثقا من مستقبل خياره، لذا فهو يمضي به على نحو يدحض أي امكان للتراجع.
- وإما انه (بري) أقحم نفسه في سباق مع الوقت بعدما استشعر التحولات والتطورات فسارع الى ملء الوقت المستقطع لكي يفرض الخيار الذي بدأه امرا واقعا على الجميع.
- وإما ان هذا السياسي المخضرم يعمد الى لعبة "تكبير" الحجر ليشرعن لاحقا أمر الخروج من تعهده والتحلل منه تحت ذريعة انني حاولت وبذلت كل جهدي ولكن الظروف أبت واستعصت.
يسارع المحيطون بالرئيس بري الى دحض الاحتمال الثالث، انطلاقا من ان رئيس المجلس ليس من النوع الذي يطلق خياراً ويضمر السعي الى سواه.
والثاني ان بري الذي سبق له ان تعامل برويّة ممزوجة بقدر عالٍ من الحكمة مع ملف انتخابات الرئاسة خلال الاشهر الخمسة التي سبقت تزكيته ترشيح فرنجيه، لم يتناهَ الى علمه اي عروض جدية لمرشحين مقبولين تنطبق عليهم مواصفات التوافقية واللااستفزازية.
زيادة على ذلك، فان بري بات اكثر قناعة بخياره الرئاسي، خصوصا بعدما لمس "ميوعة ولا جِدّية" في الجلسات الـ11 التي انعقدت بقصد انتخاب رئيس، ووجد ايضا رفضاً غير مبرر لدعواته المتكررة الى التحلّق حول طاولة الحوار الوطني بحثاً عن مخارج تقود الى انفراجات.
ويضيف هؤلاء المحيطون ببري واقعة اخرى تعزز تمسكه بخياره وتدفعه الى المضي في دعمه، وهي طريقة مقاربة الآخرين لهذا الاستحقاق، اذ ان لائحة الاسماء الطويلة (13 اسماً) الذين يزكّيهم البعض لتولّي الرئاسة هي "وصفة" للانفلاش الحاصل والرخاوة، خصوصا انه واكب بدقة تراجع الاصوات الداعمة لمرشحهم الأوّلي (ميشال معوض) من 40 الى 30 صوتاً، وهي بالنسبة اليه قرينة على تشرذم الفريق الذي يقدم نفسه كمعارض وتغييري وعلى تفرّق خياراته وتصادم اراداته. فهُم بهذا الاداء يبدون كأنهم يجلسون على قارعة الانتظار لكي تأتيهم كلمة السر.
وبمعنى آخر، يكشف هؤلاء مدى الأسى الذي كان يساور بري عندما يعود من جلسات الانتخاب وقد شهد بالعين المجردة "هذا المشهد المتفلت المفتقد الجدية والمهابة" اللتين تفترضهما جلسات انتخاب رئيسٍ لجمهوريةٍ تعاني ما تعانيه من تردٍّ وانهيارات اقتصادية ومالية.
لذا لا يستغرب هؤلاء ان يقرن الرئيس بري في اطلالته ما قبل الاخيرة (في الإعلام المكتوب) بين أمرين معا: الاول المجاهرة بترشيح فرنجيه، والثاني قفل الباب نهائيا أمام إمكان اجراء اي تعديل دستوري في مجلس النواب يحلل انتقال قائد الجيش من اليرزة الى قصر بعبدا القريب، وذلك عندما تحدث بشكل مسهب عن الظروف التي أملت انتخاب ميشال سليمان رئيساً في أيار عام 2008 وعن عدم اعتمادها حاليا لتأمين هذا الانتقال. والهدف عند بري واضح وجليّ، وهو ان السبل الدستورية التي يمكن اعتمادها لانتخاب العماد جوزف عون غير متوافرة عنده ولن يمررها في مجلس النواب.
لقد جاهر بري بكل ذلك ليعلن ان ثمة مرحلة قد بدأت عنوانها "هذا مرشحنا الأخير فهاتوا مرشحكم أو مرشحيكم ولنحتكم الى مَن يتعين ان نحتكم اليه وهو صندوق الاقتراع يدور دورته في القاعة العامة للمجلس لتكون لنتيجته الكلمة الفصل".
ويخلص هؤلاء المحيطون بالرئيس بري الى ان المشكلة الاساس هي في ذهنية الآخرين ورهاناتهم، فهُم مضوا سابقا (خلال الاشهر الخمسة الماضية) في لا جِدّيتهم بل وفي عبثيتهم عندما جاهروا أخيرا بأنهم سيلجأون الى مقاطعة جلسات الانتخاب وتهريب النصاب عندما يستشعرون ان فرصة الفوز لغير مرشحهم متوافرة.
وينتهي هؤلاء الى طرح السؤال: أليس هذا استكمالا لـ"مهزلة" الاستخفاف باستحقاق على هذا القدر من الاهمية، وهو أسلوب كان ديدن جلسات الانتخاب السابقة؟ .
"النهار"- ابراهيم بيرم
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :