لم يكن ممكناً ان تخرج الجلسة النيابية لتلاوة رسالة رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون بأفضل مما خرجت به، وطالما انّها أنعشت حكومة تصريف الاعمال، فإنّ الأنظار توجّهت إلى رصد النسخة البديلة من طاولة الحوار التي سحب رئيس مجلس النواب نبيه بري الدعوة اليها في انتظار الصيغة البديلة، وسط مخاوف مما يقود إلى استنساخ «تسوية العام 2016» في شكلها ومضمونها لانتخاب الرئيس العتيد، نظراً إلى صعوبة إحياء «الستاتيكو» الذي ولّدها. كيف ولماذا؟
لا يخفي المراقبون الذين تابعوا حركة الإتصالات التي سبقت ورافقت وتلت المبادرة التي أطلقها الرئيس نبيه بري في دعوته إلى «طاولة حوار» او «لقاء تشاوري» وما رافقها من طروحات، مجموعة المخاوف التي أثارتها من إمكان وجود اكثر من قطبة مخفية يمكن ان يستدرج اليها المجتمعون في ظل اجواء التشنج التي خلّفتها الخطوات الاخيرة التي اعقبت الانتخابات النيابية الاخيرة وموازين القوى التي انتجتها وجعلت التركيبة النيابية هشة جداً.
وإن لم يكن كافياً ما حصل من أجل إذكاء الانقسامات الحادة وبلوغها الذروة، فقد زادت الجلسات الاربع لانتخاب رئيس للجمهورية التي عُقدت حتى اليوم من حدّتها، طالما أنّها لم تشهد نهاية سعيدة للمهمة التي كلّف بها مجلس النواب من ضمن المهلة الدستورية الممنوحة له، قبل ان يُضاف اليها ما شهدته نهاية ولاية عون من تجاذبات وخطوات سلبية شلّت كل المساعي لتشكيل الحكومة واقتربت من مسّ وحدة المؤسسات، باتت على قاب قوسين او أدنى من تهديد ما يفيض على خلو سدّة الرئاسة لتعمّ بقية السلطات التنفيذية منها كما القضائية، عدا عن الشلل الذي اصاب القطاعات الخدماتية والاقفال الجزئي للدوائر الرسمية التي تعمل بأقل انتاجية.
وانطلاقاً من هذه المؤشرات، قرأ المراقبون المعارضون مساعي الدعوة الى طاولة حوار او أي شكل من أشكال الحوار الذي سعى اليه بري للتفاهم على ما سمّاه «الرئيس التوافقي» عاملاً على جمع الـ 128 في سلّة واحدة، خلف رئيس توافقي ينهي مسلسل الجلسات النيابية الانتخابية، بعدما عكست نوعاً من النزاع الذي قد لا ينتهي إن بقيت موازين القوى على ما هي عليه وبقية الأوراق البيض تقارع عدداً من المرشحين المتبدّلين بين جلسة وأخرى، ومعهم الثابت الوحيد المرشح الرئاسي النائب ميشال معوض الذي يقارع مرشحاً مجهول الشخصية، وإن كانت هويته السياسية غير المعلنة على قاعدة الشبح الآتي من ظلمة الهويات القاتلة والمشاريع الغامضة التي لا أفق لها ولا قدرة على تحديد الهدف منها.
وعليه، فقد نظرت القوى المعارضة إلى دعوة بري ما يهدّد العملية الانتخابية الكاملة التي يطالبون بها، فطالما انّ لهم مرشحهم، فمن الواجب ان تتبيّن هوية منافسه لبلورة الخطوات المقبلة وتوسيع بيكار الخيارات امام بعض الكتل النيابية المحتارة، منعاً لاستمرار النزاع مع الورقة البيضاء وفي مواجهة مع تعطيل النصاب في الدورة الثانية، في ظلّ سياسة إقفال محضر كل جلسة يعتمدها رئيس المجلس للبدء مع كل واحدة منها من الصفر بدلاً من اعتبار جلسات المجلس النيابي مفتوحة كما يقول به الدستور والتنويع غير الدستوري بين جلسة انتخابية وأخرى تشريعية وثالثة لها جدول اعمالها، كما تلك التي خُصّصت لتلاوة رسالة رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون بعد مغادرته قصر بعبدا، ما يؤدي إلى إمرار الوقت من دون ان يقوم المجلس بالمهمّة الأساسية المكلّف بها لانتخاب الرئيس لتنتظم العلاقة مجدداً بين المؤسسات بعد اكتمال عقدها، ولمواجهة ما هو قائم ومتوقع من استحقاقات خطيرة تهدّد ما تحقق من إنجازات. وهي قد تؤدي الى تعثر مجموعة التفاهمات التي عُقدت مع صندوق النقد الدولي لتحقيق التعافي المالي والاقتصادي ومع البنك الدولي لاستجرار الغاز المصري والكهرباء الاردنية، عدا عن الاستحقاقات المقبلة التي تطاول مصير قادة الأجهزة العسكرية والأمنية ومواقع مالية أخرى كمثل حاكمية مصرف لبنان المركزي التي اقترب موعد خلو مواقعها على حساسيتها ودقّة المهمّات التي يتولّونها وتلك المنوطة بهم في مثل الظروف المتعثرة التي تعيشها البلاد، وفي ظلّ فقدان الجهة الصالحة التي يمكنها ان تعيّن البدائل منهم. هذا عدا عن الحاجة الى مجموعة من القوانين الاصلاحية التي ينتظرها المجتمع الدولي ومعه الجهات المانحة من دول ومؤسسات، لمدّ يد العون إلى اللبنانيين لتجاوز المصاعب الدقيقة في افضل الظروف وبأقل كلفة ممكنة على البلاد والعباد.
وأمام هذا الواقع، هناك من يخشى من محاولة لاستدراج البلاد إلى تسوية سياسية كتلك التي ولدت عام 2016 بصفقة رئاسية ـ حكومية ـ إدارية وأمنية، ادّت الى إيصال عون الى قصر بعبدا على خلفية تقاسم المواقع مع «القوات اللبنانية» واحتفاظ الرئيس سعد الحريري بموقعه رئيساً للحكومة طوال سنوات العهد، وديمومة تجاهل البحث في القضايا الجوهرية كمثل الاستراتيجية الدفاعية التي يمكن ان توفّر مخرجاً للسلاح غير الشرعي وطريقة استخدامه ومنع مؤثراته من ان تطاول الأنظمة والدول العربية والخليجية لفك الحصار الذي استجلب هذه المواقف السياسية الحادة التي أبعدت لبنان عن «حياده» الإقليمي والدولي تجاه أحداث المنطقة والعالم، وجعلته في «محور الممانعة»، فزادت الضغوط عليه من عزلته القطيعة الخليجية والعربية والغربية إلى درجة إهمال القضايا التي يعانيها وتركه يواجه وحيداً ويقتات من اللحم الحي، وقد بات شحيحاً جداً لا يكفي لتوفير ساعة من الكهرباء وعلبة من الدواء وليتر من الماء وصفيحة من المحروقات عدا عن ربطة الخبز وغيرها من الحاجات اليومية الحيوية والملحّة للبنانيين.
اما وقد حمّل بري ثنائي «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» مسؤولية تعطيل فكرة الدعوة الى الحوار أو التشاور، فقد رفع من حدّة المواجهة على اكثر من جبهة. فالمعارضون الذين تجاهلهم في العلن لم يقبلوا الدعوة الى الحوار، وصدر اكثر من موقف، وأكثرها صراحة كانت الدعوة التي أطلقها لقاء النواب الـ 27 من اجل انعقاد دائم للمجلس النيابي لانتخاب الرئيس قبل القيام بأي عمل آخر، وهو ما أضعف من احتمال ان يجدّد بري دعوته مرة أخرى الى هذا الحوار. فمن تجاهلهم بمساعيه يساوون في اعتراضهم من سمّاهم وحمّلهم المسؤولية مخافة ان تتجدّد «التسوية السيئة» التي كانوا من أبرز اطرافها، والتي حكمت العهد منذ بدايته وحتى وقع الإنهيار الكبير في النصف الثاني منه، وجعل اللبنانيين بين خيارين سلبيين، فإما يعيشون في «جهنم» أو في «العصفورية»، مع ما استجلبت الساحتين من أعراف وتقاليد مستحدثة لم يعرفها لبنان من قبل، وهي ما زالت قائمة تهدّد حاضرهم ومستقبلهم على حدّ سواء.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :