رحلة 16 عاماً من العبث تنتهي اليوم بتوقيع تفاهم ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة. ما كان ينبغي للمفاوضات مع العدو أن تستغرق كل هذه المدة لولا سوء الأداء والإدارة لهذا الملف، بدءاً من خطيئة الترسيم مع قبرص، والنكد السياسي الذي أخّر الاستكشاف والتنقيب في البحر اللبناني ما أعطى أسبقية لإسرائيل، مروراً بطموحات رئاسية واستعداد للتنازل عن الحقوق والقبول بـ«خط هوف» مع بالغ «التفهّم» للأميركيين، وليس انتهاء باستمرار الحملة على ميشال عون الذي وفّر، مدعوماً بمعادلة قوة المقاومة، اتفاقاً وصفه قائد المقاومة بـ«الإنجاز الكبير المتاح»، فيما لا يزال هناك من يصرّ على وصفه باتفاق إذعان، رغم أن لبنان بمقاومته، مدعومة من رئيسه، كان على استعداد تام لخوض حرب على إسرائيل يكون هو البادئ بها لو لم يتحقّق. من الإنصاف القول، على مسافة أيام من مغادرة ميشال عون قصر بعبدا، أن الرجل حقّق إنجازاً تاريخياً (لا يعني ذلك أنه ليس منقوصاً) بالحصول على اتفاق وفق خط رسمه لبنان وتبنّاه، وكان مسؤولوه في وقت من الأوقات مستعدين للقبول بما هو أقل منه. وحدها المقاومة، من بين كل الأطراف السياسية اللبنانية، كانت عينها على هذا الملف منذ بدء التفاوض. هذا ما كتبه فريدريك هوف نفسه حول بدء مهمته وسيطاً في الترسيم عام 2010 بأنه «ما كان لجهودنا أن تبدأ على الإطلاق لو أن حزب الله عارضها. في وقت ما، ألقى زعيم التنظيم (السيد حسن نصر الله) خطاباً قال فيه إن على الحكومة اللبنانية أن تمارس كل الوسائل الدبلوماسية والقانونية لحماية حقوقها في المنطقة الاقتصادية الخالصة. وما من كلمة في الخطاب كانت تلوّح بالعنف». ووحدها المقاومة، أيضاً، إلى جانب إدارة جيدة لمفاوضات الأشهر الأخيرة، من سرّعت حسمه بإعلان نصر الله الثقة بقيادة عون لمعركة الترسيم وإمهال العدو شهرين لإنجاز الملف
في قبرص، عام 2006، بدأت سلسلة الأخطاء اللبنانية في كل ما يتعلق بملف الترسيم البحري. في 11 تشرين الثاني من ذلك العام، إبان حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، بدأت في نيقوسيا اجتماعات بين وفد لبناني رأسه المدير العام للنقل البري والبحري في وزارة الأشغال العامة المهندس عبد الحفيظ القيسي والخبير في شؤون النقل البحري في الوزارة حسان شعبان ووفد قبرصي كبير من مختلف الوزارات.
اعتمد «الوفد» اللبناني على دراسة للمكتب الهيدروغرافي البريطاني وُضعت في العام نفسه تحدد الخط الحدودي الجنوبي بين لبنان وفلسطين المحتلة. اتفاق الترسيم الذي تم التوصل إليه بين البلدين في 17 كانون الثاني 2007، بعد ثلاثة أشهر من المفاوضات «غير الشاقة» على ما يبدو، أسّس لـ«الخطيئة الأصلية» التي أدّت إلى تشابك الخطوط في ما بعد، وضيّع على لبنان مساحات من مياهه الاقتصادية الخالصة وسنوات من المفاوضات. رُسم خط الترسيم مع قبرص من النقطة 1 جنوباً الى النقطة 6 شمالاً. النقطتان تقعان داخل الحدود اللبنانية، واعتمدتا بعد التراجع خمسة أميال عن النقطة الثلاثية في الجنوب بين لبنان وقبرص وفلسطين المحتلة. بُرّر التراجع يومها بعدم إمكان إجراء مفاوضات مع العدو الإسرائيلي، وبصعوبة دخول حكومة السنيورة في مفاوضات مع سوريا في ذروة الخلاف مع دمشق عقب مقتل الرئيس رفيق الحريري، على أن يتم تحديد النقطتين الثلاثيتين لاحقاً.
كان هذا الخطأ الأول في سلسلة طويلة من الأخطاء، فضلاً عن أسئلة كثيرة لا تزال من دون إجابات: أليس البتّ في ملف سيادي ووطني أخطر من أن يُترك في عهدة وزارة واحدة وشخص واحد (عملياً الوفد مؤلف من شخصين، أحدهما رئيس الثاني)؟ لماذا تم اعتماد خط الوسط لترسيم الحدود بين لبنان وقبرص، علماً أن واجهة لبنان البحرية أكبر من واجهة قبرص ما يُفترض أن يعطيه مساحة أكبر من المياه الاقتصادية الخالصة بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار؟ وما هي الحكمة في التراجع عن النقطة الحدودية الثلاثية مع فلسطين خمسة أميال إلى الشمال بدل التقدم جنوباً إلى الحد الأقصى، ما دام أن «الدولة الثالثة» هي كيان العدو القائم على الأطماع ومنطق القوة؟
في العادة، تعيّن الدول حدودها قبل أن تتفاوض على ترسيمها مع الدول المجاورة. هنا كانت الآية معكوسة. فاوض لبنان قبرص على الترسيم ووقّع اتفاقاً معها في 17 كانون الثاني 2007، وبعد عامين، في 30 كانون الأول 2008 شكّل «اللجنة اللبنانية المشتركة» التي شاركت فيها قيادة الجيش لوضع تقرير حول حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة للدولة اللبنانية. كانت اللجنة برئاسة القيسي نفسه، مرتكب الخطأ الأساسي. بعد أربعة أشهر، في 29 نيسان 2009، وضعت اللجنة تقريرها مرفقاً بخريطة رسّمت حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية من الجهات الثلاث: الخط 23 مع فلسطين المحتلة، الخط 23 – 7 مع قبرص، والخط 7 مع سوريا. ورُسم بشكل متعامد مع الاتجاه العام للشاطئ، بذريعة عدم امتلاك إحداثيات الشاطئ الإسرائيلي.
وهنا أيضاً أسئلة بلا إجابات: لماذا أعطت اللجنة تأثيراً كاملاً لصخرة تخيليت، ما أثّر على مسار الخط رغم أنها غير ملزمة بذلك كونها ترسّم من جانب واحد، ورغم وجود مرحلة تفاوض مستقبلية؟ والأهم، رغم أن النقطة 23 لم تكن الخيار الأفضل، لماذا لم يتم التواصل مع قبرص لطلب تعديل اتفاق الترسيم باعتماد النقطة 23 بدل النقطة 1، طالما أن الاتفاق ينص بوضوح على أنه تم التراجع عن النقطتين الثلاثيتين شمالاً وجنوباً في انتظار المفاوضات المستقبلية مع الدول المجاورة؟
رسالة قبرصية ملغومة
في 19 تشرين الأول 2010، تلقّت السفارة اللبنانية في نيقوسيا رسالة من الخارجية القبرصية تؤكد أن سلطات الجزيرة، قبل أن تتوصل الى اتفاق نهائي على ترسيم الحدود القبرصية مع أي من الدول المجاورة، ستُعلم لبنان إذا ما كان لذلك أي «تأثير» (effect) على النقطتين 1 و6.
على ما يبدو، لم يكلف أحد في الخارجية، يومها، نفسه تمحيص الرسالة ومراجعة نص اتفاق الترسيم مع قبرص، والذي ينص على ضرورة إبلاغ نيقوسيا بيروت بأي مفاوضات ترسيم تجريها مع دولة ثالثة «تتعلق» (in connection) بالنقطتين 1 و6، وليس أن «تؤثر» عليهما. بعد شهرين، في كانون الأول 2010، وقّعت قبرص اتفاق ترسيم مع إسرائيل التي اعتمدت النقطة 1 لرسم الخط 1. عملياً، وجهة النظر القبرصية هنا أن الخط 1 لم يؤثر على النقطة 1 التي حدّدها المفاوض اللبناني بنفسه!
إصرار على تشريع الخط 23
في 18 آب 2011، أقر مجلس النواب القانون 163 الذي يفوّض الحكومة أن تصدر بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء إحداثيات النقاط التي تشكل الحدود البحرية اللبنانية. أثناء درس القانون في لجنة الأشغال النيابية، استشرس رئيس اللجنة النائب محمد قباني في رفض اقتراحات تقدّم بها ضباط وخبراء تؤكد أن للبنان حقوقاً جنوب الخط 23.
المفارقة أنه قبل يوم واحد من إقرار القانون، وصلت إلى رئاسة الحكومة (نجيب ميقاتي) دراسة أعدّها المكتب الهيدروغرافي البريطاني (UKHO)، بتكليف من الحكومة اللبنانية في حزيران من العام نفسه، تقترح عدة خيارات من ضمنها الخط 23، وخطان جنوبه أحدهما لا يحتسب تأثيراً لصخرة تخيليت عُرف لاحقاً بالخط 29. غير أن التقرير بقي حبيس أدراج مكتب رئيس الحكومة من دون معرفة الأسباب. في 1 تشرين الأول 2011، صدر المرسوم الشهير 6433 الذي حدّد الخط 23 حدوداً بحرية للبنان مع فلسطين المحتلة، وتم إيداعه لدى الأمم المتحدة. هنا، وُلدت المنطقة المتنازع عليها بين الخطين 1 و23 بمساحة 860 كيلومتراً مربعاً.
مفاوضات سرية و«خط هوف» لبناني
رسمياً، دخلت واشنطن على خط الوساطة عام 2012 مع تولّي السفير الأميركي فريدريك هوف، بتكليف من الخارجية الأميركية التوسط في النزاع الحدودي البحري بين لبنان والكيان الإسرائيلي. فعلياً، كان هوف قد بدأ منذ أواخر عام 2010 مفاوضات ثنائية سرية مع كل من لبنان وإسرائيل. في مقال له في مجلة «نيوز لاينز»، في 4 كانون الأول 2020، قال إنه عقد لقاءات حول الترسيم البحري مع الوزير الراحل محمد شطح، ممثلاً رئيس الحكومة سعد الحريري عام 2010، ثم مع جو عيسى الخوري مستشار خلفه الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011. وصف هوف شطح بـ«الودود والصارم في الدفاع عن حقوق لبنان»، وعيسى الخوري بـ«المحاور الرائع الذي يحظى بثقة تامة من رئيس الوزراء».
بين 22 و24 نيسان 2012، التقى هوف في مقر السفارة الأميركية في لندن «الضابط المتمكن» اللواء الركن عبد الرحمن شحيتلي ونائب رئيس الأركان العميد الركن البحري جوزف سركيس الذي وصفه بأنه ««أحد أكثر الأفراد تميزاً من الناحية المهنية الذين قابلتهم أثناء الوساطة»، والذي يعمل حالياً مستشاراً في فريق الرئيس ميقاتي، وضابط ارتباط بينه وبين الأميركيين. سأل هوف الوفد العسكري عن الإحداثيات التي يحملها، وتم تنزيلها على جهاز كومبيوتر واستخدام تطبيقات لرسم الخرائط، فـ«وُلد» الخط الذي عُرف باسم «خط هوف». وهو، عملياً، خط وسطي بين النقطتين 1 و23 منطلقاً من نقطة على مسافة ثلاثة أميال من الشاطئ. وافق «خط هوف» الإحداثيات اللبنانية التي رسمت الخط 23 وتقصّدت «دفشه» خمسة أميال جنوباً. بهذا المعنى، الوفد العسكري اللبناني هو، عملياً، من وضع أساس الخط الذي يعطي لبنان 55 في المئة من المنطقة المتنازع عليها مقابل 45 في المئة لإسرائيل.
لم يستغرق الأمر طويلاً، «بعدما بذلت قصارى جهدي للإشادة بالكفاءة المهنية لفريق الجيش اللبناني»، قبل أن يقتنع «جو» (كما يطلق هوف على العميد سركيس) وزملاؤه، و«يعربوا عن تقديرهم للمنطق الذي عملنا به. واقترح جو أن أزور بيروت قريباً للقاء رئيس الوزراء».
عاد الوفد إلى بيروت بـ«انتصار» هلّلت له بعض الصحف التي عنونت بأن «لبنان يربح مسافة 500 كيلومتر مربع»، في مقابل أخرى تحدثت عن «خسارة 350 كيلومتراً مربعاً».
في أيار 2012، زار هوف بيروت والتقى ميقاتي الذي «أبلغني بأنه يريد أن يقول نعم (للخط)، لكنه يحتاج الى إجماع وزاري، وطلب مني إحاطة العديد من وزرائه بالأمر. فعلت ذلك من دون أن أجد ردوداً سلبية. كما طلب مني إحاطة فريق المعارضة برئاسة الحريري، ولم أجد اعتراضات». إلا أن «ميقاتي لم يستشر وزير الطاقة جبران باسيل بشأن التسوية المقترحة. خشية أن يفسد باسيل الأمور، أراده أن يكون آخر من يعلم. كان باسيل يلقي خطابات وطنية تخلط بين المطالبة بالمنطقة الاقتصادية الخالصة والحدود الوطنية. في النهاية، أخبرت باسيل في واشنطن بأن خط الفصل البحري الذي نقترحه يشبه الخط الأزرق، وسيكون مؤقتاً إلى أن يتفاوض لبنان وإسرائيل على الحدود وتطبيع العلاقات. أدرك وجهة نظري، وربما كان سيؤيد التسوية لو طرحها ميقاتي للتصويت في مجلس الوزراء، لكن هذا لم يحدث قط».
لم يجرؤ الموافقون ضمناً، وهم غالبية الأطراف السياسية، على الجهر بتأييد «خط هوف»، فتقرر في 11 أيار 2012، بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء، تشكيل لجنة جديدة لدرس الحدود البحرية، وخصوصاً لجهة الجنوب. المفاجأة أن اللجنة الجديدة كانت، مرة جديدة، برئاسة القيسي نفسه. بدا أن الرجل كان منفّذاً أميناً لمطالب مرجعيته السياسية آنذاك، من دون إهمال حماسة قائد الجيش حينها، جان قهوجي، للخط 23. إذ كان لبنان على مسافة عامين من نهاية عهد ميشال سليمان، وليس خافياً أن قهوجي كان طامحاً إلى المنصب.
في 7 حزيران 2012، أعدّت اللجنة تقريراً أهمل وجود أي حقوق للبنان جنوب الخط 23 بحجة أنها مقيّدة بالقانون 163، وأعدّت تقريراً لا يختلف عن التقرير السابق (حول الخط 23)، رفعته إلى وزارة الخارجية التي كان يتولاها الوزير عدنان منصور.
في آب 2012، رفعت وزارة الخارجية اقتراحات إلى رئاسة الحكومة، بناءً على تقرير «لجنة القيسي»، شجّعت فيه ضمناً على الموافقة على مقترح هوف، عبر توصيتين:
الأولى: إهمال المقترح، ما يؤدي إلى تجميد النشاطات الاستثمارية ويرفع احتمالات نشوب توتر ويُعرقل التوصل إلى اتفاق مع قبرص على الحدود البحرية، وبالتالي يتعذّر التوصل إلى اتفاق حول الاستخراج في حقول النفط والغاز المشتركة المحتملة.
الثانية: إجراء مباحثات لمحاولة تحسين المقترح، ما يمكن أن يساعد في التوصل إلى ترتيبات حدودية تساعد في تأمين حلول لمنطقة النزاع التي تعيق الاستثمار وتعزّز المناخ الاستثماري في المنطقة الاقتصادية الخالصة.
في 19 تشرين الأول 2012، التقى هوف «جو» (المقصود عيسى الخوري على الأرجح) على غداء في نيويورك، وأبلغه أنه سيترك منصبه إلا إذا وافق لبنان على مقترحه، فوعد الأخير ببذل قصارى جهوده. بعد شهر، في 22 تشرين الثاني، اهتزت حكومة ميقاتي مع اغتيال رئيس فرع المعلومات وسام الحسن، قبل أن تسقط نهائياً في آذار 2013، مع استقالة ميقاتي بذريعة فشل الحكومة في التوصل الى اتفاق على قانون الانتخاب ورفض مجلس الوزراء التمديد للمدير العام لقوى الأمن الداخلي أشرف ريفي. لكن الأهم أن الاستقالة جاءت قبل طرح آخر مرسومين تطبيقيين (مرسومي دفتر الشروط وتقسيم البلوكات البحرية) من قانون المواد البترولية، ما أخّر بدء التنقيب لسنوات. على مدى 11 شهراً من عمر حكومة تصريف الأعمال آنذاك، حاول وزير الطاقة جبران باسيل عبثاً إقناع ميقاتي بعقد جلسة استثنائية لإقرار المرسومين اللذين بقيا عالقين حتى عام 2017، عندما أُقرّا في أول جلسة للحكومة التي تشكّلت بعد انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية.
خط بصبوص
في 2013 أعدّ العقيد الركن البحري مازن بصبوص بحثاً انطلاقاً من الاقتراح البريطاني، بيّن فيها أحقية لبنان بالخط 29 الذي يعيد إلى لبنان مساحة تُقدر بحوالي 1430 كيلومتراً مربعاً. راسل وزير الطاقة في حكومة تصريف الأعمال (باسيل) قيادة الجيش عبر وزارة الدفاع للاستفسار ما إذا كان لبنان في وارد إعادة ترسيم الخط البحري الجنوبي، وخصوصاً أن لذلك تأثيراً على الإعلان عن دورة التراخيص، فأتى الجواب بأن هذا «بحث أكاديمي خاص بالضابط صاحب العلاقة ولا يمثل موقف قيادة الجيش» التي تعتبر أن الخط 23 يمثل حدود الترسيم مع فلسطين المحتلة. مرة ثانية، أرسل باسيل كتاباً آخر طلب توضيح الموقف الرسمي لقيادة الجيش، فكان الجواب أن «دور الجيش تقني ويجب عدم إغفال وجود طرق أخرى تعطي لبنان حقوقاً أكبر، ولكن هذا الأمر يعود إلى السلطة السياسية». على هذا الأساس، أُعلن في آذار 2013 عن دورة التراخيص في البلوكات. في اجتماع في السرايا الحكومية، أواخر عام 2018، ضم رئيس الحكومة سعد الحريري ومساعد وزير الخارحية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساثرفيلد ووزير الطاقة سيزار أبي خليل والعميد جوزف سركيس عن قيادة الجيش، أكّد «جو»، رداً على استفسار أبو خليل حول وجود حقوق للبنان جنوب الخط 23، بأن «الجيش مع الخط 23»، وأقفل الحريري النقاش.
الفراغ الرئاسي بعد 2014 والأزمات الداخلية ألقت بكل ملف الترسيم في الظل. عدم الموافقة العلنية على مقترح هوف أحال الملف عملياً الى الرئيس نبيه بري. بين 2012 و2020، أسفرت المفاوضات مع رئيس المجلس عمّا سمّي «اتفاق الإطار». وهو، كما يشير اسمه، إطار فضفاض يتحدث عن الخطوط العريضة للتفاوض برعاية أميركية، ويعتمد ضمناً الخط 23. وقد نقل عن بري قوله، في وسائل الإعلام، أن «بيتنا بالقلعة إذا حصّلنا الـ 23».
عام 2019، عادت الوساطة الأميركية إلى العلن مع زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لبيروت وتشديده على ضرورة معالجة ملف الحدود البحرية الجنوبية.
بعد «اتفاق الإطار»، تسلّم الرئيس عون الملف من بري وقرر إسناد مهمة التفاوض غير المباشر إلى وفد عسكري - تقني، برئاسة نائب رئيس الأركان للعمليات العميد الركن الطيار بسام ياسين وعضوية العقيد الركن البحري مازن بصبوص، ومسؤول قسم الجيولوجيا في هيئة إدارة قطاع البترول وسام شباط والخبير في القانون الدولي لترسيم الحدود نجيب مسيحي. أكثرية أعضاء الوفد مقربون من قيادة الجيش، ولم تكن الحرب الباردة بين بعبدا واليرزة خافية على أحد. أعطى الرئيس عون توجيهاته للوفد، في 13/10/2020 بالتوصل الى «حل منصف يحمي الحقوق السيادية»، وصدر بيانان عن رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش يحددان بدء التفاوض على أساس الخط الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة براً دون احتساب أي تأثير للجزر الساحلية، أي وفق الخط 29، ما يخلق منطقة إضافية متنازعاً عليها بمساحة بحرية إضافية تبلغ 1430 كيلومتراً مربعاً. الرئيس عون «كبّر الحجر» يومها باعتماد الخط 29 كخط تفاوضي، فيما تمسّك الوفد المفاوض بـ«الحجر» كما هو حرفياً.
نظرياً، الأجدى في موضوع سيادي كهذا أن يتم تحديد مهمة الوفد ومرجعيته بدقة بموجب مستند رسمي خطي، وهو ما لم يحصل. عملياً، باتت هناك سلطتان على الوفد كان الالتباس يسود علاقتهما، هما: رئاسة الجمهورية، وقيادة الجيش التي تحوّلت إلى طرف جديد الى جانب بقية الأطراف السياسية.
بدءاً من نهاية عام 2019 بدأ الحديث عن الخط 29 بعد تغيّر مفاجئ طرأ على موقف القيادة. كان التبرير أن الجيش أنشأ عام 2014 مصلحة للهيدروغرافيا حصلت على بيانات أكثر دقة، ما يسمح بتعديل المرسوم 6433 حول الخط 23، وأعدّت لجنة من الجيش في نهاية 2019 ملفاً تقنياً وقانونياً أكّدت فيه أحقية لبنان بالمساحات الإضافية في مياهه البحرية.
في 14 تشرين الأول 2020 انطلقت مجدداً جولات التفاوض غير المباشر في الناقورة. بعد جلسة أولى بروتوكولية، انعقدت جلسة ثانية، في 28 من الشهر نفسه، فجّر فيها الوفد اللبناني مفاجأة الـ 29، فرفض الوفد الإسرائيلي مناقشة أي حلّ خارج المنطقة البحرية الواقعة بين الخطين 1 و23. عندها، أعلن العميد ياسين رفض لبنان وضع أي شروط مسبقة للتفاوض من حيث الخطوط والمساحات، ودعا إلى أن تكون المفاوضات من دون قيد أو شرط غير الاحتكام الى القانون الدولي. فكرر رئيس وفد العدو أودي أديري رفض مناقشة أي حل خارج الخطين. قرر الوسيط الأميركي السفير جون دي روشيه رفع الجلسة. في اليوم التالي، كرر وفد العدو رفض البحث في الخط 29. في 11/11/2020 عُقِدَت الجلسة الرابعة، وقبل انطلاقها اختلى دي روشيه بأعضاء الوفد اللبناني ليبلغهم أن على لبنان العودة للمطالبة بالخط 23. فكان الجواب رفض فرض شروط مسبقة والتمسك بالخط 29. رفع دي روشيه الجلسة إلى 2/12/2020. لكنها لم تعقد واستعاض عنها بجولة شملت رئيس الجمهورية وقائد الجيش والوفد المفاوض مطالباً بسحب الخط 29 من التداول. عملياً جُمّدت المفاوضات.
أصرّت قيادة الجيش على اعتبار الخط 23 «ساقطاً قانوناً لأنّه لا ينطلق من نقطة رأس الناقورة ولا يتّبع أي تقنية ترسيم علمية معترف بها عالمياً»، وأن «لا مصلحة للبنان بأن يفاوض على 860 كلم2 (وفق الخط 23) بل يجب عليه بدء التفاوض من الخط (29) للأسباب الاستراتيجية التي تصبّ في مصلحة الشعب اللبناني» (مجلة «الجيش»، العدد 430 - 431 - أيار 2021) وانطلقت هجمة إعلامية تطالب بتعديل المرسوم 6433 الى حدود الخط 29. بدا كأنّ هناك «شيئاً ما» لا يريد لهذا الملف أن يصل إلى خواتيمه. بدأت حملة على رئيس الجمهورية وصلت إلى حدّ اتهامه بالتخلي عن حقوق سيادية، ونُظّمت اعتصامات من جمعيات لم يُعرف عنها يوماً الاهتمام بالشأن السيادي عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، تطالبه بتعديل المرسوم وإيداعه لدى الأمم المتحدة. زاد الأمر غموضاً أن أنصار الخط 29 ليسوا بعيدين عن الأميركيين الذين يفترض أنهم يحاولون إقناع لبنان بما هو أقل من الخط 23. لوهلة، «ضاعت الطاسة».
منتصف نيسان، زار وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل بيروت، وأعلن بعد لقائه رئيس الجمهورية الاستعداد لتسهيل المفاوضات «على الأسس التي بدأناها». انعقدت جلسة تفاوض خامسة في أيار 2021، كرر فيها الأميركيون والإسرائيليون رفض البحث في الخط 29، فطلب الوفد اللبناني تعليق الاجتماع، وجُمّدت المفاوضات مرة جديدة.
في بيروت، كان الوسيط الأميركي الجديد عاموس هوكشتين والسفيرة الأميركية دوروثي شيا يؤكدان استحالة قبول الإسرائيلي بالخط 29، وأن الإصرار عليه يعني وقف التفاوض. وهما أبلغا ذلك إلى قائد الجيش شخصياً أكثر من مرة، إلا أن الأخير بقي مصرّاً على موقفه. فجأة، وكما طُرح الخط 29، سُحب من التداول، ونأت اليرزة بنفسها عن موضوع التفاوض. في حزيران الماضي، أعلن قائد الجيش، بعد اتصال من قائد القيادة الوسطى الأميركية (USCENTCOM)، «انتهاء المهمة التقنية للجيش في ملف الترسيم»، و«الوقوف خلف السلطة السياسية في أيّ قرار تتخذه»، وأنه «ليس معنياً بأيّ تعليقات أو تحليلات أو مواقف، سياسية أو إعلامية لا تصدر عن قيادة الجيش حصراً». كان ذلك الضوء الأخضر للمضي في المفاوضات وصولاً إلى التفاهم الذي يوقّع اليوم.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :