من يصنع الثراء؟ الفقراء. الرأسمال غول لا يشبع. الرأسمال الرحوم مفقود، بل مستحيل. إنه فيروس ولا شفاء منه، ولا علاج له. لا أحد ينجو من إصاباته.
الرأسمال عابر للقارات. يظلّل الحكومات والمجالس والمؤسسات. يتمتع بأخلاق الربح المستدام. لا حدود وأرقام يقف عندها. يمتلك حيوية وإغراءً لا مثيل لهما. لم يهزم بعد. ولا مرة تراجع. الأفكار والعقائد والأديان والأخلاق، موظفة عنده. هو مغامر اجتياحي. القارات الخمس في قبضته، ومن ينافسه أسوأ منه. الشيوعية الصينية هي رأسمالية معلنة ومبرمة. أعداء الفقراء بالملايين والبلايين. الروس عانوا من الاشتراكية وقدّموا طلب انضمام علني إلى الأسواق الرأسمالية.
والغريب أن الرأسمالية مخدومة. السياسة في الدول كافة، قديماً وحديثاً، هي في خدمة الاقتصاد الرأسمالي. البديل الإشتراكي مات بسرعة. انتقل إلى مصاف الصراعات بين قادة الرأسمالية الجدد. ولا يبدو غريباً أبداً أن تكون الشيوعية السوفياتية والرأسمالية الاجتياحية معاديتين للديموقراطية. الديموقراطيات راهناً، تنز فقراً وتهميشاً. أكثر من ملياري بشري تحت خط الفقر. لذلك، لست أظن أن أحداً، حزباً، إلهاً، قضية إنسانية، يستطيع أن يلجم الإجتياح الرأسمالي الراهن. الأفكار ذاهبة إلى حتفها. الأحلام أضغاث. التفاؤل دواء فاشل. قيل في الإنجيل: “لا تعبدوا ربين، الله والمال”. لم يسمعه أحد. الرأسمال معبود ولو كان مدمراً وقاتلاً ولا إنسانياً بالمرة. الرأسمال أقوى من الله.
إن التدمير هو قاعدة الرأسمالية المعاصرة. الجرائم العظمى هي نتاج الطموح المجنون لرأس المال. من لا يرى في الحرب الروسية الأوكرانية، الأهداف الرأسمالية المتناحرة والمتشابهة، يكون أعمى.
ما علاقة الوارد أعلاه، بالمأساة اللبنانية؟
لبنان ليس وحده المصاب بالاستدانة والانهيار. لبنان ليس السلطة الوحيدة التي تعيش على السرقة. معظم حكومات هذا العالم فاسدة. ومعظم هذه الدول، ضحية ضخ إعلامي، لا يتجرأ على فضح الصفقات المليونية والمليارية. كان الإعلام منذ نصف قرن، سلطة مخيفة وحقيقية. هذا الزمن انتهى. الإعلام صار حذاء في أرجل الغزو الرأسمالي. الحروب غذاء دسم للرأسمالية. هل تعرفون أرقام الدعم العسكري والمساندة الميدانية لأوكرانيا؟ ألمانيا، سبقت الجميع، عرضت إعادة بناء أوكرانيا بعد انتهاء الحرب. المليارات تنجب بالحروب مئات المليارات. إعادة الإعمار توظيف رابح حتماً. الرأسمال يربح إذا دمّر، وإذا بنى بعد الدمار.
أيضاً ما علاقة كل هذا، بما يحصل في لبنان؟
كان لبنان، قد عرف وبنى مؤسسات للجمهورية. استفاد من الخبرة الفرنسية في تشكيل هرمية للجمهورية لإدارة شؤون البلاد. بدأت عجلة الحكم تسير. ومع تولي عبد الحميد كرامي رئاسة الحكومة (وقد منع أفراد عائلته ومن يعرفونه من زيارته في رئاسة الوزارة)، اكتشف الرجل أن لبنان ليس على ما يرام. غارق بالفساد والإفساد. استعجل بت الموضوع مع الرئيس بشارة الخوري. قال: “هذه ليست دولة، بل مزرعة. أدعوك إلى حل هذه الهيكلية، وبناء دولة من الأساس”. رفض رئيس الجمهورية. لم يحتمل كرامي أن يبقى شاهداً على فساد فاستقال. وكأن شيئاً لم يكن. تنامى الفساد وانتشر. كما ازداد عدد الفقراء فقراً، والمسحوقين سحقاً.
تعتبر القوى السياسية، الحزبية والدينية والطائفية والليبرالية واللاديموقراطية، أن مؤسسات الدولة وماليتها، وُجدت لخدمتها. ولا حاجة لهذه المؤسسات إلا لتكون أداة إثراء، وأداة إنفاق على الأتباع. كان لا بد من قطاع عام وخدمات، ليشكل هذا القطاع، منجماً مالياً لا أكثر، ومركز استتباع لمن لا حيلة في يدهم.
قليل من التذكر. انتهت “حرب المجانين” في لبنان، وذلك بعد خمسة عشر عاماً من الاقتتال الفاشل جداً والفتّاك كثيراً. وبعد الاستعانة بالعدو القريب والصديق الخطير، نجحت الحريرية، في إعادة الإعمار والإنماء، بكلفة لا عد لأرقامها. أهملت الزراعة والصناعة، وسادت سياسة صامتة وفعالة لمصلحة القطاع الخاص على حساب القطاع العام. أي تدمير الدولة العتيقة، وإنشاء دولة الكومبرادور والمصارف. الدولة فاشلة ومشلولة. صار الحاكم في خدمة الرأسمال. ثم زرع رؤوساً تابعة للرأسمال المالي والطائفي، في معظم مؤسسات الدولة.
وهكذا كان.
لنتذكر جيداً: كان للبنان كهرباء قبل الحرب. بعدها، تناوب الوزراء، على هذه الوزارة، وكانت الكارثة. لأن الهدف لم يكن إصلاح الكهرباء. الخصخصة هي الهدف. وبانت معالم هذه السياسة، عندما أقيل وزير الطاقة جورج فرام من منصبه، لأنه كان يخطط لإعادة تأهيل وتنظيم القطاع برمته. “زعبوه”. “طردوه”. “أماتوه قهراً”، وعيّنوا بديلاً عنه. أولهم زعيم ميليشيا الحرب إيلي حبيقة، أعقبه وزراء، ووزراء وانتهوا إلى رفع شعار “24 على 24 ساعة”. وسادت العتمة.
هل كان ذلك صدفة؟ أبداً. إنها سياسة تدمير القطاع العام لصالح عصابات المولدات المحمية والمدعومة، من رجال المال والحكم والأعمال. غير معقول أبداً، أن تستمر أزمة الكهرباء، ما يقارب ربع القرن، وتفشل، وتنهك، وتدمر… كل ذلك لمصلحة مافيات البدائل المتشاركة والمحمية.
لنتذكر أكثر: كان لبنان ينعم بسكة حديد. خرّبوها. قتلوها. كان ينعم بنقل مشترك. دمّروه، وجيّروا النقل لشركات خاصة. لم يعد عند لبنان بوسطة واحدة للنقل. وكانت للبنان صناعات كثيرة، صغيرة ومتوسطة. أقفلت، وفتحت الأسواق للبضائع الاجنبية. من يستطيع أن يعد لنا مؤسسات الإنتاج اللبنانية. حتى المواد الغذائية الجافة، تنافسها المنتوجات الغربية. وكان لدى لبنان، شاطئ يحاذي البحر. أيضاً، تمت مصادرته وإهداءه للأتباع. وكان للبنان معمل للسكر في البقاع من الشمندر السكري. أغلقوه. صرنا نعتمد على سكر أجنبي، وبأسعار فالتة.
كان عندنا جامعة لبنانية ناجحة. خرّجت أجيالاً من الاختصاصيين. وضعت المنظومة يدها عليها. دمرتها، خرّبتها. سوّتها أرضاً. جعلوها تابعة غير متبوعة. يتصدّر مهرجاناتها المصطنعة، رجال السلطة أو نساؤهم. ثم تشظت الجامعة. فلكل طائفة كلية أو كليات. عار هذا البلد. العلم يعد فيه سلعة أو خرقة، بعدما كان وريث الأبجدية.
