ستدخل رئيسة الوزراء البريطانيّة المستقيلة ليز تراس التاريخ من بابه العريض، لكن ليس من بوّابة نجاح خطّتها الماليّة المثيرة للجدل وغير المألوفة، كما تمنّت في بادئ الأمر، بل لكونها حطّمت الرقم القياسي كصاحبة أقصر ولاية رئيس وزراء في تاريخ المملكة المتحدة. 45 يومًا فقط، كانت كفيلة بالإطاحة بتراس وإخراجها من منصبها، بعدما خضّت خطّتها الماليّة أسواق المال البريطانيّة، وتركت آثاراً مدمّرة لن تتخطّاها المملكة المتحدة إلا بعد سنوات طويلة.
الخسّة واليمين البريطاني وجنون الإيديولوجيا الشعبويّة
في خلاصة الأمر، ربحت صحيفة الدايلي ستار البريطانيّة رهانها على خسّة ضد تراس، بعدما صمدت صلاحيّة الخسّة التي رصدتها كاميرا الصحيفة في بث مباشر منذ 14 تشرين الأوّل الماضي، لفترة أطول من صلاحيّة تراس في الحكم. كان ذاك الرهان الساخر مجرّد إمعان في الطعن بأهليّة رئيسة الوزراء بالحكم، ليُسجّل في تاريخ المملكة المتحدة درس رئيسة الوزراء التي نافست الخس في هشاشة الصلاحيّة. ولعلّ هذا النوع من الدروس، على طرافته، لم يهدف إلّا إلى تكريس عبرة مهمّة لمن يعتبر في الذاكرة الجماعيّة البريطانيّة، عن تداعيات الشعبويّة المتسرّعة، كتلك الشعبويّة اليمينيّة التي قادت بريطانيا ذات يوم لخطوة مثل الخروج من الاتحاد الأوروبي.
هي إذًا نتيجة مخيّبة لآمال عتاة اليمين المتطرّف والمحافظين في بريطانيا وأوروبا والولايات المتحدة، الذين أثارت تراس حماستهم في بادئ الأمر، بخطتها المتطرّفة في تقليص الضرائب على الفئات الأثرى في المجتمع، مقابل زيادة الاقتراض لتغطية الإنفاق، في الزمن الذي عمدت فيه حكومات العالم إلى القيام بالعكس تمامًا، لضبط التضخّم المتفشّي اليوم في الأسواق. راهن عتاة اليمين على رئيسة وزراء تحمل خطّة عجيبة وغريبة، تعوّل على زيادة الدين السيادي لبلادها خلال السنوات الخمسة المقبلة، في الوقت الذي كانت تتوسّع فيه المصارف المركزيّة في جميع أنحاء العالم، ومنها بنك إنكلترا، في رفع الفوائد وتطبيق السياسات النقديّة الانكامشيّة.
هذا الجنون، الذي قادته تراس والجناح اليميني المتطرّف في حزب المحافظين، كان مجرّد نموذج عن مآلات الإيديولوجيا الطائشة، التي لا تتقن التعامل مع المشاكل إلّا وفق قاعدة الحلول الجاهزة والمعلّبة سلفًا. ثمّة من يذكّر المحافظين اليوم بالمقولة الشهيرة: إذا كانت المطرقة هي كل ما تملكه، ستعامل كل شيء كمسمار. وفي قاموس الشعبويّة الإيديولوجيّة التي امتهنها حزب المحافظين البريطاني، لم يملك الحزب سوى مطرقة التخفيضات الضريبيّة وتحجيم الميزانيّة، في وجه مشاكل كانت تقتضي بالدرجة الأولى تفعيل أدوات ضبط التضخّم وتنسيقها مع السياسة النقديّة.
أزمة بريطانيا قبل ضربات تراس القاتلة
لم يكن الاقتصاد البريطاني في أفضل حالاته حين جاءت تراس إلى رئاسة الوزراء. كحال سائر الاقتصادات الأوروبيّة والغربيّة بشكل عام، كانت نسبة التضخّم قد ارتفعت لتلامس 10%، في أعلى مستوى لها منذ أربعة عقود، مدفوعةً بتداعيات الحرب الأوكرانيّة وارتفاع أسعار النفط والغاز واشتداد الضغط على سلاسل التوريد. لم يكن الاقتصاد البريطاني، نتيجة كل هذه الضغوط، قد حقق نسبة نمو تتخطى 0.8% هذه السنة، في الوقت الذي كان يؤكّد فيه بنك إنكلترا أن الاقتصاد المحلّي متجه إلى ركود، قد لا تخرج منه بريطانيا قبل 2023. وفوق كل ذلك، لم يكن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يرحم أحدًا. فمع كل رفع للفوائد الأميركيّة، كان الضغط يشتد على الجينيه الاسترليني وسيولة النظام المالي البريطاني، مع زيادة جاذبيّة الأسواق الأميركيّة للمستثمرين.
كان بنك إنكلترا يوازن بين العوامل الضاغطة بميزان الذهب: رفع الفوائد ضروري للجم التضخّم، ومواكبة الفوائد الأميركيّة والحفاظ على الرساميل والسيولة في بريطانيا. لكن رفعها سيعني أيضًا زيادة الضغط باتجاه الركود الاقتصادي. حسابات بنك إنكلترا كانت تزداد تعقيدًا لعلمه أنّ زيادة الفوائد بسرعة ستعني انخفاض قيمة السندات في السوق، ومنها تلك التي تحملها الصناديق التقاعديّة. والضغط على قيمة موجودات هذه الصناديق، قد يعبث بتوازنات ميزانيّاتها، ما قد يدفع السوق بأسرها إلى مصيبة لا تُحمد عقباها.
وثمّة من كان يتساءل في بريطانيا: هل يمكن أن تنطلق شراراة الأزمة الماليّة العالميّة العالميّة المقبلة من صناديق التقاعد البريطانيّة؟ وكحال أي مصرف مركزي، لم يرغب بنك إنكترا أن يترك شيئًا ما للصدفة، أو القدر، أو مضاربات السوق.. أو قرارات السلطة التنفيذيّة التي لم يبدِ البنك الكثير من الارتياح لتوجهاتها.
رفع الفوائد مطلوب إذًا. لكن بتدرّج وضمن هوامش محددة، وبقدر ما تحتاجه سوق النقد، لكن من دون تخطّي الخطوط الحمر. وهذا ما بدأ بنك إنكلترا بفعله...قبل أن تأتي ليز تراس!
خطّة تراس: دب يعبث برقعة شطرنج
كدب يعبث برقعة شطرنج، جاءت ترس بخطتها الماليّة بعد وصولها، لتعبث بكل هذه التوازنات، من دون أدنى قدر من الاعتبار لحساسيّة العوامل الضاغطة. الركيزة الأساسيّة في خطّة تراس، كانت رزمة الإعفاءات الضريبيّة التي تتجاوز قيمتها 45 مليار جينيه إسترليني، والتي ستستفيد منها بشكل أساسي الشريحة الأثرى في المجتمع.
خطوة مجنونة من هذا النوع، كانت ستعني مسألتين خطيرتين في ظل هذه الظروف الاقتصاديّة الضاغطة:
أوّلًا: زيادة النقد المتروك في الأسواق للإنفاق، لمصلحة الأغنياء حتمًا. وهذا ما عاكس تمامًا جهد بنك إنكلترا، الذي كان يحرص على سياسة نقديّة إنكماشيّة بزيادات متدرّجة في الفوائد، للحد من الإنفاق وامتصاص السيولة، وبالتالي تخفيض معدلات التضخّم. وكان بنك إنكلترا مقيّدًا بمستوى زيادات الفوائد التي يفرضها، نتيجة الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي ذكرناها، ما يعني أن بنك إنكلترا لن يستطيع التعويض عن خطوات تراس المجنونة بزيادات إضافيّة أخرى في الفوائد.
ثانيًا: زيادة مستوى الدين السيادي والاقتراض، لتمويل الإنفاق بعد كل هذه التخفيضات الضريبيّة لمصلحة الأثرياء. مع الإشارة إلى أنّ خطة تراس لحظت إنفاق 60 مليار جينيه إسترليني لتمويل خطّة دعم لقطاع الطاقة خلال 6 أشهر، وهو ما كان سيتم تمويله بالاستدانة. وزيادة الديون، في ظل ارتفاع الفوائد المستمر في السوق، كان سيعني حتمًا الضغط على الميزانيّة العامّة خلال السنوات المقبلة، وبالتالي إضافة الضغط على أسعار السندات السياديّة.
ببساطة، أيقنت السوق أن من يمسك السلطة التنفيذيّة مجموعة من الإيديولوجيين المجانين، الذين سيعبثون بتوازنات النقد والمال الحسّاسة في أخطر مراحل الأزمة الاقتصاديّة، بما سيجعل من بريطانيا مختبراً استعراضياً لبعض الأفكار الاقتصاديّة المتطرّفة. كما أيقن الجميع أن بريطانيا ستكون عربة يجرّها حصانان بإتجاهين مختلفين: حصان سياسة بنك إنكترا النقديّة، الحريصة على ضبط التضخّم ولجم الكتلة النقديّة. وحصان سياسة تراس الماليّة، التي تحرص على إجراءات ماليّة انفلاشيّة تعاكس سياسة بنك إنكلترا.
الذعر يدب في الأسواق
وهكذا، دب الذعر في السوق، وخلال أيام قليلة كانت أسعار سندات الدين تتهاوى، وقيمة الجينيه الاسترليني تنخفض بسرعة. ومرّة جديدة، كانت صناديق التقاعد في خطر، بعدما انخفضت قيمة موجوداتها من السندات إلى مستويات خطرة، ما أنذر بإفلاسها وإطلاق العنان لأزمة ماليّة قد تتجاوز تداعياتها حدود السوق البريطانيّة وحدها.
وعند هذه المرحلة بالتحديد، تدخّل بنك إنكلترا لضبط الوضع، ومعالجة الفوضى التي تسببت بها تراس وخطتها، عبر شراء السندات من السوق والحد من انخفاض أسعارها. وهنا بالتحديد، كان بنك إنكترا يخسر مفعول زيادات الفوائد التي قام بها سابقًا لضبط الكتلة النقدية وامتصاصها، لكون شراء السندات أفضى عمليًّا إلى ضخ السيولة في الأسواق. باختصار، كان بنك إنكترا يعالج تبعات الكارثة التي تسببت بها تراس، إنما على حساب خسارة آثار المعالجات التي كان قام بها من قبل لاستيعاب الأزمة الاقتصاديّة القائمة أصلًا.
سقطت تراس.. لكن مع سقوطها، سقطت رهانات كبيرة، وخصوصًا في صفوف متطرّفي الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأميركيّة، من الذين وعدوا بأن يفرضوا على بايدن سياسات ماليّة مشابهة لتلك التي اعتمدتها خطّة تراس، في حال فوز الحزب الجمهوري بأغلبيّة في انتخابات الكونغرس المقبلة. وهكذا، من المتوقّع أن يعدّ هؤلاء للمئة، قبل أن يحاولوا السير بمغامرات متسرّعة من هذا النوع. كما من المتوقّع أن يكون الرأي العام في الدول الغربيّة أن قد أدرك خطورة الانجرار خلف بهلوانيّات غير مدروسة. أمّا بالنسبة للبريطانيين، فقد أثبتت تجارب السنوات الماضية خطورة الشعبويّة الخطابيّة والحماسيّة عند وضع السياسات الاقتصاديّة، وهو ما ظهر أولًا من خلال تجربة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وثانياً من خلال تجربة ليز تراس الأخيرة.
نسخ الرابط :