معاودة حزب الله والتيار الوطني الحر الحوار بينهما، الأول الجدي منذ انقطاعه على إثر الجلسة الأولى لمجلس الوزراء في 5 كانون الأول المنصرم، ضروري لكليهما من غير أن يكون كافياً لكل منهما على حدة
انفصالهما المشهود له مذذاك وتلاحق ردود الفعل السلبية في القيادة والقاعدة على السواء، افصح عن انطباع بأن التحالف المبرم بينهما تجاوزه الزمن، وكلاهما تجاوزاه أيضاً. بيد أن التسليم بهذا الواقع لا يحجب حاجتهما إلى التواصل مجدداً لوقف تدحرج كرة الافتراق. ما هما في صدده، بدءاً من معاودة الاتصال، لن يعدو كونه خطوات متواضعة على طريق شاقة تشبه وصولهما إلى «تفاهم مار مخايل» في 6 شباط 2006، وكل منهما أتى إليه من موقع العداء للآخر.
أما دوافع العودة إلى الحوار بين الحليفين السابقين، فتكمن في بضعة أسباب:
أولها كسر قطيعتهما غير المسبوقة بعدما تزايدت تداعياتها السلبية على كليهما. بذلك يُدرج الحوار الجديد البارحة في محاولة استكشاف ما حدث بينهما أخيراً وخصوصاً بعد نهاية ولاية الرئيس ميشال عون. ليس الاجتماع سوى رغبة مشتركة، في الوقت الحاضر على الأقل، في تنظيم الخلاف وليس تذليله. خياراتهما المتناقضة في ملفي حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وانتخابات رئاسة الجمهورية تجعل من الصعب وصولهما إلى قواسم مشتركة. اختار كل منهما طريقه في هذين الملفين، فأضحى من الطبيعي أن لا يتقاطعا عندهما. ليسا في وارد إشهار طلاقهما، إلا أن دون توافقهما مجدداً صعوبات سيكون من المتعذر إزالتها في وقت قريب قبل حسم تناقضهما في ذينك الملفين.
ثانيها، عندما يصر حزب الله على تأييد جلسات الضرورة لحكومة ميقاتي ويحمي نصاب انعقادها بوزيريه الاثنين ويُظهر نفسه أنه الوحيد القادر على تعويمها وتخويلها الاضطلاع بدورها، وعندما يثابر رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل على الطعن في دستورية انعقاد الحكومة ويطعن وزيران لديه في مراسيم أصدرتها وينزع عنها فوق ذلك شرعية توليها - لأنها مستقيلة - صلاحيات رئيس الجمهورية في خلال الشغور، فذلك يعني أن الحليفين السابقين يديران حوار طرشان. تناقض لا يُذلل إلا بتراجع أحدهما عن خياره المتخذ. ذلك ما لن يفعلاه.
ثالثها، مع أنهما يواظبان على حضور جلسات مجلس النواب لانتخاب الرئيس ويتقاسمان فكرة الحؤول دون الوصول إلى انتخابه، كلٌ على طريقته، تجمع بينهما إلى حد الأوراق البيض وتفرّق بينهما كذلك الأوراق الملغاة بما يشبه تقاسم أدوار. إلا أن المرحلة التالية للانتقال من جلسات المرشحين إلى جلسات انتخاب الرئيس تحتّم بالفعل انفصالهما كلياً. في مركب واحد لإمرار الوقت حتى الوصول إلى الموعد الجدي لانتخاب الرئيس، بيد أن ذلك ليس نهاية مطافهما. ما يصر عليه حزب الله من غير إعلان - وهو ترشيح النائب السابق سليمان فرنجية - يقف التيار الوطني الحر في المقلب المعاكس والضد له. يعزز حجته ويجعل من معارضته ذات جدوى وإن غير متعمدة، إنه يتقاطع مع الكتل المناوئة لانتخاب فرنجية كحزب القوات اللبنانية إلى كتل أخرى يصطف فيها نواب مسيحيون وسنّة وراء المرشح ميشال معوض.
يعرف الحليفان السابقان في جلسات انتخاب الرئيس أنهما يخوضان معركة لم يحن وقتها بعد، ويستعجلان الظهور في مظهر كأنهما في مواجهة. لا الأوان هو أوان انتخاب رئيس جديد للبنان ولا أي منهما يملك قرار فرض حصول الانتخاب اليوم قبل غد ولا حتماً مرشحه المعلوم والمخبأ. ذلك يصح على حزب الله أكثر مما ينطبق على التيار.
ما يملك حزب الله ولا يملك في الدولة العميقة للبنان
رابعها، وهو سبب يُنظر إليه على أنه جوهري في حسبان حزب الله يدفعه أكثر من أي وقت مضى إلى ترشيح فرنجية لرئاسة الجمهورية دونما أن يكون لديه، الآن وفي ما بعد على الأقل في ما يجهر به مسؤولو الحزب، بديل منه. غالب الظن أن الحليفين الأكثر وثوقاً للحزب لدعم كليهما للرئاسة هما فرنجية وباسيل. بعد الأزمة الأخيرة مع التيار ونبرة رئيسه في الموجة الأولى من انتقاده الحزب وأمينه العام ثم توالي المآخذ والاعتراضات والتمسك برفض كل ما يقول به الحزب، صار حتمياً أن يبعث ما حصل شكوك أحدهما في الآخر. الأهم شكوك الحزب في التيار.
ليست قليلة الأهمية الدوافع التي باتت تحمل حزب الله على التشبث بترشيح فرنجية من دون أن يجهر بأنه مرشحه، والواقع أنه في أي من الأوقات التالية لن يسميه وسيحاول الذهاب إلى جلسة انتخابه وتمكينه من الفوز من دون أن يكون مرشحه العلني. بدوره فرنجية يوافق على هذا الأداء ويتفق مع الحزب على تفادي استعادة الشعار الذي أربك حزب الله أكثر من مرة في السنوات الأخيرة، بنعت الحكومات المؤلفة أنها «حكومات حزب الله». ذلك ما حدث لأولى حكومات ميقاتي عام 2011 ولحكومتي الرئيس سعد الحريري عامي 2016 و2019 ولحكومة الرئيس حسان دياب عام 2020 وأخيراً للحكومة الحالية لميقاتي منذ عام 2021.
ليس تمسك حزب الله بترشيح فرنجية سوى أحد تداعيات الانتخابات النيابية العام المنصرم، وكان المُعوَّل أن تمنحه باستفاضة الغالبية المطلقة على الأقل. لأن البرلمان الحالي مشتت على كتل بعضها كبير وأخرى صغيرة يصعب نشوء ائتلافات من داخله تمكن السمك الكبير من ابتلاع السمك الصغير على نحو برلمانات الحقبة السورية، تتعذر السيطرة على مجلس النواب وعلى أكثرياته الموصوفة والعادية. وقد يصعب على الحزب أيضاً القبض على حكومة تنبثق من المجلس ويُرغم من ثم على مجاراتها والتسليم بها كواقع قبوله بترؤس ميقاتي حكومة 2021 بعد انسحاب الحريري قبل أن يفاقم الأخير المأزق السنّي باعتزاله. وحده رئيس الجمهورية المأمون الجانب يمسي عندئذ ضمانه.
البعض القريب من الحزب يسرد كل ما لم يعد يملكه في الدولة العميقة للبنان في المرحلة الحاضرة: لا مجلس النواب ولا قائد الجيش ولا مدير المخابرات ولا حاكم مصرف لبنان ولا رئيس مجلس القضاء الأعلى ولا المدير العام لقوى الأمن الداخلي ولا رئيس فرع المعلومات. كذلك لا رئيس الحكومة وأخيراً لا رئيس الجمهورية.
ما عساه إذذاك، سوى السلاح الذي يصعب الاحتكام إليه في كل حين، أن يفعل ويكون?.
نسخ الرابط :