كل ذلك يحصل، في حمى ترخيص جامعات خاصة مصابة بفقر معرفي. دكاكين فقط. شهادات يبصم عليها. يا للعار!
وكانت المدارس الرسمية، في طليعة المنافسين للمدارس الخاصة المدعومة. أجيال ذلك الزمن، صاروا أعلاماً. أين نحن اليوم، من ذلك الزمن الذي كانت فيه الثقافة، في مرتبة الفكر والعقل، وليس في خدمة الحزب والحركة والتنظيم والطائفة والأزلام.
وكان للبنان، نقابات فاعلة، تنتخب من قبل المنتظمين في قطاعاتهم. بعد المعانقة الخانقة التي تمت، بين المقاتلين، فُرّخت نقابات، يتمثل فيها أزلام السلطة والطوائف.. النقابات المستقلة ممنوعة. اخرسوا، للسلطة أيضاً نقابات صاحبة الأمر والنهي.
وكان للبنان، محطة تلفزيون مزقتها الحرب قبل أن تُفرّخ الوقائع اللبنانية بضع تلفزيونات. ثم تفتقت عبقرية الرأسمال الطائفي، بتوزيع الفضاء على الطوائف. للشيعة تلفزيونان. للموارنة إثنان، للسنة تلفزيون. وكلها مموّلة من الخارج، وتنطق سياسياً بنبرة خليجية أو فرنكوفونية أو أميركونوفية، أو.
تلفزيون لبنان، الذي كان، لم يعد. إنه عبء. يجرجر قدميه. لقد قتلوه، كما قتلوا “مشغرة وأخواتها”، لمصلحة الفراغ. الفراغ. ثم الفراغ.
وكان للبنان مستشفيات. قررت الدولة أن تساهم في الاستشفاء. فبنت مشافٍ بلا شفاء. معظم المستشفيات الحكومية بائسة. بدل أن تكون الأولى، كما هي الحال في دول العالم. الخاص عندنا أولاً. العام يأتي أخيراً. ويحدثونك عن المعجزة اللبنانية الرائدة. ها هو لبنان. يجثو على جبينه، وعلى الأرض يا حكم، فيما حكامه، كلهم، يعني كلهم، يعيشون حروبهم الإقليمية والدولية، فوق أرض رخوة ومتشققة. هذا مع أميركا، وذاك مع فرنسا، وأولئك مع السعودية، أو مع إيران.
ترى أين يقيم لبنان اليوم. إنه جغرافيا عقارية ممتازة، أما إفلاسه، فقد كان نعمة للرأسماليين وقادة السياسات فيه. المصارف مصانة، وأرصدة المواطنين، على الأرض يا حكم.
إن خصخصة كل لبنان، قد حصلت، وهذه نتائجها. والذين فازوا بهذا الميدان، هم حزمة الرأسمال وأربابه. لهذا، لم يبدِ السياسيون والرأسماليون، أي اهتمام بالناس. ولا أقول بالشعب، لأن لا شعب في لبنان. هناك قطعان فقط. حذفوا المعلف المالي، وفتحوا أبواب الزريبة الوطنية، التي تهيم على وجهها، من دون أن تعرف بعد اليوم، ثمن الرغيف، ثمن الدواء، وثمن الموت. نعم الموت. الموت ليس غائباً، بل هو حاضر في حياتنا.
خلاصة القول، كما قتلت “مشغرة وأخواتها”، قتل لبنان. الخصخصة سرقة. السارقون، هم هم. تجدونهم في السلطة، والوزارات، والسفارات، والمؤسسات الحكومية، والمصارف و.. تعترف بهم الدول الكواسر.
لبنان بأسره سجين هذه الطبقة اللاطائفية التي تفتي بتخريب الكيان. لا دين قادراً على هزيمة الدين الرأسمالي في العالم. إنه دين ينذر الفقراء بالجحيم. آمين.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :