لا اوهام عند افرقاء انتخابات رئاسة الجمهورية ان في وسعهم، مجتمعين او منفردين، كسر الحلقة المفرغة التي تدور من حولها. الجميع داخلها محاصرون بشروطهم، دونما ان يكون ثمة امل من خارجها يُظن ان طرفاً دولياً يسعه اخراج الجميع من مأزقهم
اعطى الاجتماع الخماسي في باريس اخيراً امثولة اضافية الى الدور المقيَّد الذي يسع المجتمع الدولي، او على الاقل الدول المهتمة بلبنان، الاضطلاع به في الوقت الحاضر. في ظاهره الاكتفاء بنصح الاطراف المحليين بالاتفاق على رئيس ينتخبونه، وفي باطنه انتظار صدمة ما او مفاجأة تقلب الجمود رأساً على عقب وتفرض أمراً واقعاً عليهم جميعاً. ما عناه الاجتماع كذلك انه ليس في وارد ان يكون شريكاً في ادارة الاستحقاق الرئاسي، بل مراقبة سبل تمكن اللبنانيين من التفاهم على رئيس جديد للبلاد. الاشارة الايجابية عند المجتمعين في العاصمة الفرنسية، قاربها الداخل اللبناني بخيبة، استعداد الدول الخمس للتعاون مع الرئيس المقبل.
اما المغزى المكمّل فهو نفسه في مخاطبة هؤلاء قبلاً وحالياً الحكومة اللبنانية، عندما ترأسها الرئيس حسان دياب ثم من بعده الرئيس نجيب ميقاتي، ان لا شراكة او مبادرات جدية ومساعدات للبنان الا بعد تنفيذ الاصلاحات البنيوية.
لم تعد كذلك مباراة الارقام المعبّر عنها في جلسات انتخاب الرئيس حتى الجلسة الحادية عشرة في 19 كانون الثاني المنصرم والمعلقة مذذاك، ذات جدوى. مَن لم يملك النصف زائداً واحداً لن يحوزه بعد الآن، ومَن اعتقد انه يملكه تحقق من العكس. ربما ذلك قاد رئيس البرلمان نبيه برّي الى استنتاجه ان من غير المفيد توالي دعوة المجلس الى جلسة تلو اخرى على نحو ما فعل بين عامي 2014 و2016. منذ الجلسة الثالثة في 19 تشرين الاول، اضحت الجلسات المتعاقبة نسخة طبق الاصل عن تلك، رامت في كلها الى تأكيد الاحجام المستقرة لكتل المجلس. لا ينافس النائب ميشال معوض سوى الاوراق البيض ثم لاحقاً الاوراق الملغاة. لا احد من الكتل والاحزاب المعنية يريد كسر الجمود المتمادي.
كذلك لم يعد ثمة رهان على فريق يسعه بالفعل الاضطلاع بدور الوسيط. سقط رهان اول على النواب السنّة المحسوب انهم قادرون على ترجيح الكفة، بأن ذهبوا الى الاقتراع لصفات ومواصفات لا لمرشحين جديين. عُزي ترددهم الى الموقف المُعدّ سلبياً تتخذه السعودية من الاستحقاق بنأيها بنفسها عنه، والتصرّف كأنها غير معنية به في الوقت الحاضر. لا تؤيد مرشحاً ولم ينسب اليها قولها انها ترفض احداً. هو التفسير نفسه ينطبق على موقف حزب القوات اللبنانية المؤيد لمعوض والعارف في الوقت نفسه انه يرشح الحظ العاثر في ظل توازن القوى الحالي. سقط رهان ثان على وليد جنبلاط بعدما اقترح مبادرة رغم وضوحها وسهولتها بطرح اسماء محتملة لرئاسة الجمهورية، بيد ان لمقاربته هذه شقين يصعب تقاطعهما مع الثنائي الشيعي: رفضه انتخاب سليمان فرنجية الذي يدعمه الثنائي ويعده مرشحه الوحيد، واقتراحه في المقابل قائد الجيش العماد جوزف عون الذي يتفادى الثنائي الخوض فيه ولا يخفي عدم حماسته له ما دام اختار مرشحه سلفاً.
الاشارة الايجابية الوحيدة للاجتماع الخماسي مؤجلة: استعداد للتعاون مع الرئيس المقبل
ما بات واضحاً ومعروفاً في خريطة توزّع الكتل والاحزاب انها صارت تحتاج الى مَن ينقذها من شروطها التي يتعذر على كل منها التخلي عنها بلا تعويض. لا احد جاهزاً كي يتنازل مجاناً، وليس بين هؤلاء مَن يملك ان يستأثر باللعبة بمفرده.
في الجلسات المتتالية ظهر كأنه عامل حاسم لمَن في حوزته 65 صوتاً - وهو نصاب الاكثرية المطلقة للفوز من الدورة الثانية - يمكنه في نهاية المطاف من فرض مرشحه. تأكد لاحقاً فشل الرهان على التعداد ايضاً. ما اضحى يدور الاستحقاق الرئاسي في فلكه هو تأكيد كل من الافرقاء على مفتاح المنع الذي يملكه، اضف تحوّل شروطه الى مشكلته هو قبل سواه:
1 - لا يسع حزب الله التخلي عن ترشيح فرنجية لسبب جوهري لديه هو ان لا مرشح سواه يثق به. بيد ان اصراره عليه، على نحو ما هو بادٍ حتى الآن، مؤداه انه يقايض به تحالفه للمرة الاخيرة مع التيار الوطني الحر ورئيسه النائب جبران باسيل. احتمال وصول فرنجية الى الرئاسة، بينما باسيل يرفضه، لن يُفسَّر سوى انتقال حزب الله بالعلاقة مع التيار ورئيسه خصوصاً من الخلاف والتباين الى الاستغناء الكلي عنهما. لدى البعض الملم يجد العبارة المثلى لهذه الخاتمة انها «سحق» حقيقي لباسيل في معادلة سياسية وميدانية يمسك الحزب بمعظم مفاصلها في السلطة وخارجها.
الى الآن، الى ان يتمكن الحزب من فرض انتخاب فرنجية دونما ان يعلن ترشيحه له، يمرر الانطباع السائد بأن ما بينه والتيار خلافاً وتبايناً ليس الا. يلاقي التيار في تعليق «تفاهم مار مخايل» ولا يريد في هذا الوقت بالذات الاستغناء عنه. على ان المشكلة المستجدة للحزب باتت تكمن في افتقاره الجدي الى نصابيْ انتخاب فرنجية: اكثرية الثلثين ثم الاكثرية المطلقة.
2 - يتصرف باسيل على انه تمكن اخيراً من فرض ممنوعَين قد يكونان آخر ما يسعه ان يفرضه على حلفائه وخصومه، هما منع انتخاب فرنجية وقائد الجيش للرئاسة. بينما يحوط الغموض بموقف حزب الله من قائد الجيش كأحد الخيارات المفتوحة والمحتملة دونما ان يكون بالضرورة نهائياً، لا يملك في المقابل انتخاب فرنجية في معزل عن كتلة التيار الوطني الحر بالحصول على 65 صوتاً على الاقل. ذلك ما يُفسّر قصر باسيل خوضه الاستحقاق على هذين الممنوعَين دونما ان يكون لديه مرشح بديل. لأنه فقد فرصة ان يكون الناخب الرئيسي لانتخاب الرئيس، ادار اللعبة في وجهة معاكسة: ان يكون المانع الرئيسي.
نسخ الرابط :