قبل انطلاق الاحتجاجات في بيروت وبعدها، مروراً بأعمال التدقيق الجنائي، وصولاً إلى انطلاق التحقيقات اللبنانية والأجنبية في ملفه، بقي السؤال هو نفسه: هل يُقال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومن يخلفه؟
عملياً، يعرف اللبنانيون أن سلامة ليس سوى رأس جبل الجليد في ملف المحاسبة العامة. لعب الرجل دوراً مركزياً في إدارة السياسة النقدية وتوسع نحو السياسات المالية والاقتصادية، وسيطر على عمل القطاع المصرفي من جهة، وإدارات كبيرة في الدولة وفي القطاع الخاص، وكان له دوره البارز في كبت الأصوات المعترضة من خلال إدارته عمليات تمويل مشتبه فيها لغالبية وسائل الإعلام في لبنان.
لكن الحاكم ما كان ليقدر على هذا كله من دون شركاء حقيقيين. وهؤلاء ليسوا فقط من يشتبه القضاء اللبناني والأجنبي بتورطهم في عمليات الاختلاس وتبييض الأموال، بل هم أركان الحكم الذين لم يقتربوا من منصب سلامة طوال ثلاثة عقود. وهو من رافق أربعة رؤساء للجمهورية وأكثر من سبعة رؤساء للحكومة، وعدداً كبيراً من وزراء المال والاقتصاد والنواب، ومن تربعوا في سدة ديوان المحاسبة ومجلس القضاء الأعلى والنيابة العامة التمييزية والنيابة المالية وقيادات الجيش وقوى الأمن الداخلي والأجهزة الأمنية على اختلافها، وجمعية المصارف وغرف التجارة والصناعة والنقابات المهنية، والأحزاب الكبيرة والصغيرة، الحيوية منها أو التي أصابها الضمور... عايش سلامة أجيالاً من القيادات السياسية والرسمية، وعايشته بقهر أجيال من اللبنانيين ممن عانوا ويعانون اليوم الأمرّين نتيجة كل السياسات التي كان سلامة وجهها الدائم.
في الوقت نفسه، لم يكن سلامة يحظى بدعم هؤلاء فقط، ولم يكونوا من يخشاهم كل الوقت، بل كان يحظى بغطاء من الولايات المتحدة ودول عربية وغربية ومصارف ومستثمرين من العالم العربي، وربطته علاقات قوية بكبريات الشركات المالية العالمية، وكان مصدراً للرزق لكثيرين في العالم، سواء من خلال عمليات بيع السندات أو من خلال تعاملاته الشخصية التي تتكشّف الآن في التحقيقات التي تجرى في الخارج. ولسلامة صداقات واسعة في كل الأندية الاقتصادية والمالية والديبلوماسية من خارج لبنان... لذلك كله، لم يكن من المبالغ فيه وصفه بالحاكم بأمره!
على أن كل ذلك يقود مجدداً إلى السؤال الأهم: كيف تكون خلافة سلامة، ومن يتخذ القرار التنفيذي بخطوة من هذا النوع، وما هي الانعكاسات المباشرة لخروجه من المصرف المركزي، وأي حقول للألغام يجب تفكيكها لوقت طويل بعد خروجه، ومن هي الجهة أو السلطة التي تملك تصوراً لسياسات بديلة، تعمل على احتواء المضاعفات وحصر الخسائر، وتفتح الباب أمام علاجات من نوع جديد؟
عملياً، يعرف اللبنانيون أن غالبية وازنة من القيادات على اختلاف مناصبها كانت متورطة مع سلامة، بشكل أو بآخر، حتى أن الرجل يعرف غالبية الأسرار المالية لهؤلاء، ولآخرين من خصومه أيضاً. وهو، بحكم موقعه ودوره ونفوذه، قادر على الأقل على ابتزاز جسم كبير ممن مروا على الخدمة العامة في لبنان، ومن المرجعيات الدينية والأهلية وغير الحكومية. وفي وقت لاحق، صار سلامة قادراً على منع تعيين بديل له، انطلاقاً من الاختلافات الفعلية بين وجهات سياسية واقتصادية سادت مراكز القرار في الدولة، خصوصاً بعد وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية. وحتى في لحظتنا الراهنة، فإن الحديث عن اختيار بديل لسلامة، أمر معقد، ليس بسبب عدم وجود حكومة كاملة الصلاحيات فحسب، بل لأن القوى السياسية على المسرح اليوم غير قادرة على الوصول إلى توافق حقيقي وسريع على بديل عنه، فكيف والخارج يريد أن يكون له دوره في هذا الملف... من الولايات المتحدة التي تعتبر منصب حاكم المصرف المركزي في دول كثيرة من العالم، ومن بينها لبنان، منصباً يخصها، وتشترط أن يتم اختيار من يكون متعاوناً من دون نقاش مع وزارة الخزانة الأميركية، إلى فرنسا التي يريد رئيسها إيمانويل ماكرون ورجال المال والأعمال فيها وضع اليد على مصرف لبنان، وهو حال جهات عربية أيضاً تعتقد أن اسم الحاكم أساسي في تعاملها مع المصرف المركزي في لبنان.
اليوم، لا يبدو أن سلامة يفكر بالتنحي. على الأقل هذا ما ينقل عنه، كما لا يبدو أن في عقل أهل الحكم أي نية للبحث في مخرج لإقالته أو تنحيته أو إقناعه بالتنحي. ولأن الأمر على هذه الصورة، يصبح السؤال حول أهلية وصدقية من يتولى مهمة تعيين البديل. إذ إن من وفروا الحماية لسلامة طيلة ثلاثة عقود، لن يأتوا بأحسن منه، إلا في حال اعتبار الغرب لبنان دولة فاشلة، وفي حال فقدنا ما بقي من رصيد احتياط المصرف المركزي بالعملات الأجنبية، وأُلزمنا التوقيع على برنامج عمل مع صندوق النقد الدولي من دون نقاش... عندها سيختار صندوق النقد لنا حاكماً جديداً، لن يكون علينا سوى إطاعته، وربما لتمرير سياسات تكون أكثر سلبية من تلك التي يقوم بها سلامة الآن.
بما خص الرجل نفسه، يبدو أن الضغط النفسي الذي يعانيه جراء ملف الملاحقات القاضية قد أتعبه إلى درجة بات يفكر معها جدياً بترك منصبه. لكنه يعرف أن الأمر لم يعد بالسهولة التي كان عليها عند انتهاء ولايته الأخيرة قبل ست سنوات، ولا هو أيضاً بالسهولة التي كان عليها إثر حراك 17 تشرين عام 2019، ولا عند تقدم التحقيقات اللبنانية أو الأوروبية حول أعماله. فسلامة إن ترك منصبه اليوم، قد يواجه صعوبة جدية في تمضية وقته التقاعدي براحة، وسيكون مضطراً للبحث عن ملاذ آمن يقيه الملاحقات القضائية. ومع ذلك، فقد أعلن أنه سيترك منصبه عند انتهاء ولايته في تموز المقبل، ويتردد أن البحث جار له عن فيلا في دبي.
إطاحة الحاكم ضرورية لكن العلاج بإطاحة شركائه في كل مؤسسات الدولة وحماته في السياسة والإعلام
لكنه، في مجالسه الضيقة، يشير إلى أنه يدرس التوجه إلى أوروبا. ويقول إنه يعد العدة إدارياً لترك منصبه والسفر قبل أيام من انتهاء ولايته. وهو مقتنع بأن الاتهامات الموجهة إليه باطلة، وستثبت براءته، حتى لو أدين شقيقه رجا بالجرم المنسوب إليه. وهو أبلغ من يتواصلون معه أنه قرر اعتماد سياسة جديدة، من الآن حتى انتهاء ولايته، تقضي من جهة بعدم الاستجابة بعد الآن لأي طلب من المصارف في لبنان، بل سيمارس ضغطاً عليها لتزويده بكميات إضافية من الدولارات الطازجة، وأنه، من جهة أخرى، سيقاوم كل الضغوط من الحكومة لتفادي أي إنفاق إضافي من الاحتياطي بالدولار، وأن لديه خطة لأن يكون حجم الاحتياط عند مغادرته نحو عشرة مليارات دولار، سيجمعها في الأشهر المقبلة، سواء من السوق السوداء أو من خلال إلزام المصارف بتوفير مزيد من السيولة لتغطية عجوزاتها. وهو عند انتهاء ولايته سيقول: لقد أدرت الأزمة بكل مفاصلها بصعوبة كبيرة، وأنفقنا الكثير لعدم حصول انهيار شامل، ومع ذلك، فها أنا أترك لكم مليارات كثيرة في المصرف المركزي، وأترك لكم ذهباً لم ألمسه طوال فترة الأزمة. ويضيف: فعلت ذلك من خلال سياسات وتعاميم لا أعلم إن كان هناك من هو قادر على تغييرها بعدي، وأي أدوات سيلجأ إليها خليفتي لمعالجة الأزمة لاحقاً؟
يريد سلامة، ضمناً، أن يصيب وعينا بفيروس أن الحل كان بيده، وأنه بعد خروجه من منصبه، لن يكون هناك من يملك أدوات مختلفة أو حلاً آخر. وهو في ذلك محقّ، لأن أي حل مختلف يحتاج إلى استراتيجية مختلفة جذرياً. ويصعب علينا أن نصدق أن القائمين على المؤسسات الرئيسية في البلاد اليوم، أو أن القوى الكبيرة لديها مشروعها المختلف، وسيكون ضرباً من الجنون أن نتوقع تفاهماً وطنياً من نوع جديد، يطيح كل ما عمل عليه سلامة، لأن في ذلك نسفاً لأساسات جمهورية ما بعد اتفاق الطائف... وهذا ليس هدفاً لأحد في لبنان اليوم!
بعدما نجا الرئيس الراحل كميل شمعون من محاولة اغتيال، سأله أحد الصحافيين: متى ستتوقف عن العمل السياسي فخامة الرئيس؟. ابتسم شمعون وأشار إلى قلادة في رقبته وفيها رمز لسيدة التلة قائلاً: هي تحميني... وسأبقى أعمل في السياسة عشرين سنة بعد وفاتي!
يبدو أن سلامة يريدنا، ومعه من يقودون هذه البلاد، أن نبقى أسرى سياساتهم لأجيال كثيرة مقبلة!
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :