حصل ما كان يخشاه كثيرون ووقع الفراغان الثقيلان، الرئاسي والحكومي، فيما الدستور الذي ينبغي أن يكون الحَكَم والمرجع في مثل هذه الظروف صار كرة تتدحرج بين أقدام اللاعبين السياسيين!
بعد العاصفة التي هبّت من بعبدا والرابية في كل الاتجاهات بالترافق مع توقيع مرسوم استقالة الحكومة، يبدو أنّ الرئيس نجيب ميقاتي اختار ان يسعى الى احتواء مفاعيلها والانحناء أمامها تكتيكياً، مفترضاً انه بذلك يسحب من الرئيس ميشال عون ورئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل بعضاً من مواد التجييش الهادفة الى شد العصب المسيحي ضده، ويتفادى استدراجه الى ملعبهما الذي غالباً ما يزيد جمهوره عدداً وحماسة عندما يتعلق الأمر بحماية الحقوق والصلاحيات.
تعامَل ميقاتي بأعصاب باردة مع الهجوم العنيف الذي تعرّض له على وقع خروج عون من قصر بعبدا، وأمضى ليل امس الأول في التنقل بين المحطات التلفزيونية مبشّراً بالتهدئة ومستخدماً ادبيات «سلمية» بعيداً من الاستفزاز والتحدي.
يشعر ميقاتي في قرارة نفسه بالرضى بعدما صمد في مواجهة «الحرب النفسية» التي شنها عليه عون وباسيل خلال الأيام الاخيرة، وهو يعتبر انه لم يرضخ الى ضغوطهما وشروطهما لتشكيل الحكومة وفق معاييرهما ومقاربتهما، وهذا سيُسجل له في الـ»سي في» السياسية وسيعزز رصيده في الطائفة السنية.
بالنسبة إلى ميقاتي، بقاء حكومة تصريف الأعمال التي استطاع التكيّف مع تركيبتها وصار يعرف وزراءها بالتفصيل المُمل يبقى افضل من تشكيل حكومة جديدة بتوازنات معدّلة تمنح عون وباسيل حضورا أقوى وأكثر إزعاجا له.
ولكن ميقاتي يدرك في الوقت نفسه ان تولّي حكومة تصريف الأعمال صلاحيات رئيس الجمهورية ليس الخيار النموذجي لا دستوريا ولا سياسيا، وهو بالتأكيد يستفز شريحة من المسيحيين على الاقل، ويسمح لعون العائد الى الرابية بأن يستعيد بريق المدافع الشرس عن الشراكة والحقوق في مواجهة محاولة مصادرة دور رئيس الجمهورية والإخلال بالتوازن الوطني.
وبناء عليه، قرر ميقاتي ان لا يذهب بعيدا في استثارة الغضب البرتقالي، مُطمئِنا الى ان مجلس الوزراء لن ينعقد إلا في حالة الضرورة القصوى، ومصطحبا معه الى القمة العربية في الجزائر وزيرين محسوبين على عون والتيار هما عبدالله بوحبيب ووليد فياض اللذين تؤشر عضويتهما في الوفد الرسمي الى براغماتية في التعاطي مع الأمر الواقع المستجد.
ولعل الأفضل لميقاتي اساسا ان لا يجتمع مجلس الوزراء الذي قد يجلب له «صداعا» سياسيا وسط شعور بعض أعضائه بأنّ كلّاً منهم بات ميني رئيس جمهورية ولديه الحق في تعطيل اي قرار لا يناسبه. ولذلك يميل الرجل، على الأرجح، الى إدارة الحكومة وملفاتها عبر اللجان الوزارية والاجتماعات الفردية، كما كان يفعل اصلا منذ بدء مرحلة تصريف الأعمال بعد إجراء الانتخابات النيابية الاخيرة.
وهكذا، فإن هناك من يتوقع ان تكون حكومة تصريف الأعمال أشبه بـ»بلدية كبرى» خلال الفترة الانتقالية التي ستفصل عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بحيث يتركّز اهتمامها على الملفات المعيشية والخدماتية، ما لم يستجد تطور يضعها أمام اختبار سياسي صعب.
لكن مصدراً واسع الاطلاع يلفت الى ان الأفرقاء المعنيين هم في وسط الموج المرتفع حاليا، ولا بد من الانتظار قليلا حتى يهدأ البحر للعودة الى السباحة في اتجاه الشاطئ.
ويشير المصدر الى ان احدا ليس في مقدوره في هذه اللحظة تحديد الوضع الذي ستكون عليه الحكومة الحالية، في ظل وجود اجتهادات دستورية متباينة يذهب احدها الى حد اعتبار ان هذه الحكومة لا تستطيع حتى تصريف الأعمال بالمعنى الضيق، عقب توقيع عون مرسوم استقالتها الذي لا يمكن تصنيفه لزوم ما لا يلزم، وبالتالي يجب حسم واقعها الدستوري المُلتبس ليبنى على الشيء مقتضاه.
وترجّح اوساط سياسية أن يؤدي رئيس مجلس النواب نبيه بري الدور الأساسي في المرحلة المقبلة بحثاً عن مخرج من نفق الشغور الرئاسي، واذا تم انتخاب الرئيس تُعالج الإشكالية الحكومية تلقائياً، مشددة على ان رئيس المجلس النيابي وحده يمكنه ان يكون «ضابط إيقاع» المرحلة المقبلة.
وتشير الاوساط الى انه، وباستثناء الاشتباك المستجد مع عون والتيار، فإنّ بري يظل هو الاقدر، انطلاقاً من موقعه، على التواصل مع الجميع ومحاورتهم سعيا الى إيجاد قاسم رئاسي مشترك.
نسخ الرابط :